رزان غزاوي/ مجلة “رمّان”-
“تفضلي لعندنا، بالتأكيد تفضلي. فقد لذنا بالصمت طويلاً، لذنا بالصمت أربعين عاماً.”
“لم أحدّثك آنذاك لأنه كان عصراً آخر لقد ألفنا السكوت عن أشياء كثيرة.”
“لم أثق بك ثقة كاملة. في تلك الأيام، كان من المستحيل الحديث عن هذا، أو من المشين.”
“أعرف حكم الأطباء: لديّ تشخيص رهيب… أريد أن أروي الحقيقة كلها.”
بهذا الشكل من البوح، تشارك المؤرخة الشفوية والكاتبة النثرية والصحفية الاستقصائية، سيفيتلانا أليكسيفيتش، ما يزيد عن ٢٠٠ اقتباس وقصة تبوح بها نساء سوفياتيات تطوعن خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945) أو كما سمّاها الإعلام الرسمي للاتحاد السوفيتي سابقا بـ ”الحرب الوطنية الكبرى“. يؤرخ كتاب «ليس للحرب وجه أنثوي» لحكايا وتجارب وصراعات وخطابات وآراء تصفها أليكسيفيتش بـ “تاريخ الإنسان في الحرب”، في حين تصف بعض راويات هذه الصراعات بالـ “حقيقة” بعدما لذن بـ “الصمت طويلاً” لاعتبار أنه من “المشين” الإفصاح عن هذه “المشاعر والعواطف” التي تعبّر عن أراء وصراعات الحرب يما يعاكس سرديات البطولة والانتصار التي سادت آنذاك.
بدأت أليكسيفيتش العمل على جمع القصص والحكايات بين أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، أي بعد أربعين عاماً على انتهاء الحرب، حيث أجرت ما يفوق ٨٠٠ مقابلة ورواية غير تلك الحكايا التي حصلت عليها عن طريق البريد. هو الكتاب الأول من سلسلة أليكسيفيتش من الأدب النثري الوثائقي عن “حكايا اليوتوبيا” التي وثقت وجهات نظر الناس عن الاتحاد السوفيتي وحروبه بعيداً عن الخطاب الرسمي. هنا، تشارك أليكسيفيتش الصعوبة التي واجهتها لنشر الكتاب في البداية وشاركت بالمقاطع التي حذفتها رقابة دور نشر الاتحاد السوفيتي كقصص تحوي كلمات ثدي ودورة شهرية وتذكر حوادث تحرش رجال ببعض الراويات.
يجمع الكتاب مقتطفات من أحاديث ونقاشات جرت في غرف الجلوس أو المطبخ في ساعات متأخرة من الليل، مع نساء تطوعن قناصات وطيارات وجنديات وممرضات وجراحات وسائقات وغيرها من الأدوار الحربية التي خضنها النساء ضمن جيش الاتحاد السوفيتي. يوثق الكتاب لخطابات وآراء لا تعظّم بالحرب الكبرى ولا تمجد الانتصار، بل تخبرنا عن قساوة الحرب وعن عنف الإنسان ومراحل تغيرها في الحرب، عن المجاعة والتعذيب وسعادة ارتداء السروال الداخلي النسائي، عن سعادة الانتقام وتعذيب أسرى العدو، عن الخسارة ودهشة الإنسانية والجوع تخاذل القادة و”المتعاونون مع العدو” وغيرها من حكايا الحرب التي سيتعرف عليها كل من عاشها. كما يوثق الكتاب لديناميات الصمت في الحروب إزاء الخطاب الرسمي أو السائد. وهنا تضم أليكسيفيتش ردود أفعال البعض على الكتاب أثناء رحلاتها عبر البلاد لإجراء المقابلات على تكلفتها الخاصة، فتقتبس وتروي هي أيضاً قصصاً عن التخوين والاستهزاء بقصص “غير سوفيتية” و”نسائية.”
تستهل أليكسيفيتش النص بتحديد موقعها كمؤرخة ”الإنسان في الحرب“. وتعرض منهجيتها في نقل بعض الروايات من غيرها، كما تناقش بشكل سردي رحلتها حول البلاد أثناء إجراء المقابلات والكتابة والصعوبات التي لحقتها في الميدان: ككسب الثقة والخوف والتردد والاستهزاء بـ”كتاب عن النساء في الحرب” وأنّ أفكاره “ليست سوفيتية” وكاتبها “لم تعش الحرب.” لم تشارك أليكسيفيتش تجربة عائلها في محاولة لإبعاد سلطتها عن النص كمؤلفة الكتاب وتعلق: ”فواحد داخله نصف صفحة، ولدى أخر صفحتان أو ثلاث، نجن معاً نخط كتاب العصر (…) كل منا يصرح بحقيقته“. غير أنّ صوت الكاتبة وتأثيره على القارئ\ة بقي حاضراً: فأحياناً تشارك أليكسيفيتش رأيها أو تأييدها للراويات أو معارضتها للبعض.
تعي أليكسيفيتش مشكلة الكتابة عبر الذاكرة، وتعبّر عن هذا القلق في النص بسياق كتابتها الانعكاسية للنص (reflexive) وسردها للقصص. فتصف الذاكرة بـ “التعسفية” و”المزاجية والمتقلبة” وبنفس الوقت تعي أن الذاكرة تتشكل بفعل الزمن ”الحاضر”. فتوثق أليكسيفيتش الذاكرة الجمعية لجيلها الذي ولد بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وعاصر الحرب الباردة وعاش نهاية حقبة الاتحاد السوفياتي عام ١٩٩١ بعد ثورات الخريف في شرق أوروبا عام ١٩٨٩.
شكّل فوز الكتاب بجائزة نوبل عام ٢٠١٥ عن فئة الأدب النثري غير الخيالي أو غير الروائي (nonfiction) صدمة للناشرين\ات في العالم، حيث لم يقرأ للكاتبة حينها سوى بالروسية. ولم تترجم كتب أليكسيفيتش إلى ٢٦ لغة إلا بعد هذا الفوز بعد أن نفدت طبعات كتبها منذ زمن.
تنحدر أليكسيفيتش من أم أوكرانية وأب بيلاروسي. ولدت في أوكرانيا عام ١٩٤٨ وعاشت فيما بعد في بيلاروسيا حيث عملت كمعلمة أولاً وبعد ذلك كصحفية. تفرغت بعد ذلك لكتابة التاريخ الشفوي لجيلها. يذكر أن أكثر من مليوني بيلاروسي وهو ما يوازي ٢٠ في المئة من عدد سكانها، قد قتل في الحرب العالمية الثانية. وهي أعلى نسبة قتلى في صفوف جيش الاتحاد السوفيتي تليها بولاندا وأوكرانيا.