ضفة ثالثة- في آخر سوق الذهب بمدينة اللاذقية القديمة ثمة بناء قديم أيضًا، تقع على زاويته سينما الأهرام المغلقة منذ عام 2005. صعدنا إلى الطابق الأخير برفقة الشاعرة السورية سارة حبيب، حيث تسكن الفنانة التشكيلية ليلى نصير. وبرغم وضعها الصحي السيئ استقبلتنا بحفاوة كطفلة في مرسمها الذي هو منزلها أيضًا.
في مرسمها تتوزع الكتب واللوحات هنا وهناك. وفي كل لحظة تتذكر شيئًا فتجلبه لتريني إياه. ثمة تحف قديمة مفروشة على إحدى الطاولات. الكتب التي تناولت سيرتها وأعمالها. في مرسمها، يتسلل الضوء من النافذة ليضفي على تقاسيم وجهها جمالية جغرافيا مدينتها. إنها متهالكة قليلًا. ولأنها في وضع كهذا، كان كافيًا أن تحدثنا عن بعض ذكرياتها، حيث كانت ترى الأطفال وتتعاطف معهم ولا تنسى أبدًا، كما تقول، “منظر الحفاة”.
ومن طفولتها أيضا تذكرت بدوي الجبل الذي كان يأتي لزيارتهم ويلعب “الداما” مع والدها القائمقام في تلك الفترة. في صباها كانت تذهب إلى المقهى الذي يعج بالرجال حاملة أوراقها وترسم شخوص المكان. وهذا ما كان مستغربا آنذاك. ولم تنسَ، وهي صاحبة تجربة في الكتابة، أن تلقي علينا بعضًا من قصائدها. سألتها عن مشروع تخرجها في القاهرة، فقالت إنه عن البلهاء، وماذا عن الحرب الأهلية اللبنانية؟ فأجابت: نعم ذهبت، وكنت أرسم في الخنادق وعشت مع المقاتلين، وذهبت إلى النبطية وأرنون التي كانت خالية إلا من مقاتلين سوريين ولبنانيين وفلسطينيين.
ليلى نصير التشكيلية
ولدت ليلى نصير عام 1940 لعائلة مهتمة بالأدب والثقافة، وفي الستينيات ذهبت إلى مصر لدراسة الفن وتخرجت من كلية الفنون في القاهرة عام 1963. تَشكّل هناك عالمها البصري من خلال زياراتها للمتاحف وتعرفها إلى الفن المصري القديم متأثرة بالتكوينات ورسم الشخصيات. ففي مصر عانقت تلك الفنون وتشرّبتها، كما تأثرت بأستاذها محمود مختار، وتعتبره قامة فريدة مزج تجربته الفنية بروح التراث الفني المصري القديم.
لقد شكلت عالمها الفني، وهي ابنة اللاذقية وحضارة أوغاريت، بين الفن المصري والسوري القديم الذي يعود لآلاف السنين قبل الميلاد وقد لجأ النحاتون السوريون القدماء إلى نحت الشخصيات في وضعية الوقوف، ووضع اليدين فوق بعضهما البعض وإلى التركيز على العيون وإحاطتها بالأسود وهي حالة تعبر عن لحظات التأمل والصلاة. هذا الشيء نجده لدى الفنانة نصير، فأغلب أعمالها يحمل ذلك التركيز على العيون التي أعطت فيها إيحاءات تعبيرية مختلفة موشحة بالحزن العميق الغائر منذ آلاف السنين. وقد اشتغلت على التحوير وإعادة تشكيل الجسد وفق حالات تعبيرية مختلفة، حيث لجأ النحت السوري إلى تركيب العناصر الحيوانية مع الإنسانية، وهو نوع من التوحد أو التماثل مع الطبيعة. وقد أعادت هي هذا التركيب بأسلوبها، كأن ترسم للإنسان أجنحة أو تضع رأس إنسان على جسد حيوان، في توليفة في التكوين وتلوين عميق للشكل، وتحيط اللوحة أحيانًا بقطع صغيرة مرسوم عليها عناصر حيوانية وإنسانية وكأنها تمثيل لأختام أسطوانية.
“ثلاث نساء”
في الوجوه تبسط وتبرز دور الخط الرصين وتلعب به لينحو نحو الهندسية أحيانًا. في أعمالها ثمة إحساس غرافيكي ملون يتقطع فيه الخط ويتداخل الفراغ مع الكتلة. وهي بالأصل اشتغلت على استخدامات لونية وتقنية مختلفة مزجت فيها خامات عدة، فإحساس الباستيل الزيتي واضح في العديد من أعمالها، ومع خامة الأكريليك تتوضح المساحة اللونية أكثر في لوحاتها التي نفذتها مطلع التسعينيات حيث أكدت على موضوع الأمومة، فنراها ترسم المرأة الحامل حيث تصطف الشخوص أمام بطنها بحيرة غريبة. في هذه المرحلة تستمر ببناء التركيب والتقطيعات الهندسية وتقوم بمعالجة لونية متناغمة موسيقيًا وأقرب للقصيدة حيث الكتلة من خلال اللون والخط تشكل ارتكازا وحاملا لها. في هذا الجو تستمر ليلى نصير حتى مطلع الألفية الثالثة بمجموعة من الأعمال المدهشة جمعت بالعمل تناقضات لونية، صنعتها بشفافية وروحانية كما في عملها “ثلاث نساء”.
نتلمّس ونسمع ونرى الموسيقى هنا في الحركة واللون والكتلة، وفي تلك الحيرة الميتافيزيقية للعيون. إن التركيز على المرأة، والمرأة الحامل، وعلى الأطفال، والمحرومين، وبائعي الجرائد، والبلهاء وغيرهم ربما ناتج عن فقدانها للأمومة والأطفال، ولم تستطع تكوين أسرة رغم إحساسها الطاغي بالأمومة، كما تقول. ومع أنها لا تنتمي تشكيليًا إلى مدرسة واحدة، إذ عمدت إلى التجريب، لكنها جمعت التعبيرية بجمل سريالية لتكون عينًا تشرب ما حولها وتعيد إنتاجه على مراحل من خلال تجولها الدائم في الحارات الشعبية واصطيادها المبدع لمشاهد حياتية تتحول خلال أيام إلى عمل فني يضج بالمشاعر التي تشعرك وكأنك كنت المرافق لها في بصيرة مرت أمامها، وكل لونٍ اختارته لموضوعاتها التي شكلت بصمة مشرقة في مسيرة الحركة التشكيلية السورية.
في جانب آخر من تجربتها تلك، التي نفذتها بقلم الرصاص، كانت متماسكة أكاديميًا في حركة الخط وانسيابيته، وقد نفذت أغلبها بواقعية وبخط دقيق يوحي بالكتلة.
إن ليلى نصير فنانة التجربة، كما يقال عنها، ابتكرت تقنياتها في العمل ومشروعها البصري بتفرّد عن غيرها، كما كانت لها تجارب في القصة والشعر. وهي تعد من بين عشرين امرأة سورية ساهمن ببناء الثقافة السورية كما جاء في كتاب “نساء سورية”.
طوبى لامرأةٍ أبدعت خلال خمسين عامًا، وهي في وضع صحي سيئ الآن، حيث القليل من الناس حولها. تعيش وحيدة في شقة صغيرة في المبنى الذي يحوي سينما الأهرام المغلقة والمهملة وهي في الطابق الأخير منه. طوبى لها مرة أخرى.
كتب عنها الشاعر السوري نزيه أبو عفش: “تجولت طويلًا بين أعمال عظماء كثيرين، فان غوغ، بيكاسو، فريدا كالو، ماتيس وآخرين كثر. لا في الرقة، ولا في العمق، ولا في الرهافة، ولا الصدق ولا في فداحة الألم وتواضع البوح فيه ….، لم أعثر على من هو (أو هي) أنبل من الفنانة السورية الغائبة أو المغيبة ليلى نصير.. أيها الأصحاب أرجوكم. من يرشدني إلى عنوانها؟ لا أريد لأحدنا (أنا أو هي) مغادرة الحياة قبل أن أعانقها وأقول لها: ليلى نصير العظيمة.. كم أنت جديرة بالحب والتقديس”.