ماري نوستروم.. ثلاث عشرة امرأة شجاعة
ماري نوستروم.. ثلاث عشرة امرأة شجاعة

ميكروسيريا- على أسطوانةٍ من واقعٍ وحقيقةٍ، فضيِّةٍ أو ذهبيةٍ، لامعةٍ أو يكسوها الرمل، مؤلمةٍ أو مبللةٍ بموتٍ مالحٍ، تقدِّمُ المغنية الإيطالية فرانشيسكا بريستيا (Francesca Prestia)، ثلاث عشرة قصة حول نساء ومهاجراتٍ تضرَّجت صورُ وجوههن بمياه البحر الأبيض المتوسط، أو ماري نوستروم، كما كان يسميه أجدادها الرومان القدماء، وتستعير المغنية هذا الاسم عنوانًا لعملها وإحدى أغانيه. موسيقى الثقافة، هو نهج فرانشيسكا الفني الذي عُرفت به، وانتشر صوتها حاملًا همومه. هي التي تطلب من أقرانها، في بلدها أو أي بلد أوروبي، ألا يبقوا أسرى نظرتهم الناقصة للمهاجرين/ المهاجرات اللواتي خاطرن من أجل حياة أخرى، موجودة هناك، خلف البحر، لأطفالهن.

ربما تكون عملية ماري نوستروم (Mare Nostrum) التي نفذتها البحرية الإيطالية لإنقاذ المهاجرين المعرضين للغرق في عرض البحر، وهم في طريقهم إلى الشواطئ الإيطالية، هي التي أوْحَت للمغنية باسم الألبوم الموسيقي الطافح بالماء الذي رأى النور نهاية السنة الماضية. لكن، لا شك أن فرانشيسكا كانت تنام وتستفيق على أخبار المهاجرين الذين كانت تبتلعهم مياهه؛ فتتألم للبحر الذي كان مرة مهدًا للحضارات الأولى والأساطير والأديان والفلسفة، وكان مسرحًا للأمل، ثم صار رمزًا لموت المعذبين الفارِّين من الموت. كانت ضربات موجه على الشاطئ تسفر عن جثثٍ هرْوَل أصحابها في الصحاري حتى وصلوه. وعلى حافة البحر انتظروا، حتى يأتي القارب ويأخذهم إلى موت آخر أو إلى أرضٍ أخرى، لا يهرول فيها المرء هروبًا من فقرٍ أو اغتيال، كما كان في أرضه الأم. لستَ بحاجة كبيرة كي تشعر بتسجيل فرانشيسكا هذه الهرولات في أغانيها، حيث تسمع لهاث المهاجرين تحت شمس الصحاري، وتستطيع أن تميِّز صيحاتهم وهم يركضون، هربًا من بوليسٍ ما، في دولةٍ ما، على طريق الهجرة الطويل والمحمَّلِ بغموضِ المصائر.

وما إن تقع عيناك على العمل، حتى تفترض من الخط “الأوتروسكاني” المستخدم في كتابة العنوان، أن الموسيقى ستكون مختلفةً، وكذا القصص، وتظن أنه سيحكي عن الحضارة الأتروسكانية التي تركزت في منطقة توسكانا الإيطالية وحولها، وشغلت هذا البحر قرونًا ثم ذَوَت، إلى أن احتوتها الحضارة الرومانية في القرن الخامس قبل الميلاد. لكن، من جهة أخرى، ربما هذه إشارة إلى أن المغنية استوحت بعض أجواء العمل الموسيقية من التاريخ، وهو ما يظهر واضحًا في العمل. إضافة إلى ذلك، يأتيك وجه الشاعرة نوسِّيدي (Nosside)، أو نصف وجهها، على شكل قناعٍ، ليعزز هذا الافتراض. ولكن لماذا نوسِّيدي؟ هذه الشاعرة التي عاشت في الفترة بين القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، في منطقة كالابريا الإيطالية على ساحل البحر الأيوني، كما المغنية بريستيا، والمخصص باسمها جائزة نوسِّيدي للشعر العالمي، ربما وجدت فيها المغنية إلهامًا نتيجة المنشأ المشترك والهم المشترك بقضايا المرأة. فحيث إن شعر الأولى أغنيةٌ للحياة، ووسيلتها لإبراز أنوثة المرأة وجمالها وحلاوة الحب والمساواة بين الجنسين في مجتمع مدينتها، معروف عن الثانية إيلاؤها سعي المرأة لصياغة عصرٍ وحياةٍ تقل فيهما الحروب والانتهاكات بحق المرأة، كل الاهتمام، أو حتى مجمل نشاط حياتها.

تحضُر شجاعة النساء في الأغنيات الثلاث عشرة التي يتضمنها العمل، كما أنهن يظهرن في الإصدار المصور للأغنية الأساسية، ماري نوستروم. ومن الزّي الذي يرتدين، تعرف أنهن آتيات من الدول العربية، ربما بينهنَّ نساء من المغرب أو الجزائر أو مصر، ولكن حتمًا بينهن نساء من سورية والعراق اللتين خرجت منهما أخيرًا، موجات هجرة لم يعرف التاريخ البشري المعاصر مثيلًا لها. وقد وصلن، ربما إلى شاطئ جزيرة لامبيدوسا الإيطالية التي طالما كانت المقصد الأساس لرحلات المهاجرين البحرية المتواصلة، لكونها النقطة الأقرب إلى مكان الانطلاق، سواء من ليبيا أو تونس.

كتبت فرانشيسكا جميع نصوص الأغنيات إلا نصًّا واحدًا كتبه الشاعر فرانكو كورابي. كما وضعت، وهي الموسيقية التي تجيد العزف على عدة آلات موسيقية، منها ما هو تراثي قديم، جميعَ الألحان إلا لحنًا واحدًا وضعه الموسيقي ألفونسو مونتنييسي. وفي التعريف عن العمل يشار إلى أنه قصص مروية، حيث، بلهجة كالابريا القريبة من اليونانية، تحكي لنا قصة ليا غاروفالو التي أوفت بقسطها، مع نساء أخريات، في المساعدة على مكافحة عصبات المافيا، بالإرشاد إلى بعض أعضائها؛ فقتلها شريكها السابق وأخوه، سنة 2009 في مدينة ميلانو. وقصة امرأة إثيوبية، اسمها نجاة، تنحدر من أب إثيوبي وأم إريتيرية، أرادت إعادة بناء حياتها بالمغامرة بعبور البحر ونجحت بالوصول إلى شاطئ كالابريا. وعن أمهات وحيدات يعبرن البحر ويكافحن لتحقيق مستقبل أفضل لأبنائهن على الضفة الأخرى من المتوسط. علاوة على قصص النساء المُعَنَّفات المعرضات للاضطهاد اللواتي لا يسكتن عن الحيف الذي يلحقهن، ويروين قصصهن أملًا باقتداء نساء أخريات مَثَلَهُن.

بهذا العمل، تضرب فرانشيسكا عدة عصافير بحجرٍ واحدٍ، فهي تقدّم موسيقى جميلة، تبرز خلالها آلات موسيقية مهجورة. وتحكي قصصًا عبر سردٍ موسيقيٍّ أخّاذ، يفرح مع الفرحات ويدعو للرقص مع المتمردات الرافضات قيودًا، ويجعلنا نفتح عيوننا ونحزن بتفجعه على الأرواح التي قضى أصحابها في الطريق الذي حوَّل البحر المتوسط من بحرٍ للأمل إلى بحر ألمٍ وتحدٍّ.

ماري نوستروم.. ثلاث عشرة امرأة شجاعة

ماري نوستروم.. ثلاث عشرة امرأة شجاعة

أترك تعليق

المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015