“ماما” العالم
قلعة "وينسبيرغ" الألمانية قلعة "النساء الوفيات"

كوليت بهنا\ alhurra- قبل خمسة أعوام، استوقفتني صورة عابرة نشرت على أحد مواقع الإلكترونية تظهر موقعاً أثرياً وعدداً من النساء اللواتي ارتدين أزياء فولكلورية وهنّ يحملن رجالاً فوق ظهورهن مثل أكياس الطحين.

في البحث عن معلومات توضح ماهية هذه الصورة، تبين أنها مشهد تمثيلي يعاد استحضاره في سبيل تخليد ذكرى حادثة تاريخية سُجّلت في ألمانيا في العام 1140 حين احتل الملك “كونراد” قلعة “وينسبيرغ” الألمانية في ولاية “راينلاند” وأمر النساء فقط بالرحيل وحمل ما يمكنهنّ حمله. فقامت النساء بحمل رجالهِنّ فوق أكتافهِنّ والخروج، وحين حاول رجال الملك منعهنّ قائلين إن ذلك لم يكن متفق عليه، جاءت أوامر الملك بالسماح لهنّ بعد أن ضحك وأعرب عن إعجابه بذكاء حيلتهنّ وقال إن على الملك أن يلتزم بكلمته، وأُطلِق على القلعة فيما بعد قلعة “النساء الوفيات”، ومازالت موجودةً تحمل الاسم ذاته حتى اليوم.

قفزت إلى ذاكرتي هذه الصورة وأنا أتابع الصورة الحيّة والمُدهِشة لنساءٍ لبنانيات شكّلن درعاً بشرياً نسائياً في بدايات الحراك اللبناني الجاري، ووقفن في الوسط ما بين رجال الدرك والقوى الأمنية اللبنانية والمتظاهرين من الشبان، وشكّلن سدّاً لحماية هؤلاء المتظاهرين من الاعتقال.

تتكرر الصورة بتجلياتها المختلفة في تظاهرات العراق الحالية، وقبلها في السودان وتونس وليبيا واليمن وسوريا وإيران وتركيا وفرنسا، وفي كلّ مكانٍ تخرج فيه تظاهرات بداية الألفية الثالثة الواعدة.

هناك دوماً نساء مدهشات من جميع الأطياف والانتماءات يتصدّرن المشهد ويقفن في الصفوف الأمامية لحراك الشعوب، تجمّعن من حواضر المدن أو من الأرياف، تنتمي بعضهن كناشطاتٍ إلى منظمات مدنية نسوية، فيما الأغلبية طالبات أو عاملات أو ربّات منزل، تجمعهنّ مطالبٌ سقفها سياسي والآخر مدني وحقوقي، لكن المطلب الذي يبدو مشتركاً كوعي كامن أو ظاهر ويوحدهنّ جميعاً، ليست المساواة في جميع مناحي الحياة فقط، بل حماية أنوثتهِنّ عبر حماية ذكورهنّ، فكيف تستوي الاحتجاجات النسوية المعروفة تاريخياً ضد المنظومة الذكورية وفي الوقت عينه هنّ من يحمين هذه الذكورة بأنفسهنّ؟

إن ما أقدمت عليه نساء ألمانيا ـ البدائيات وغير المتعلّمات ـ قبل قرابة الألف عام تقريباً من سلوكٍ عفوي بحمل رجالهنّ دون تردّد، ومن ثم سلوك جميع حفيداتهنّ آنفات الذكر في هذا العصر، إنما يعكس ويؤكّد الفطرة الأنثوية العظيمة التي تعادل الحياة وتحمي معانيها عبر استمرار النسل ومفهوم العائلة والنضال بكافة الأشكال لأجل حمايتهما. وتنفي هذه الخطوات عن الفئة النسوية العريضة والناشطة في منظمات المجتمع المدني عبر العالم تلك النظرة الاستخفافية و”المسفّهة” التي تسخر من نضالهنّ وتتهمهنّ بأنهنّ “مسترجلات “و”معقّدات نفسياً” و” كارهات للرجال”، إذ ثبت أن أكثر النساء اللاتي يناضلن في هذا المجال في العالم هنّ نساءٌ مستقراتٌ عاطفياً، تدعمهن أسرهنّ المؤمنة بالنسوية والنضال لأجل المساواة في الحقوق والحريّات والواجبات.

ثورات قرع” الطناجر” التي ابتدأت قبل سنوات في بعض دول أميركا اللاتينية، وانتقلت عدواها إلى عددٍ من دول العالم وتلقّفها لبنان قبل أيام ضمن أحد أشكال التعبير عن الاحتجاج والغضب، تعني فيما تعنيه تسخير أحد أدوات المطبخ وأعماله المُناطة تقليدياً بالنساء، واستعمالها كواحدةٍ من أعمق رموز الاحتجاج الأنثوية العميقة التي تعبّر عن وظيفة حماية الأسرة ومهمة إطعامها، وهي مهمة فطرية تتغلغل بدورها في لاوعي المرأة التي تواجه معاني وألف باء معجزة الأمومة العظيمة حال إرضاع صغارها، وتلهث منذ تشكّل حملها بجنين أن تتحمل مسؤولية تأمين وحماية هذا القوت عبر رحمها ومن ثم حليبها، دون أن تتوقف مهمة “ماما” كمورّد حنون ودائم للغذاء حتى نهاية عمرها.

النساء اللواتي تقع عليهن أهوال الحروب وأعمال العنف المجتمعي وآثارهما القريبة والبعيدة، اللاتي يفقدن رجالهن بكافة أشكال الفقد نتيجة لهذه الأسباب، النساء اللواتي يُجبَرن على ممارسة أعمالٍ تقسو على رقّتهِن بسبب عطالة الرجال أو ندرتهنّ، النساء الباكيات اللاتي يضطررن لوداع أزواجهن وأبنائهن من أجل الدراسة في الخارج واحتمال اللاعودة، كل هؤلاء يقفن في المشهد الثائر اليوم أو في عمقه المستتر، وقد أدركن أنوثتهن ومعانيها السامية، لا يسعين إلى حياة ذات جانب أحادي يكن وحيداتٍ فيها، إنما يدركن جيداً أن حياتهن دون معنى إن لم يحملن نصفهن الآخر فوق أكتافهن، ويواجهن النصف الآخر هذا بذاته، ويخضن نضالهن معه، وهنن مسلحات بحبّه والحرص على بقائه وإبقائه.

أحد المطالب الرئيسة التي تسعى إليها الناشطات النسويات في العالم بأسره، هو النضال لدعم المرأة في مراكز القيادة وصنع القرار، وقد أثبتت العديد من النساء الرائدات وسياسيات العالم ليس مجرد نجاحهن وكفاءاتهن في فن القيادة، إنما تحويل القيادة إلى فن أمومي يعنى بالعالم ويرعى نساءه ورجاله وأطفاله وحدائقه في آن واحد.

طوبى لنساء العالم الوفيات، العفويات، والحالمات والثائرات والقياديات والمناضلات صانعات الحياة والسلام، بـ “طناجرهن” وزينتهن وذكائهن وحنانهن وأرحامهن دروعهن البشرية. هنّ لا يهادنّ، ولا يتوقفن أبداً عن أداء دور “ماما العالم” ويُعدْنَ كلّ حين ترتيب البيت الكبير واستقراره ما أمكن.

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”. 

قلعة "وينسبيرغ" الألمانية قلعة "النساء الوفيات"

قلعة “وينسبيرغ” الألمانية قلعة “النساء الوفيات”

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015