نون العربية- كما وضحت عدة مقالات مؤخراً بشكل متقن أنه بمجرد ما أن تحاول النسويات التحدث عن قضية التحرّش الجنسي سواء بخصوص النداءات وعبارات الغزل (Cat calling) أو النظرات غير المريحة و التي تتعرض لها النساء بشكل شائع سواءً أثناء انشغالهن بتدبير أمورهن الخاصة في الشارع أو تعرضهن للتحرّش الجنسي التقليدي في أماكن العمل. فمن المحتم اعتراض طرحهن بالحجة التالية مفترضين أنها ستنهي النقاش: “أليس الكثير مما تحاولن محاربته هو مجرد مغازلة غير مؤذية؟ ما مشكلتكن مع أشخاص يقومون بمغازلتكن؟”
قوة هذه الحجة تكمن في عدم وجود امرأة تريد الظهور كما لو كانت كبيرة بالسن وعاجزة جنسياً أو متصنعة للحياء مقابل رجال جذابين يعاملونها بلطف وطيبة و يقدمون لها الغزل بنيّة حسنة.
جميعنا نسعد عندما يتم التغزل بنا، أقلها أحياناً! ولكن حين نقول بأنه لا يتوجب على الرجال التقدم لامرأة يجدونها جذابة، ألسنا كمن نطالب بأنه لابد من منع المغازلة!
باعتقادي هذا الرد خادع؛ لأن المغازلة وبشكل جليّ ليس لها أي علاقة بالتحرّشات التي تحدث في أماكن العمل و الشارع، ويعود ذلك لكون التحرّش لا يُعدّ – تصنيفياً – شكلاً من أشكال المغازلة أو حتى مغازلة تمت بنيّة طيبة لكنها أخذت مجرىً خاطيء، وجميعنا ندرك هذا الأمر!
هناك اختلاف مهم بين أن تتم مغازلتك حتى في حال كان غير مرحباً بالمغازلة أو أن تحدث بطريقه غير ناضجة، وبين التعرّض للتحرّش. وكلاً من الفاعل والمفعول به يدركان هذا الفرق. الجميع قادر على تمييز المغازلة عندما نكون في موقع المتلقي وكلنا نعلم ماهو التحرّش في حال تعرضنا له والجميع قادر على معرفة الفرق بين الفعلين.
الصفة الأساسية المتعلقة بالمغازلة والتي تجعلها بالفعل مغازلة تكمن في امتلاك الشخص الذي يُقدِم عليها إحساس عالي تجاه رغبات و دوافع الشخص الذي يقوم بمغازلته. المغازلة هي عبارة عن عملية إرسال إشارات بعناية و رقة و إيحاءات (micro behaviors) للشخص المنجذَب إليه: كتواصل عينين مطول قليلاً، أو لمسة سريعة على الذراع، أو ضحكة مبالغ فيها على نكتة ليست بالفعل مضحكة.
قطعاً المغازلة تشمل أيضاً وعي عالي تجاه الإيحاءات التي يُظهرها الطرف الآخر ومحاولة ترجمة هذه الإشارات الصادرة عنه لمعرفة إن كان الإنجذاب مرحب به أم لا. فتكون الخطوة التالية هي أسئلة مثل: هل يستمر بالتواصل البصري أم عليه أن يشيح بنظره بعيداً؟ هل تجاوبَت معه بالمثل عندما لاطفها بلمسة سريعة على ذراعها أم قامت بالابتعاد بعض الشيء في إشارة منها له بالتوقف عن لمسها؟
بالتأكيد من الممكن لكل ذلك أن يتم بشكل سيء و قد يؤدي للسخرية و الإحراج و عواقبه قد تكون مؤلمة، فبعض المتغزلين سيئيين جداً في قراءة لغة جسد الآخر مما يجعلهم يقومون بأخطاء فادحة تؤدي لشعور الآخر بعدم الراحة وغرابة الموقف. وهذا أمر مؤسف وكم سيكون من الأفضل لنا جميعاً لو كانت المغازلة غير المتقنة معدومة – ولكن على الرغم من ذلك – نستطيع جميعاً أن ندرك بأن الأذى المترتب على هذا السلوك ليس كبيراً وأقصى ماقد يسببه تحسس بسيط أو حرج اجتماعي.
عندما يتقدّم أحدهم لمغازلتنا رغم محاولتنا توضيح أن المغازلة غير مرحب بها، نشعر بالإحراج وغرابة الموقف ولكننا بالعادة لا نشعر بالتهديد أو الترهيب.
التحرّش مختلف، وغالباً مايعود ذلك لنوايا المتحرِّش – والذي بخلاف المتغزِّل – ليس حساساً تجاه رغبات ودوافع الشخص الذي يتحرّش به. المتحرّش عادةً لا يملك الحساسية تجاه كل ذلك لأنه ببساطة غير مهتم بمن يتحرش بهم. هو شخص سيستمر بالمضي قُدماً في مساعيه الجنسية (sexual advances) متجاهلاً حقيقة أن تصرفاته غير مرحب بها من قبل الطرف الآخر. لقد كتبت في مدونتي عن تجربة تعرضي للتحرّش خلال أحد المؤتمرات التي حضرتها. قد يعلّق بعض القراء ببساطة كالتالي: “ألا يعتبر ذلك مغازلةً غير مؤذية”؟
ولكن كوني المُتعرّضة لهذا السلوك أستطيع القول بكل تأكيد أن ذلك لم يكن مغازلة. لقد كان تحرّشاً لهذا السبب: المتحرّش كان غير مكترث ومتغافل عن انزعاجي الواضح جداً. لو كان بالفعل يغازلني لحاول أقلّها قراءة لغة جسدي والتي كانت تبعث له إشارات واضحة و عالية: “أبقِ يداك بعيدةً عني”!
كانت تلك الإشارات واضحة وعالية لدرجة أنه تم إنقاذي من ذلك الموقف عن طريق اثنين من الأصدقاء ممن شهدوا انزعاجي. نعم أعلم بأنهم كانوا أصدقائي ويعرفونني جيداً ولكن مجرد ملاحظتهم للهلع و الانزعاج الذي أبديته من خلال نظراتي وسلوكي عن بعد يجعلني أعتقد أنه من المنطقي القول بأن المُتحرّش قد لاحظ ذلك أيضاً وبالتأكيد هذا ماكان سيلاحظه المُتغزّل. ولكن بالنسبة لي، ما جعل هذه التجربة مؤلمة في وقتها ومسببة للغضب لاحقاً هو مدى وضوح افتقاده لأدنى درجات الاهتمام بموقفي أو ردة فعلي تجاه ما قام به.
لم يكن مهتماً إن كان مثيراً لانزعاجي أو إن كنتُ غير مرتاحة. هو بالتأكيد لم يكن ينظر لي كانسانة على الإطلاق. لم يكن يملك أدنى اهتمام بأحاسيسي و رغباتي مهما كانت تلك الأحاسيس أو الرغبات. عندها أدركت أن ما جعل هذه التجربة ذات عمق لا انساني و تشييئي ليست الحقيقة البسيطة في كوني لا أريده أن يلمس رقبتي بل هو إدراكي لعدم اكتراثه بحقيقة كوني لا أريده أن يلمس رقبتي.
التحرّش مؤلم ومُحط للقدر والسبب تحديداً هو أن المتحرش يُظهر قدراً ضئيلاً جداً من الاهتمام لرغبات واهتمامات الشخص الذي يتحرّش به ويعامله كما لو أنه انسان ناقص (بلغة كانط) متخذاً المفعول به وسيلة لإشباع رغباته الخاصة ومتجاهلاً للطرف الآخر كنقطة نهاية تمتلك رغبات وأهداف وغايات خاصة.
وهذا مختلف عن المغازلة، لأنه حتى بحالة لم يكن المُتغزّل جيداً ما فيه الكفاية فأقلها مازال يحاول أن يُترجِم بشكل صحيح دوافع و نوايا الشخص المُتغزَّل به تجاه المغازلة. مفترضين بأنه لو كان لدى المُتغزّل أدنى فكرة عن أن مغازلته غير مرحب بها فسيشعره ذلك بالخزي وينسحب، وهذا ما لن يفعله المتحرّش لأنه ببساطة غير مهتم. التحرّش هو إنكار لشخصية الآخر وقوته المؤثرة وهذا ما يجعل منه تجربة مؤلمة و مُجرِّدة للانسانية. الأكثر من ذلك أنها قد تكون تجربة مرعبة، ففي حال أن أحدهم أظهر عدم اهتمامه واللامبالاة المطلقة تجاه إرادتك ورغبتك واستمر بالتصرف بطريقة تستغلك وتحتقرك لإشباع رغبته الخاصة؛ فتخيّل ماقد يستطيع ارتكابه أيضاً؟!
المقالة الأصلية للكاتبة لريبيكا كوبر/ كاتبة وباحثة سياسية، وقد نشرتها على مدونتها الإلكترونية في شهر نيسان 2014.