ياســمين عيّــود/ abwab- أن تكوني امرأة تعيش في الشرق الحزين.. يعني أن تتأطّري بقوالب لا تألفك لتستطيعي النجاة.. يعني أن تبتسمي زيفاً ومداراةً وأملاً كي تستطيعي إكمال هذه الحياة. حياةٌ فيها من استباحة حقوق النساء الكثير وغالباً تحت عنوان “الشرف”؛ بدءاً من ولادتها كأنثى في مجتمع يمجد ولادة الذكر ويضعها في المرتبة الثانية باعتبارها “ضلعاً قاصراً” و”عورة” و”ناقصة عقل” و”ملكية خاصة” للرجل يفعل بها ما يشاء ويقرر مصيرها كما يريد، في ظل حكم مستبد يصمت عن التجاوزات في حقها، يوظف الدين ليزيد من هيمنته، ويتغاضى عن أحكامٍ هجينة تتناسب مع سلسلة القهر والتخلف والتجهيل التي يسعى عبرها للسيطرة والتحكم بعيد الأمد.
أن تكوني امرأةً في هذا الشرق.. يعني أن تكوني حكيمةً شديدة الفطنة لتستمري في الحياة
النجاة من سجن التابوهات “الممنوع والعيب والحرام” الذي قولبته وشرعنته قوانين وضعية عرفية، إضافةً لقوانين مستمدة من الدين وأخرى مستوردة كرستها سلطة أبوية صارمة للتحكم بمصائر النساء، بعد أن فقد الذكر في شرقنا أدوات سطوته على يد المستعمر ثم الأنظمة الاستبدادية التي فرغته أيضاً من كل ما يملك؛ أرضه، حريته وصولاً لكرامته فلم يتبق له سوى السطوة على نسائه عبر تملكهن بدافع الحماية والشرف، لكنه لم يصل لذلك وحده بل عبر خلق أجيالٍ من النساء الخاضعات اللواتي صرن يحمِلن سطوةً ذكورية متزمتة أكثر من الرجل نفسه في كثير من الحالات، استخدمت فيها السلطة الذكورية التخويف والترهيب والعنف بكل أنواعه الرمزي والنفسي والبدني حد القتل حتى لا تجرؤ أي فتاة على تجاوز أيّ تابوه فتُقتَل.
والمثير للسخط أن قيماً مثل شرف العائلة باتت مساويةً للقتل وغسل العار، فمحلَّل لكل ذكر أن يقتل أي فتاة ضمن العائلة إن خالفت أو تعدت خطوطاُ جاهلية رسمتها سنين طويلة من التخلف. فأي فتاة تفكر في الزواج خارج ملّتها تقتل! من تسوّل لها نفسها أن تحبّ تُضرب وتُسحل وتُحبس على يد أمها قبل أبيها وإخوتها، من تخرج دون إذن أو مشورة تنتظرها أقصى العقوبات، من تفكر بمخالفة سلطة الأب أو الأخ أو العموم وصولاً للعشيرة تقتل بدم بارد مع تهليل وحظوة ومكانة أرفع للقاتل في مصفوفة الجماعة المتخلفة. وحتى لو كانت بريئةً مما سبق ولكن كثرت حولها الأقاويل فالأفضل قتلها حفاظاُ على شرف _أقصد عار_ العائلة.
المخيف في ثقافة جرائم القتل ليس القتل نفسه فحسب؛ بل ثقافة التكاتف والتخطيط الجماعي للتخلص من الأنثى جالبة العار ليشترك بذلك كل ذكور العائلة بل وقد تشارك أيضاً النساء اللواتي يلعبن أدواراً رئيسية في الأسرة.
وفي حوادث كثيرة قد تلجأ ضحية جريمة الشرف للانتحار تحت الضغط وخوفاً مما سيفعله بها أقاربها، فلجرائم الشرف أساليب مخيفة تتراوح بين إطلاق الرصاص إلى الرجم أو الطعن وكذلك الحرق أو الخنق.
من سجن التزويج المبكر والزواج بالإكراه، من الإهمال والإهانة وضرب الزوجة دون قانون يردع أو منظومة تحمي، من الخوف والخجل من تقدمك في العمر قبل أن تجدي ذلك الفارس الذي كبرتِ وجدتك وعماتك وخالاتك يرسمن صورته في مخيالك باعتباره المصير الوحيد الجيد في مقابل كلمة “عانس” التي تلاحقك كشبح مع دخولك العشرين ربيعاً، فالقطار قد فاتك منذ الأزل بحسب منظورهم الرجعي.
النجاة من ماذا أيضاً؟ من سجن الطلاق الذي يأسر المرأة ويحولها إلى “منبوذة” معرّضة للحبس والمراقبة في كل تحركاتها، كيلا تجلب العار لعائلتها، حيث يُنظر للمطلقة كبضاعة جنسية سهلة المنال لا كإنسان مكسور اضطرته ظروفه للتخلي عن شريك حياة أو تعرض لظلم واضطهاد هذا “الشريك”.
وما زلت آمل أن تنجو فتيات ونساء الشرق العظيم من التحرش بكافة أشكاله من الرمزي وصولاُ للتحرش الجنسي.. لكن الطريق طويلٌ طويل.
أن تكوني امرأةً تعيش في الشرق المشتعل بالحروب؛ يعني أنك قد تحاولين النجاة ولكن..
للأسف عزيزتي لن تستطيعي النجاة هذه المرة.. فإن تعرّضت أي امرأةٍ للاغتصاب فأمامها خياران كلاهما جحيم، فإما أن تُزَوَّج الضحية لمغتصبها تحت مسمى “الستر” فتُقتَل في كل لحظة ألف مرة _وأي ستر وانحطاط أخلاقي هذا_ أو أن تُقتَل لغسل العار الذي لم يكن لها أي ذنب به.
وحتى ظروف الحرب لا تشفع لهؤلاء الضحايا -في إطار عملي مع منظمات تعنى بالنساء بين تركيا واليونان- التقيت بفتيات من سوريا والعراق تعرضن للسجن والاغتصاب وغُيّبن عن عائلاتهنّ لأشهر أو سنوات وعندما كتبت النجاة لبعضهن تخلت عنهنّ أسرهن وتعرضن للنبذ والنفي الاجتماعي بدل الدعم وتقديم المزيد من المحبة لإيصالهن لطريق الشفاء.
أنتِ امرأةٌ في الشرق.. إذاً فالاكتئاب رفيقك الأقرب!
في دراسةٍ حول صحة النساء في العالم احتلت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا للأسف مرتبةً أعلى من أي منطقة أخرى في العالم من حيث إصابة النساء بالاكتئاب! والنساء اللواتي تتراوح أعمارهن بين 15 و49 سنة هنّ الأكثر تضرراً، وفقًا لإحصائيات البنك الدولي في مجال الصحة لعام 2015.
أين الشرف في كل هذا؟
ما جرى لإسراء غريب الشابة ذات الواحد والعشرين ربيعاً دقّ ناقوس الخطر في مجتمعاتنا للنهوض والمطالبة بتغيير يشمل تشريع قوانين أكثر صرامة تكفل تجريم العنف المنظم ضدّ الفتيات والنساء، وتدين بشدة جرائم القتل بحجة الشرف، والعمل الجاد على تطوير بنية أحكام الأحوال الشخصية التي تنتقص من حقوق النساء والفصل بين الشريعة والتشريع.
أضاءت قضية إسراء بقعة أمل في وعي كثير من الجيل الجديد، وأوضحت مقدار الظلم الذي تعيشه المرأة في مجتمعاتنا كضحيةً لتقاليد بالية فسرت تعاليم الدين كما تشاء وأنتجت ثقافة القتل.
للأسف المدافعون عن هذا الاتجاه كثر أيضاً يبررون العنف المرتكب ضد النساء في إطار الهياكل الأبوية وحماية البناء الاجتماعي “للشرف” كنظام للقيمة أو التقليد المتعارف عليه. هذا النظام يجعل في بعض الحالات من الرجال أيضاً ضحايا لجرائم الشرف إذا كان يشتبه في كونهم مثليين جنسياً.
والأمر المخيف هنا والذي يصعب جداً تفكيكه هو أن فكرة “الشرف المقيدة بمعايير بالية” تتجاوز الفرد والأسرة ويتمثلها المجتمع بأسره معتبراً الحفاظ على السلوك العام للفتيات والشباب هو أساس الحفاظ على النظام والتسلسل الهرمي في هذه المجتمعات الأبوية شديدة المحافظة. إضافة إلى ذلك، فإن هذه القيم لا تتم إدانتها في كثير من الأحيان من قبل الزعماء الدينيين والسياسيين في دول الشرق الأوسط أو في مجتمعات المهاجرين في الغرب. بل على العكس تحافظ هذه المجتمعات على صمت قسري بشأن جميع “الحساسيات” الدينية أو الثقافية أو المجتمعية كتعبير عن المقاومة الرمزية للغرب.
واخيراً أختم بأفكار متفرقة أتبناها لعالم الأنثروبولوجيا الألماني هانز هيرمان تصف حالنا بالقول: “إن الوعي العربي منذ أواخر القرن التاسع عشر لا يستخدم الحرية إلا كشعار للتخلص من النظم التي تستغله وتقمعه، ولا يفهمها أبداً من منطور الوحدة الأصغر في المجتمع أي الفرد والأسرة _وبالتحديد المرأة الإنسان_ “.
لا شك أن التضارب الشديد الذي تشهده قيم مجتمعاتنا بين واقعه وآماله، بين ما يسمح للذكر ويحرم على الأنثى يحتاج لسنوات طويلة من النضال والكفاح على مستوى التشريع أولًا، بالتوازي مع حملات الضغط للمجتمع المدني لتكون الصحوة مثمرة مع ومن أجل المرأة الإنسان.
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.