نادية خلوف/ الحوار المتمدّن- أسأل نفسي أحياناً: هل أعيش غربةً، أم تغريبةً؟ طبعاً لا أعرف الجواب.
أسأل نفسي دائماً: إن كانوا جميعاً سادةً، هل أنا وحدي أتيت من بين العامّة؟
ويأتيني الجواب من السّماء: أصوات المقتولين ممن سُمُّوا بالفطائس أو الشهداء: لستِ وحدَكِ. نحن شعب سوريّة “العظيم” نُقيم في السّماء، ولا زالت أرواحنا تتذبذب في المنطقة الزرقاء، وكما تعرفين أنّ من يموت ولا تُكتَمَل رسالته تتذبذب روحه في تلك المنطقة إلى أن يسامحه النّاس.. اكتظّ المكان هنا، وننتظر أن نُفرِغَ لكِ مكاناً بيننا.
أسأل الأرواح المتذبذبة في المنطقة الزرقاء عن الثورة، ويأتي إليّ صوت شخصٍ سُلِخَ جلده في الأقبية الأَمنيّة قبل أن يموت: ألا ترين أنّ الزّعران ظلّوا على الأرض، ولم يُقْتَلوا. اسمعي أيتها المغفلّة! لا يموت ذوو المال والجاه إلا عن طريق الصّدفة، والخطّ موصولٌ بينهم وبين كل الجهات. يُؤيّدون القتل هنا، والسلام هناك، يقبضون بالدولار هنا، وبالفرنك هناك.
ويطلب من زميله في المنطقة الزرقاء أن يتحدّث، وهو شبيحٌ للنّظام. يقول لي: الآن فقط تمكّنتُ من مراجعة ما جرى. قَتَلتُ ثمّ قُتِلْتُ لأنّني فقير. أرغب أن أدخّن السجائر وأشرب المتة، والعرق، وأشتري سيّارةً وأعاشر النساء، وكان الطريق مفتوحاً أماميَ وهو الانتماء للوطن، ثم قتل الوطن.
ويعطي المايك لصديقه، وهو من قتلى مجازر حماه في الثمانينات، قال: كنتُ طبيباً، ولم أكن من الإخوان المسلمين. بل أنا من من الليبرايين.. كنتُ ضدّ الشيوعيّة وضدّ الإخوان، لكن هنا لا مكان للكذب. لذا سوف أتحدّث الصراحة، وهي أنّ الإخوان استطاعوا كسب التعاطف بسببنا ،وأصبح لهم ثروات، ولم يجبروا أحداً من المعارضين بالانضمام إلى تحالفاهم بل إن بعضهم -أعني المعارضين- قدّم طلب انتسابٍ من أجل أن يكون له راتب مُعارِضٍ.
وأعطى المايك لصديقه من إحدى الطوائف الكريمة، فقال: نحن لا نؤمن بالقيم ولا نتدرّب على معرفة أنّ الله محبّة فسمّينا أنفسنا علمانيون، يقول الشيخ السّني شيئاً حول جسد المرأة مثلاً، ويعجبنا الدّخول في تفاصيل الجسد وكلمات التحرّش فنشارك الفيديو ونتمتّع باللفظ… هو في النهاية شريط بورنو.
أطلّ شابٌ كرديّ قُتِلَ دفاعاً عن القضيّة. قال لي: كنت سوف أهرب إلى أوروبا، وليس معي ثمن الذهاب إلى تركيا. أمسكوا بي وقالوا إليك بالقضيّة. أبي ليس لديه نقودٌ ليفديني بها، ومع أنّني تدرّبت على السّلاح لكنني لا أعرف أن أستخدمه. مُتُّ دون أن أُطلِق طلقةً واحدة. أنا محاصر هنا في المنطقة الزرقاء كما كنت محاصراً في الإدارة الذاتيّة.
آخر من حدّثني قبل أن يُغمى عليّ؛ شخصٌ من مريدي عزمي بشارة العلمانيّ العظيم، قال لي: لستُ نادماً على عمري فهنا الحياة أهدأ ، لكنّني طبيبٌ فلسطينيّ. تركتُ الطبّ وتبعتُ عزمي. أنا من هتف للقدس، وكنت وسيطاً بين عزمي وآل الأسد. أنا من أشرف على الجوائز الأدبيّة المُزوّرة. كنت أنا وبرهان نطلب من عزمي أن يُعرّفَنا بالشيخ القطريّ، فيقول لنا: الشيخ كما الله يَرى ولا يُرى. حتى أنا لا ألتقيه إلا عندما يأمر، هو الإيمان به. اسمعي أيتها السّيدة.. جميعنا نشبه الأسد ولدينا نقصٌ، نحن نشعر لأننا خاضعون للآخر، ولذا تشكّل لدينا جنون العظمة. هي متلازِمةٌ سوريّة لبنانيّة فلسطينيّة آخذة في الانتشار في العالم العربي.
أطلّ هو قاضٍ من تنظيم الدولة. قال لي: كنّا تحت الطلب للقتل والتهريب. أتينا من كلّ أصقاع الدنيا، يستغلوننا كمرتزقةٍ لتهريب المخدرات والبشر. يبيضون أموالهم من خلالنا.. نحن اليوم تحت اسمٍ آخر ودخلنا بقوّةٍ في المفاوضات السورية. نحن اليوم نُمثّل الجناح القانونيّ.
صرخت بهم كفى لا أريد المزيد. ورمى المقتول من جماعة حسن نصر الله المايك فسقط على وجهي وأيقظني.
لا.. لا أرغب بالمزيد.. لا أريد أن أسمع. هل هؤلاء هم نحن قبل أن يموتوا، وأولئك هم نحن.. لا.. سوف أعود للتغريبة. شمّرتُ ثوبي، وضعت مقدمته في فمي، ركضت، وأنا أنظر خلفي، وأصرخ.. لا أريد.. لا أريد.. سمعت صوت امرأةٍ تصرخ خلفي: أنا أيضاً أعيش في المنطقة الزرقاء. كنتُ حقّاً ثائرةً على الظّلم، ومؤمنة ربّما ، سَمّونا حرائر، ولمّا لم أقبل التسمية سهلوا سَجْنِيَ فاغتُصِبت ، وخرجتُ من السجن بعد عدّة سنواتٍ وبيديّ طفلٌ هو في النهاية ابني أردت أن يعيش، حتى لو كان والده السّجان. فوجِئتُ أنّ فضائيات الثورة تستخدم مذيعين بذقنٍ، ومذيعاتٍ بحجاب، والمدارس الثوريّة هي مدارس لتشويه الفكر، والأسديّة اعتداءٌ سافرٌ على الحكمة الإلهيّة، ونتيجة هذا التفكير. قتلني أهلي دفاعاً عن الشّرف. أخي اليوم في أوروبا يضع علم الثورة على بروفايله في الفيس، لكنّني أفتقد ابني.. هل لك أن تدليني على مكان وجوده. . .