ياسمين مرعي/ أبواب- “برلين ليست وطناً، أتساءل يومياً عما أملكه، أو يملكني هنا، والجواب.. لا شيء! روحي مقسومة لنصفين، نصفٌ في سوريا مع ماهر، ولدي المعتقل منذ خمس سنوات، ونصف هنا مع أيهم، ولدي الذي بقي لي”. هذا ما قالته السيدة فدوى محمود، في بداية حوارنا معها، بعد نضالٍ امتد عقوداً، وانتهى في المنفى.
-
ماذا تستحضر السيدة فدوى محمود من ذاكرتها بين سوريا وألمانيا؟
خرجت من سوريا عام ٢٠١٣، حيث بقيت في لبنان لمدة سنتين. حاولت خلالها الهرب من ذاكرتي عن حياتي في سوريا، فلم أنجح أمام مداهمة المخابرات التابعة للجيش اللبناني لبيتي في حي الأشرفية، وتفتيشه بشكل مفاجئ ومخيف، بتهمة أني أستقبل أعدادً كبيرة من “الناس”، ولم أكن أستقبل سوى أقاربي وأصدقائي السوريين، فقررت مغادرة لبنان، الذي لم يعد آمناً، دون أن يقدم لي إجابةً، عما إذا كان القانون اللبناني يمنع زيارات الأقارب!
أما عن ذاكرتي، فهي ليست ذاكرة بقدر ما هي قدرٌ استمر حتى اليوم، فأنا ناشطة سياسية منذ السبعينات، كنت ضمن تنظيم سياسي، هو حزب العمل الشيوعي، الذي كان محظوراً في سوريا. في عهد حافظ الأسد تعرضنا لحملات اعتقال مروعة، وكان آخرها في شهر آذار ١٩٩٢، بعد شهرٍ واحدٍ على اعتقال عبد العزيز الخير زوجي، الذي تم اعتقاله مجدداً مع ابني منذ خمس سنوات، وما زال مصيرهما مجهولاً.
كان عمر ماهر حين اعتُقلت أول مرة تسع سنوات، وأيهم خمس سنوات. ظلّا وحيدين في البيت، حتى أخذتهما عائلة أبيهما، حيث أمضيا طيلة فترة اعتقالي، كنا مثالاً على وجع العائلات السورية المنشغلة بالهمّ السياسي، ممن فرقتهم السلطة في سوريا. ولكن ما ضاعف وجعي، أن من اعتقلني كان أخي، عدنان محمود، وكان رئيساً لفرع التحقيق في تلك الفترة.
قضيت فترةً في سجن الفرع، لأُنقل بعدها إلى سجن دوما، ويوم وصولي، أرسل لي أخي مدير مكتبه، محذراً إياي من إشهار هويتي وقرابتي به. كان الموقف شديد القسوة، فما كان مني إلا أن خرجت إلى ساحة السجن، وبدأت أصرخ بأعلى صوتي، أنني أخت عدنان محمود رئيس فرع التحقيق.
خرجت من سجن دوما بعد ثمانية أشهر، إلى محكمة أمن الدولة، لأواجه اللحظة الأصعب على الإطلاق، حين حضر طفلاي إلى محكمتي. بعدها بفترة وصلتني بعض الملابس من أهلي، وفي داخلها، وجدت رسالةً من طفلَيّ، كتبا فيها: “ماما نحنا منحبك”!
مرت فترة السجن اللعينة، ولم أندم للحظة، لأني كنت ومازلت مقتنعة ومؤمنة بما فعلت. بعد عامين خرجت، ليكسرني حينها سؤال ماهر وأيهم: “ماما ليش تركتينا ورحتي ونحن بحاجتك”. قلت لهما يومها: إنّ ما أفعله هو لتجنيبكما مصيرنا في المستقبل. لست مستكينةً اليوم جراء اعتقال ماهر وعبد العزيز، ولم أنهزم، لكنني متألمة جداً، إذ يبدو أنني أدفع الثمن للمرة الثانية.
-
أطلقتم قبل فترة حملة عائلات من أجل الحرية، التي انطلق منها باص الحرية. إلى من تتوجهون بهذه الحملة؟ وما هي النتائج حتى اللحظة؟
تكاد تنقضي السنة السابعة منذ بدء الثورة، وعدد المعتقلين في سوريا ما زال مخيفاً. أنا مواطنة سورية واحدة، لي في المعتقلات زوجي وابني منذ عام 2012. لم أترك محفلاً، أو مكاناً يمكن أن يسمع صوتي فيه، دون أن أقصده لكن دون فائدة. فكرت بغيري من الأمهات، والزوجات ممن ينتظرن أحبتهن، بغياب ملف المعتقلين عن أولويات المؤتمرات الدولية الخاصة بسوريا، وعدم إعطائه حقه. في وقتٍ يتمّ فيه التفاوض على الدستور، وإعادة الإعمار، ولكن ماذا عن المعتقلين؟ وكيف يمكن أن ننساهم في المعتقلات، أو نتوقف عن محاولة إنقاذهم؟.
ثم جاءت الفكرة استناداً على هذا الخذلان، فشكّلنا مجموعةً من أهالي المعتقلين من الدرجة الأولى، ( زوجات، أمهات وأخوات) نحن صاحبات الوجع، لا نريد من أحدٍ أن يعمل نيابةً عنا، وسنطالب بحريتهم، بعيداً عن الطموح بـ “المكاسب السياسية”.
-
هل تقتصر مطالبات الحملة على معتقلي النظام؟
بالطبع لا، فالحملة تطالب بكل المعتقلين، لدى كافة الجهات المتنازعة على الأراضي السورية، وهذا شعارها، وعلى أساسه بدأنا برفع صوتنا. فكان نشاطنا الأول خلال انعقاد مؤتمر جنيف 2016. أثناء اجتماع وفدي النظام والمعارضة. كنا خمسة نساء، أقمنا وقفةً أمام الأمم المتحدة، وعرّفنا بأنفسنا ومطالبنا، والتقينا يومها بالسيد ديمستورا، وطالبناه بإيصال رسالتنا كعائلات للمعتقلين، إلى الطرفين المتفاوضَين، نطالبهم فيها من مواقعهم كمفاوضين نيابةً عن الشعب السوري، بحرية أبنائنا، ووعدَنا ديمستورا بتسليم الرسالة.
خلال تلك الفترة، التقينا بأكثر من جهة حقوقية في جنيف، وكررنا مطالبنا الأساسية، وهي الإفراج عن كل المعتقلين، لكننا أدركنا أننا نحلم، فبدأنا بتجزئة مطالبنا، وصرنا نطالب بالكشف عن مصير المختفين قسراً والمفقودين، طالبنا كذلك بالسماح للمنظمات الحقوقية بدخول المعتقلات، لتتبيّن أوضاع المعتقلين. أنا لست الأم والزوجة الوحيدة التي لا تعرف مصير ابنها وزوجها، هناك مئات الآلاف من السوريات غيري.
-
العديد من المنظمات الحقوقية الدولية، وعلى رأسها هيئات الأمم المتحدة، لم تُبدِ عدالةً تجاه قضايا المعتقلين، هل توافقين أن هناك حالة من التواطؤ الدولي على قضايانا؟
بالتأكيد، وأنا أقولها بأعلى صوتي: لا ثقة لدي بالمجتمع الدولي، لكن ما من خيار أمامي سوى اللجوء إليه. لقد صدمت خلال السنة الماضية بأكثر من حقيقة، أولها أن حالات الاختفاء القسري الموثقة لدى لجنة التحقيق الدولية، لا تتجاوز ثلاثمائة حالة فقط، فضلاً عن أن مسؤولاً رفيعاً في الملف السوري نصحني بالتوقف عن المطالبة بعبد العزيز وماهر، خوفاً من أن يقوم النظام بأذيتهما، وهذا منتهى الخذلان. لكن هذا الواقع لم يدفعني يوماً لليأس والاستكانة، أنا مستمرة مع باقي العائلات في سعينا للإفراج عن المعتقلين.
ومؤخراً لم نعد نطالب الجهات الدولية كالصليب الأحمر وغيرها، بمحاولة دخول المعتقلات فقط، بل والضغط لتحسين أوضاع المعتقلين داخل السجون، وإيصال الأدوية لكثير من المعتقلين المرضى. فالذي لا يقتله التعذيب يقتله نقص الأدوية.
-
هل تشكل الحملة إدانةً لتقصير المعارضة السياسية إذن؟
لم نعد ننتظر شيئاً من اللاعبين السياسيين، لكننا نسعى لتحصيل وعود، بالكشف عن مصير المعتقلين، قبل انتهاء الحرب، وإفلات النظام من الاعتراف بهم. لقد انتظرنا عفواً بعد عفوٍ، على أمل أن يخرجوا، وأحياناً تغلبني العاطفة، مع أني أعلم حين أحاكم الأمور بعقلي، أن النظام لم يخفِ عبد العزيز وماهر وغيرهما ليخرجهم بعفو. مع ذلك أفرح حين يصدر عفو عن أي معتقل، وأنتظر دوري بالفرح حين يخرجان.
-
ما الذي جرى في آستانة نتيجة جهودكن؟
تم طرح ملف المعتقلين في مؤتمر الأستانة الأول، وحاولنا أن نذهب، لندق ناقوس التذكير بالملف طيلة فترة الاجتماع، لكننا لم نحصل على تأشيرات للسفر. ونتيجة متابعتنا للضغط والتواصل مع الكثير من الجهات المعنية، فتح الملف في آستانة ٢. نحن في الحقيقة نمارس عملية “النقر على الدف فقط”. وهم يعلمون تماماً، أننا لا نطالبهم بأكثر من بحث الملف، ومطالبة النظام بمحاكمة المدانين، وتحويلهم إلى محاكم تحت إشرافٍ دولي، من أجل أن يُعرف مصيرهم.
-
لكن المعتقلين تحولوا إلى مصدر دخل مهم للنظام السوري، فكيف تتعاملن مع هذا الواقع؟
أعتقد أنها أخطاء العائلات التي تُرتكب على مبدأ “الغريق يتعلق بقشة”. نحاول دائماً تحذير الأهالي، مما حاول الكثيرون إيقاعنا به من عمليات نصب واحتيال، تُستغل فيها عاطفة الأهل، وانتظارهم لخبر عن معتقل لهم، قد يكون هذا المعتقل قُتل تحت التعذيب منذ وقت، وهم ما زالوا يدفعون المبالغ الطائلة، لمعرفة مكان اعتقاله، أو محاولة زيارته، ولكننا لا نستطيع منع الأهالي من البحث عن بصيص أمل، يوصلهم لأبنائهم وأحبتهم.
– معروف أن “عائلات من أجل الحرية” ليست ممولة من أي جهة دولية، وأنكن لستن على استعداد لتلقي التمويل من أية جهة، كيف تغطون كلف أنشطتكن وأسفاركن؟
هناك ثلاث منظمات سورية تقوم بتغطية الكلف اللوجستية للحملة، هي النساء الآن، دولتي، و Syria Campaign. وقد سُئلنا من قبلهم، في بداية انطلاق الحملة، عما إذا كنا نريد تنظيم حملات تبرعات للمعتقلين وعائلاتهم، وكان ردنا بالرفض القاطع، إذ إننا نقتصر في عملنا على المطالبة بالمعتقلين. وشرطنا الثاني كان أن نعرف مصدر التمويل، الذي يأتي لكلٍ من هذه المؤسسات للحملة، فهناك جهات لا نقبل منها تمويلاً.
وبمساعدة السيدات في هذه المنظمات، نحاول توسيع عمل الحملة، والسعي لتقديم الدعم النفسي لعائلات المعتقلين أينما كانوا، بعيداً عن الدعم المادي.
-
ما الذي تطلبه فدوى محمود اليوم للحملة؟
أطالب بأن تقوم كافة المؤسسات السورية بحمل جزء من مسؤولية التعريف بالحملة. فالأهالي لا يتحملون مسؤولية عدم معرفتهم بنا، كما أننا لا نستطيع أن نلومهم على خوفهم، وعدم موافقتهم على نشر صور وأسماء أبنائهم، دون ضمانات.
لكن الباب مفتوح لتوثيق حالات الاعتقال، والتغييب القسري، وهذه مسؤولية لا يمكن للحملة وحدها أن تتحملها، بل هي واجب على كل سوري معني ببناء مستقبل سوريا، وواعٍ لأهمية إطلاق سراح المعتقلين، كجزء من هذا المستقبل.
ختاماً سيدة فدوى، نرجو أن تتكلل جهودك وجهود المشاركات بالنجاح، وأن تتمكن حملة عائلات من أجل الحرية من تحقيق هدفها وعودة الحرية لجميع المعتقلين.
ياسمين نايف مرعي. كاتبة وصحفية سورية مقيمة في ألمانيا
تمّ نشر هذا الحوار بشكل مشترك بين “أبواب” مع موقع “Syria untold”