من النسويّة إلى النّسوانيّة
النسوية & ...

سعد الربيع/ موقع (bawaba-sy) الإلكتروني- في يوم تقليدي شبه متكرّر في المكتبة، وفي غمرة سكينة هذا المكان الذي يبدو لي كفقاعة من الهدوء والنظافة، تمرّ أمامي تلك الفتاة، كلّ يوم، لتفجّر فقاعة الهدوء هذه بضرباتِ كَعبِ حِذائها الخارق لجدار الصوت!

تثير هذه الفتاة ذعر المَكتبة من أولها حتى آخرها، مُحدثةً صوتاً كحفّارة الإسفلت، فيَفزعُ الجميع، ذكوراً وإناثاً، لينظروا إلى هذه الكارثة الصّوتيّة.

لحسن الحظّ، جمال الفتاة يُخفّفُ من حدة الواقعَة، لكنّ الامتعاض لا يُغادر وجوه الفتيات ذوات الأحذية الرياضيّة الخفيفة الليّنة، التي لا صوت لها ولا رائحة. نعم كنت أراقب الوجوه و الأحذية..

في عالمٍ موازي لهذا العالم، نرى بعض الوجوه والأحذية التي لا تُصادفنا في أيامنا العادية، بل على المواقع البديلة للتواصل الاجتماعي، أرى بعض النساء يَنشُرنَ فيديوهات مباشرة على الهواء، يتحدّثنَ بِشؤون خلق الله، أرى وأسمع بعضهنّ يتحدثن كثيراً وكثيراً دون أن أفهم ما يَقُلن كثيراً، ومِنهنّ من يَغضَبنَ ويَصرخنَ ويشتمن ويتقصدن إهانة نساء أخريات! يُطلقون على بعضهنّ اسم “النسويّات”.

بينما وأنا أشاهدهنّ على الفيسبوك أسأل نفسي متفاجأ: “لك شو عم يصير مع هالنسوان؟!”.

بمتابعة صفحات ما يُعرَف بـ “حركة النّسَويّة”، سريعاً ما تلاحظ أن معظم المنشورات تحمل صفة مواعظ وعبر ومقترحات، ومعظمها مترجمة عن مقالات أجنبية.

تتبعت خيوط إحدى هذه المنشورات، فوجدت المقال الأصلي، والذي هو ثمرة جهود طويلة من البحوث والاستبيانات التي أجريت في المجتمعات الأصليّة التي قامت فيها ما يعرف بحركة “الفيمينيست” العالميّة والتي أتابعها منذ عدة سنوات على خلفية تظاهرة شهيرة لهن في “كييف” مارس 2011 قمن فيها بالتظاهر بصدورٍ عَارية، حرفياً، لجذب أنظار العالم، وقد نجحن بذلك على ما يبدو.

رغم أن مصطلح “فيمينيست” ظهر لأول مرة عام 1837 وكان من ابتكار الفيلسوف الفرنسي “تشارلز فوريير”، ظهرت الحركة لأول مرة في فرنسا وهولندا عام 1872، لتلحق بها عدة دول أوروبية ثم أمريكا 1911. إلا أن وصولها لعالمنا العربي تطلب أكثر من قرن!

ولا أدري حقاً لماذا، فأنا أسمع منذ كنت صغيراً بالاتحاد النسائي السوري، والذي كان يَبُث تقارير اسبوعية عنه في القناة الثانية بعد الانتهاء من مسلسل كرتون الحوت الأبيض مباشرة، فكان منظر رئيسة الاتحاد امتداداً بصرياً للحوت الأبيض، إلا أن أحداً لا يعرف عن ماذا كانت تتحدث تلك المرأة!

من أدبيات حركة الفيمينيست العالمية، الدّفاع عن حقوق المرأة والرجل معاً، ضد هَيمَنة التقاليد المجتمعية على كلا الجنسين، التقاليد التي يتبناها بالطبع الجمهور الأعظم، وهو من الرجال والنساء بطبيعة الحال، لا كائنات فضائية بينهم ولله الحمد، فلا يُقال هو (نضال المَرأة ضدّ الرّجل)، كما صَرخت احداهنّ بوجهي مرة على الفيسبوك وكادت أن تطيح بأسناني، لأني انتقدت اعوجاج المبدأ!

في مَعارف مُبكرة، كانت المرأة هي (الحُرمَة) كما كرّس لهذا الفهم الإعلام العربي بشكل عام، حتى يكاد لا يكون هناك مقابل لكلمة حُرمَة في بعض المجتمعات العربية.

والحُرمَة لغويّاً هي اشتقاق بعيد عن استخدامه تجاه المرأة، فبحسب المعجم الوسيط، وقاموس المعاني: الحُرمَة هي ما لا يَحِلُّ انتهاكهُ من ذِمّة أو حقٍّ أو مكان، والمصدر (حَرُمَ)، والفِعلُ: حَرُمَ الشيءُ على فلان، يَحْرُمُ حُرْمَاً وحَراماً فهو أمرٌ (حَريمْ). هذه الأخيرة (حريم) نستخدمها بكل ثقة كصيغة جمع للنساء، ويرجّح بعض اللغويّون أن مفهوم استخدام الحُرمَة على المرأة هو مفهوم مكتسب من فترة الاحتلال العثماني، إذ كان يُطلق على نساء السّرايا الأكثر قداسة من نساء العامّة. فالتعبير الدارج قبلاً كان مَرأة – امرأة.

ومن هنا اكتست المرأة قيمة تحريميّة بالمُطلق، حتى أننا نذكر جيداً حركة “نَصّار ابن عريبي” وهو على حبل المشنقة، عندما أومأ لزوجته بغضبٍ من بعيد، لتُغطّي وجهها، إذ لن يمنعه الموت من (تَحريم) وجه زوجته على الناس، حتى لو حُرِمَ هو أيضاً من رؤيتها، ولو كان هذا آخرَ عَملِ له في حياته …

كثير من النساء اليوم وحتى النسويّات منهنّ، يَرَين في “نصّار ابن عريبي” مثالاً للرجولة والشهامة لغيرته على زوجته، وفي ذات الوقت (يناضلن ضدّ الرجل) الشرقي (ابن عريبي) من أجل حقوقهن!

النسويّات يجلسن معك في مقهى فلا يَرضينَ أن تدفع عنهنّ الحساب لأنك رجل، لكن إذا تقدّمت لخِطبة بعضهنّ، يَطلبن مهراً يدفعك للتفكير بسرقة بنك.. نَفس النسوة الحسّاسات يحاربن استخدام ألفاظ متعلقة بجسد المرأة للمرأة كصيغة للشتيمة أو كتعريف للشرف، لكن عندما يَغضبن يَجعلنك تستذكر رَحِمَ جدّتك التي ولدت أباك الذي ولدك، بمعلّقاتٍ من الشتائم التي تخرج بقمة الأنوثة من أفواههنّ.. هُنّ، النسويّات نساءٌ مُختلفات، هذا ما يَجهدن على اثباته، ولسن مُسترجلات كما يقول الذكوريّون عنهنّ، لكن يَرضين أن يتم تنميطهنّ ببعض الفيسبوكيات اللواتي لا داعي لذكر أسماءهن.. قل أعوذ برب الفلق..

من الطبيعي في مسار التحوّل من “الحريمة” إلى “المرأة”، أن تمرّ هؤلاء النساء حديثات التبنّي للفكرة، بحالة ولادة جديدة، للتعرّف على العالم من جديد، وتعلّم الكلام والمشي والتصرّف من جديد. لكن من المهم جداً أن تتم عمليّة التنشئة والتعلّم الجديدة هذه، في مجتمعاتنا و وفق مسالكها الراهنة والواجب تغييرها، لا خلق عالم خاص، ومجتمعات موازية، لا تشبه البيئة ذات المعتقدات التي تناضل لتغييرها، هذا أمرٌ لا يمكن استيراده وارتداءه مثل “شانيل وفيرساتشي”!.

في دولة “غانا” مثلاً، يتحدثون اللغة الإنكليزية كلغة رسميّة، لكنهم يتحدثونها بلكنتهم الافريقية، على الرغم من أن المُعلّمين بريطانيين !.

والمطلوب هنا توطين المفاهيم المتعلقة بالنسويّة لا تَعريبها، دمجها بالمجتمع لا فرضها كقوالب جاهزة، لأنها على هذا الحال، ستظل غريبة عصيّة على الاندماج.

أنا هنا لا أفترض قواعد ولا أحدد شروط أو شكل ما يجب أن تكون عليه النسويّة، أنا فقط أقول هذا، تماماً كما أنظر إلى فتاة المكتبة ذات الكعب الخارق، بحيادٍ كامل أمام مشاعري تجاهها وتجاهكنّ سيداتي، بين إعجابي بجمال المرأة التقليدية، وحَسرتي من كونها تقليدية، لدرجة أنها تنخر رأسي بصوت كعبها ..

حقيقةً لا أعرف ما يجب أن يكون عليه الحال، لكن أعرف أن “النسويّة” اليوم، يُغالبُ عليها أن تكون “نسوانيّة” وهذا ما لا يجب أن يكون ..!

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”. 

النسوية & ...

النسوية & …

أترك تعليق

المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015