ندى الحسوني/sasapost- ما خلا استثناءات نادرة، كان ولا يزال إبداع المرأة الشعري أقل حظًّا من قصائد الرجال على مستوى التناول النقدي، فقبعن في الهامش الشعري والأدبي المنسي في الثقافة العربية طويلًا. بل حتى أولئك اللواتي حصلن على الاهتمام من قبل النقاد والدارسين، جرى التركيز المبالغ فيه على سيرتهن الحياتية فقط وعطائهن الاجتماعي، مولين ظهورهم عن جوهر الموضوع، وهو إنتاجاتهن الأدبية والشعرية.
بُني الحبّ على الجور فلو … أنصف المعشوق فيه لسمج
ليس يستحسن في حكم الهوى … عاشق يحسِن تأليفَ الحجج!
علية بنت المهدي بن أبي جعفر المنصور، 160-210 هـ
حاولت مجموعة من الدراسات النقدية معالجة إشكالية «المرأة والثقافة العربية»، سابرة أغوار مجموع الأسباب السوسيو ثقافية بمحيطنا العربي، الذي جعل من المرأة الأديبة والشاعرة، حلقة أضعف من الرجل الكاتب.
لقد جرت قولبة الإطار الأدبي في جعل كل ما تجود به المرأة على المكتبة العربية محصورًا في ما سمي بـ«الأدب النسائي»، رغم أننا لم نشهد قط مصطلح الأدب الرجالي، ليصبح بذلك هذا الموضوع إشكاليًّا بامتياز، أثار منذ ظهوره عددًا غير محدود من الأسئلة النقدية، توزعت عبر مشروعية المصطلح ومفهومه، وعبر الرفض القاطع لما يحمل في عمق مدلوله من تمييز صارخ أساسه الجنس.
أردت أن أكتب أنا عن ما أكنه من مواقف وتمثلات عن الأدب الذي وقع بتاء التأنيث، من موقع متذوقة للأدب العربي بمختلف صنوفه، بعيدًا عن النقد الأدبي الرصين من قبل المختصين، لكن الأساس تحليل الموقف الذي تبنته الثقافة العربية عبر ازدرائها لما جادت به المرأة على المكتبة العربية، وهل كانت فعلًا تلك المحاولات النسائية فاشلة إذا ما قورنت مع عظماء الأدباء من «الرجال»؟ ولماذا كان حظ النساء أقل على المستوى النقدي؟
لقد حاول الباحث الدكتور جابر خضير، استجلاء أهم التصورات التي أفرزت موقفًا سلبيًّا من المرأة في الثقافة العربية، من خلال دراسته النقدية الموسومة بـ«المرأة من منظور النقد»، هذه التصورات السلبية كما أسستها مؤسسة النقد العربي على وجه خاص، وقد جاء كأول تصور، ضعف البنية الجسدية للمرأة قياسًا ببنية الجسد الذكوري، من البديهي طرح سؤال العلاقة بين البنية الجسدية وجزالة اللفظ وبلاغة المعنى، فنظرة المجتمعات العربية الدونية إلى المرأة بوصفها كائنًا ضعيفًا ومرهفًا، لا تتلاءم وطبيعة الرجل القوي، الوصف المستمد من بنيته الجسمانية، وقد مثل المستوى الأول في دراسة الدكتور: «الجزالة والقوة المستمدة من قوة الجسد الذكوري تحت معيار الفحولة كان له الدور الكبير في خلق تصوُّر مضاد ضمني له وهو معيار الأنوثة، الذي يمثل المستوى الثاني والسلبي من مستويات الإبداع عند العرب».
في السياق نفسه، تناول المحور الثاني التصوُّر المستقرُّ في عميق الثقافة العربية، هذا الأخير يتجلى في ضعف القدرة العقلية للمرأة، الشيء الذي ينعكس سلبًا على حضور المرأة في نصوص النقد العربي.
لقد قوبل انتقال المرأة من عالم الحكي الذي برعت فيه عبر العصور إلى الكتابة بالكثير من الرفض، فذلك العالم الذي ارتبط بالفحولة وسيادة الفحولة كانت المرأة فيه الملهم للرجل، لم يسمح لها أن تتجاوز ذلك وتصبح فاعلًا عوضًا عن مفعول به، فلم يُقبل أن تكون المرأة الشاعرة عوض الغرض الشعري، لم يقبل المجتمع العربي أن تحكي عن لوعتها وأسرار اشتياقها، كما يفعل كل شعراء العرب، بشكل فيه نوع من التفاخر، رغم ما تصفه القصائد من تذلل في الحب.
ووفق الدراسة نفسها لد.خضير، فثمة نظرة تنفي عن الشعر صفة الإسهام والموهبة، وتجعل منه علمًا، فهل يمكن للمرأة الاقتراب من هذا العالم: عالم الشعر؟ مع ما استقر في اللاوعي الجمعي من ضعف عقلها وسخافة رأيها، ومن ثم فإن «أي استعمال للغة من قبل هذا الجسد يكون رغيًا وثرثرة وحماقة، وهنا لا أنفك أستحضر قولة لأبي الثناء الألوسي، يمقت فيها النساء الكاتبات، والشاعرات، فيقول إن «إبرة الخياطة وليس القلم هي الأداة التي يجب أن يتعاملن بها، وهي الوحيدة التي هن قادرات على استعمالها بمهارة»، أليس هذا تسجيل واضح يبصم مدى الذكورية الممارسة على السيدات داخل ساحة الأدب؟ الميزوجينية نفسها هي التي تجعل النقاد العرب بعيدين كل البعد عن الأخذ بالدراسة والتحليل إنتاجات الأديبات العربيات، والتعريف بهن أكثر حتى يتسنى لنا كمتلقين التعرف إلى أعمالهن من باب النقد الرصين الذي سيشد بأيدينا إلى الفهم الصحيح للمضمون.
ووفق أحد الكتاب، فإن النظرة الدونية إلى الأدب الذي تنتجه النساء الشاعرات جعلت في القديم النقاد يصفونه باللين وضعف الأسلوب، حيث إنه لا يرقى إلى مستوى الأدب الذي تنتجه قرائح الرجال، ومن خلال بحث بسيط في الأسباب التي جعلتهم يبررون خلوصهم إلى هذا الرأي، أن شعر النساء هو نظم من النوع الخفيف، بحيث المقطوعات التي تقولها المرأة لم تكن لتزيد عن البيت والبيتين والثلاثة، مما يجعلها لا تقدر على الاستمرارية والتواصل، غاضين الطرف عن كون ظاهرة البيت الواحد أو البيتين لا تختص بالنساء فقط، بل تنسحب على شعر الرجال أيضًا، الشيء الذي لم يعدوه لا عورًا ولا عيبًا في تجاربهم، بل دُرِسوا ولقوا العناية النقدية، بينما اعتبر منقصة وجرمًا عندما تعلق الأمر بالشاعرات.
كانت المرأة ولا تزال أهم الأغراض في القصائد الشعرية، فهي حاضرة في كل المقدمات، سواء تعلق الأمر بالمدح أو الهجاء أو حتى الرثاء، كل هذا دون الإغفال عن غرض النسيب، والذي يختص بذكر المرأة، وصفاتها المتنوعة التي تبرز من خلاله قيم جماليَّة أو تبيان مواجد الشعر نحوها، والشاعر الرجل، الذي اكتسب ميزة عن النساء بعقله، بينما هن كن ناقصات العقل والدين، يجعل من شعره مكانًا لاعتلال العقل، بدرجات متفاوتة للتعبير عما أصابه من الحب مبيحًا لنفسه الإبداع في شعر الغزل ووصف المرأة، فالجنون مكون مهم من مكونات العشق، بينما شاعرات العصر الأموي والشعر الجاهلي وغيرها من الحقب لم تكن لتنظمن الشعر ببساطة وحرية، فكثيرًا ما كانت الشاعرات يلجأن إلى أسماء مستعارة وكثير من أسمائهن عبر الكنية وليس الاسم الصريح (أم فلان، امرأة فلان، بنت فلان، أخت فلان… إلخ).
قبل الوصول إلى خلاصة كل ما جرى جمعه لصياغة هذا المقال، لقد كانت المرأة العربية سباقة للإبداع سواء تعلق الأمر في الشعر أو في باقي الأجناس الأدبية، لكن سلاسل العادات التي كانت تفرض «العيب» على كل عاطفة قدر لها البوح على الورق، جعلت الطريق أمامها وعرًا، ففي النهاية، الأدب بوح وجداني لا يخلو من العاطفة والتمرد وإعلان العصيان بأجمل العبارات، فالمجتمعات العربية نفسها التي تكبل مشاعر الرجال من الخروج للعلن إن خسر معركة في الحب، تبارك له ما يشاء في الشعر، تمجد نزار، وتجارب نزار، واعترافات نزار، لكن ترفع قضية عار ضد نساء إذا ما أردن مقاسمة بوحهن الشعري، وتغيب أسماؤهن كما لو أن يومًا لم تخلق نازك الملائكة الشعر الحر، ولم تنافس ولادة بنت المستكفي شعراء قرطبة والأندلس.
إن مجموع الدراسات التي اهتمت بموضوع تحيز الأدب ضد المرأة تحصلت على نتيجة جامعة موحدة، مفادها أن الصورة السلبية التي كونتها الثقافة عن المرأة، تمثل صورة شاملة لكل الجوانب المتعلقة بها، الثقافية والمعرفية والبيولوجية والسيكولوجية، والذي يجعل النقد مؤسسة فاعلة ومتأثرة ببقية مؤسسات المجتمع العربي القديم فقد سعت هذه الأبحاث إلى بلورة نظرة خاصة للمرأة من خلال نصوص النقد العربي. هذه الأخيرة هي نظرة لا تتقاطع في المطلق مع التصورات المتشكلة حول المرأة بقدر ما تؤكدها وتتلاءم مع توجهاتها الإقصائية والظالمة للمرأة.
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبتها/كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.