بلقيس عمار/ حكايات سورية- كنت أحلم أن أكمل تعليمي، وأدخل الجامعة. لم يكن الاختصاص مهماً بالنسبة لي، المهم أني كنت أريد أن أصبح طالبةً جامعية، وأكمل دراستي وحسب.
كنت أميل للغة الإنكليزية ولكنها لم تكن هدفي الوحيد. وبالفعل عندما أنهيت امتحان الثانوية العامة، صدرت النتائج ونلت أعلى معدّلٍ في القرية، والفرحة غمرت العائلة بأكملها. جاء وقت المفاضلة والقبول في الجامعات.
كنت أريد أن أحقق أولى رغباتي، اللغة الإنكليزية. لكن أبي رفض وبشدّة. لأن أخي الأكبر كان يدرس اللغة الإنكليزية ورغم تفوّقه إلّا أنّه كان يعاني من صعوبةٍ في هذا الفرع. لذلك رفض أبي وأخي أن أدرس نفس التخصص. رغم أني حصلت على علامة الاختصاص لهذا الفرع على أمل أن أدرسه.
نصحني أبي بأن أنتسب لكلية التربية (تخصص معلم صف) فهي الأفضل للإناث في المستقبل. وفعلاً تماشيت مع رغبة أبي ولكن الحظ لم يحالفني بسبب نقص علامةٍ واحدة. وبعد فترة من المفاضلة صدرت نتائج القبول في الجامعات.
تمّ قبولي في قسم التاريخ، وكان يتوجّب علينا الذهاب إلى الجامعة التي قُبِلت فيها من أجل التسجيل والسير بالأوراق اللازمة لتثبيت التسجيل. وفعلاً قُبِلت في مدينة حمص والتي كانت هي حلمي.
وعندما بدأ التسجيل ذهبت برفقة أخي حيث كانت لديه خبرة بأمور التسجيل. وذهبت معنا أيضاً ابنة عمي التي قُبِلت في نفس الجامعة. كانت أكبر مني بسنتين، لكنها لم تُقبَل بالجامعة إلّا في تلك السنة بسبب تدنّي علاماتها في الثانوية العامة. والحمدلله أنها قُبِلت في نفس جامعتي بل ونفس الكلية. وهو ما حصل تماماً مع ابنة خالتي.
ولحسن حظي دخلنا الجامعة معاً لكي نؤنس بعضنا، في نفس الكلية.
الانتقال كان صعباً. لم أتعوّد على المكان ولا الأشخاص. لم أكن أحبّ أن أذهب إلى الجامعة في الفترة الأولى. كلّ شيءٍ غريب ومختلف، وكنت عندما أرجع إلى المنزل في إجازةٍ أحاول التأخّر في العودة إلى الجامعة. لم أكن أريد العودة إلى هذا الجو الغريب.
كانت ابنة خالتي ووالدها هما من يحثّاني على الذهاب إلى الجامعة، وألّا أتأخر عن الدوام وعن حضور المحاضرات. كان زوج خالتي دائماً ينصحني بأنّ الدراسة هي أهم ما تملكه الأنثى، وبأنها سلاح المرأة في كلّ زمانٍ ومكان، وبأنّ السنة الجامعية الأولى هي التي تحدّد سير الحياة الجامعية، ويجب عدم إضاعتها.
وكان لكلامه تأثيره الإيجابي، وبدأت بالذهاب إلى الجامعة، وكنت أحضر غالبية المحاضرات. وأحاول ألّا يفوتني شيءٌ أبداً. كنا نذهب إلى الجامعة أنا وابنة عمي وابنة خالتي. كنا دائما سوياً، حتى أني كنت أسكن أنا وابنة خالتي في نفس الغرفة في السكن الجامعي.
كانت تسكن معنا فتاةٌ من مدينة منبج في ريف حلب، وفتاةٌ أخرى من مدينة البوكمال في ريف دير الزور، كانتا تدرسان اللغة العربية أيضاً، وفتاةٌ ثالثة من مدينة مورك في ريف حماة، كانت تدرس في كلية العلوم قسم الرياضيات.
كنا نحن الأربعة في قسم الآداب في السنة الأولى، أو كما يسموننا بالطلاب المستجدّين، أما هي فكانت في السنة الثانية. كنت دائماً أراها تدرس وتمسك بيدها القلم ومحاضرات وأوراق بالإضافة إلى آلةٍ حاسبة. حتى عندما تأكل، كانت تأكل بسرعة البرق وتعود إلى الدراسة فوراً. كنت مستغربة منها جداً، لاننا لم نكن مثلها أبداً. حتى أنها لم تكن تهتم بمظهرها أبداً.
وبعد معرفة صديقاتي، وعندما بدأت أعتاد وأحبّ كلّ شيءٍ في المكان؛ بدأت النهاية… بدأت الحرب في سوريا، وبدأ الخوف.
كنت في السكن الجامعي عندما بدأت أصوات رصاصٍ تعلو، وبدأت الطالبات بالبكاء والصراخ، والحرس يصرخ لاتخافوا نحن نحميكم.
وبعدها ازدادت الأوضاع سوءاً.. وفي منتصف سنة 2011 أصبحت أذهب إلى الجامعة بشكلٍ متقطّع بسبب صعوبة الطريق وخوف أهلي. في فترة الامتحانات كنت أذهب لتقديم المادة والعودة في نفس اليوم.
لم تكن هذه حالي أنا فقط، هكذا بل كنا مجموعة طلاب من نفس القرية نذهب ونأتي في وقت الامتحانات. معاً كنا نخرج صباحاً ونعود عندما ينتهي الجميع من تقديم امتحانه.
وفي ظل هذه الظروف الصعبة ووجود العشرات من الحواجز التي تقوم بإيقافنا على الطريق بحجّة التفتيش، أكملت دراسة السنة الأولى. كنت أذهب وآتي إلى حمص حيث كانت جامعتي، وفعلاً انتهيت منها ونجحت.
انتقلت إلى السنة الثانية التي لم أر منها إلّا يوماً واحداً. وهو يوم تثبيت التسجيل عند بداية السنة. حيث كانت النهاية لهذا الحلم وتوقّفت عن الدراسة، وتوقّفت عن الذهاب إلى حلمي وجامعتي.