نجاة عبد الصمد/ aljumhuriya- بعد مضيّ ما يقارب المئة عام على صدور غرفة تخص المرء وحده (1929)، لا تزال ڤرجينيا وولف وكتابها حاضرَين بيننا بتأثيرٍ يزيد ولا ينقص، ما يستدعي العودة إلى ظروف إنتاج هذا الكتاب، والتوقف عند بضع محطاتٍ من حياة مؤلِّفته، تمهيداً للدخول إلى متن كتابها بانتباهٍ أكبر، أو ربما بقراءةٍ جديدةٍ له، متجدّدة.
قبل ثمانية عقود، وفي يوم 28 آذار (مارس) 1941، انتحرت الكاتبة البريطانية ڤرجينيا وولف غرقًا في نهر أوز في إنكلترا. سيبقى انتحار المبدعين علامة استفهام كبيرة في تاريخ الأدب، كما ظلَّ أدبُ ڤرجينيا وولف محط اهتمام كبير لما ترك أثره من حلقةٍ مفصلية في تاريخ الأدب النسائي والعالمي حول سؤال الكتابة النسائية، والتحديات التي تواجه النساء الكاتبات.
ولدت ڤرجينيا وولف عام 1882 في أسرةٍ شغوفةٍ بالفنون والمساجلات الفكرية. توفيت والدتها باكراً، ورعاها والدها، الدكتور في الآداب في جامعة أوكسفورد، مع أختها وأَخويها اللذين درسا في الأكاديمية الملكية. أما ڤرجينيا فقد تلقّت تعليماً خاصاً، بسبب ما عانتْه من نوبات انهيارٍ نفسيّ بدأتْ تراودها منذ عمر الثالثة عشرة، تظاهرتْ في عدم القدرة على النوم والأكل والتركيز، وفقدانٍ تامٍّ للثقة بالنفس، وهي ذاتها علامات المرض الذي سُمّي لاحقاً: جنون الهوس الاكتئابي.
خارج أوقات النوبات، بدأت ڤرجينيا تكتب وتُدوّنُ باكراً، وساعدها أخوتها على إصدار نشرة ثقافية، ثم نشرت مقالاتها في صحيفة الغارديان اللندنية. كذلك نشطت في حركة حق التصويت للمرأة. تزوجت في عمر الثلاثين من رجلٍ مهتم بالثقافة. معاً أسّسا مطبعة، وسار زواجهما على قاعدة التكافؤ الفكريّ. كما دوّن زوجُها سجلّها الصحي، واستشارَ الطبيب بشأن ما إذا كان من الحكمة لڤرجينيا أن تنجب بسبب نوبات انهيارها.
صدرَ قانون حق التصويت للمرأة في بريطانيا عام 1919، ومن قبله كانت كثيرٌ من الجامعات لا تزال مقفلة في وجه النساء. وحتى حينه، كانت ڤرجينيا قد اشتغلت في وظائف غير ثابتة، وفي زوايا غير مهمة في الصحف، كتغطية أخبار الأفراح أو المسابقات، وبدخلٍ غير مُنتظَم. ولا تتذكر مِن عملها غير سُمّ المرارة والخوف والإحساس بالعبودية لربّ العمل.
بعد صدور قانون حق التصويت، حدث أن ماتت عمة ڤرجينيا وولف. كانت العمّة مسافرةً في رحلةٍ إلى بومباي، وهناك وقعت عن ظهر حصان. بوفاتها، أورثت العمّةُ ڤرجينيا خمسمئة جنيه في السنة، (ما يعادل 50000 دولاراً في السنة في أيامنا). بهذه التركة، أُعفيَتْ ڤرجينيا من القلق والحاجة إلى عمل يُؤمن لها طعاماً ومسكناً لائقاً. ووجدت وولف هذه الـ 500 جنيه في السنة أهم من حق التصويت للمرأة!
عام 1941، وقد أصبح عمرها 59 عاماً، كتبت ڤرجينيا لزوجها: «بدأتُ أسمع الأصوات من جديد، لا أستطيع المقاومة ولا أستطيع الاستمرار في إفساد حياتك. لقد فقدتُ كل شيء، إلا الثقة في طيبتك!». ثم قطعت الحقول سيراً حتى نهر أوز، وضعت حجراً كبيراً في جيب معطفها وألقت بنفسها إلى الماء تاركةً خلفها أعمالاً كثيرة منها: مِسز دالاواي وإلى الفنار والأمواج وغرفة يعقوب وغرفة تخصّ المرء وحده.
جولةٌ مع الكتاب
اعتُبِرَ كتاب غرفة تخصّ المرء وحده مانيفيستو الحركة النقدية النسوية في القرن العشرين، هذه الحركة التي تراكمتْ بطيئاً منذ نهايات القرن الثامن عشر مع انتصار الثورة الفرنسية، ثم حركة تحرير العبيد في الولايات المتحدة.
بدأت فكرة الكتاب من محاضرتين أَلقتهما وولف على الطالبات في جمعية الفنون في نيونهام، ثم طَوَّرتهما حتى أصبحتا كتاباً مهمّاً وممتعاً، صدر عام 1929. خُلاصة هذا الكتاب: «إذا أرادت المرأة الكتابة فيجب أن يكون لها غرفةٌ ودخلٌ مُنتظَم مهما كان صغيراً». وللوصول إلى هذه الخلاصة، استعرضت وولف تطور المجتمع الإنكليزي منذ القرن السادس عشر حتى أول القرن العشرين. ومن خلالها طرحت مجموعة أسئلة:
هل هناك أسلوب للكتابة تختصّ به النساء؟ وما هي معايير الكتابة الجيدة؟ وما هي العلاقة بين الكتابة والجنون؟ وهل هناك قيم ذكورية وأخرى أنثوية؟
في صياغة أفكارها لِطالباتها، اخترعت وولف بخيالها الأدبيّ مكاناً وهمياً، أسمته جامعة إكسبرج (أوكسفورد + كامبردج) في مدينةٍ وهميةٍ أسمتها فيرنهام كمسرحٍ لحكايتها. وعلى الطالبات أن يأخذنَ من هذه الحكاية الخيالية وجه الحقيقة الذي يروق لعقل كل منهنّ، كي تعثر على طريقتها الخاصة في التعبير.
تتخيل وولف امرأةً ما، تتحدث بصيغة المتكلم، تسير في حديقة هذه الجامعة، المفروشة بالحشائش، ويعترضها رجلٌ غاضب: «المشي هنا ممنوع!». ردة فعلها الأولى كانت في استيقاظ الغريزة وليس العقل: «أنا امرأة وهذا حارس الجامعة، والسير على هذه الحشائش مسموح فقط للأساتذة والطلاب، أما الآخرون فيسمح لهم بالمشي فقط على الدرب المفروش بالحصى». ولم يزعجها المشي على الحصى، بل قَدَّرَت أن أساتذة الكلية وطلابها يزرعون أرض الحديقة بالعشب منذ ثلاثمائة عام، ومن حقهم أن يصونوا ما زرعوا. تابعت السير إلى المكتبة، وأوقفها الحارس بأدب: «الدخول غير مسموح للنساء إلا بصحبة أستاذ من الكلية أو مع خطاب توصية خاصّ». هل تقاوم؟ فَكَّرَت كم هو مؤذٍ أن يُوصِدَ مكانٌ كالمكتبة بابه في وجه القاصدات. لا تزال لديها ساعة قبل موعد الغداء. مشت وصارت الكنيسة مقابلها، لم تدخل وإن كان من حقها كامرأة دخولها. استرجعت تاريخ الكنيسة التي بُنيتْ من تبرعات الملوك والملكات والنبلاء حتى اكتملت، واستمرت التبرعات من التجار والصناعيين ليضمنوا أن تستمر التراتيل ويستمر العلم. إنما أصبحت هذه التبرعات تمويلاً لمنح دراسية للأساتذة والطلاب ليتعلموا الحِرَف. في غمرة أفكارها انقضت الساعة وحان وقت الغداء الذي وصفته بتفاصيله، ثم سيرها بعده، إلى موعد العشاء البسيط الذي تقول بعده: «إن المرء لا يستطيع التفكير جيداً أو الحب جيداً أو النوم جيداً لو لم يتعشَّ عشاء جيداً». ومن جملة ما فكّرتْ فيه: لماذا يشرب الرجال النبيذ وتشرب النساء الماء؟ لماذا حالُ الرجال مزدهر موسر، بينما المرأة على هذا القدر من الفقر؟
لم يكن التعليم العالي مسموحاً للنساء، ولا الإدلاء بآرائهنَّ، وليس في الأفق سوى أفكار خجولة عن إنشاء كلية لتعليم البنات، ولا أحد يريد أن يتبرّع لهذه الكلية بسخاء. ووظيفة النساء إنجاب دزينةٍ من الأطفال، وليس متاحاً لهن الشغل في أية مهنة مرموقة. كانت أفضل الوظائف المتاحة للنساء: القراءة لسيدات مسنات، أو كتابة العناوين على أطراف الخطابات، أو صنع ورود صناعية أو تعليم الأبجدية لأطفال الحضانة. ولا يُجيز القانون لهؤلاء النساء حق امتلاك ما ينتجن من مال، بل هو ملكٌ للزوج. ولم تبدأ الأفكار حول تغيير هذا القانون إلا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.
في اليوم التالي تابعت ڤرجينيا رحلتها الافتراضية إلى مكتبة المتحف البريطاني، حيث عددٌ هائلٌ من الكتب. وواجهتها مشكلة أنها لم تتلّق تدريباً في الجامعة حول آلية البحث، بينما الذكور يتلقون! وفي بحثها المضني وجدت أن جميع الكتب ألّفها رجال، وليس لدى بعضهم أية مؤهلات سوى أنه ليس امرأة! وكلهم كتبوا كل شيء عن النساء، أنهنَّ إما بلا شخصية، أو متطرفات. نابليون كتب عن عدم قدرة المرأة على التعلّم، وكتب بروفيسور عن المرتبة العقلية والأخلاقية والفيزيائية الأدنى لجنس النساء، وآخرُ كتب أن النساء آلهة. ولم تجد وولف كتباً ألّفتها النساء عن الرجال، بل لم تجد على الإطلاق كتباً ألّفتها النساء!.
شعرت بالغضب من أن إنكلترا مجتمع أبويّ. كل هذا المكتوب هو انطباعات وليست حقائق مقرونة بالأدلّة. استنتجت أن النساء كُنَّ مرايا الرجال، وأنّ سطوة الرجال وثِقتهم بأنفسهم أنهم الأقوى تتحقق عبر ضَعف النساء، أو أنّ الرجال ليسوا أعلى إلّا لأن النساء أدنى، وهذا ما يشحذ حيويتهم. وحين راحت تتغدى وأخرجتْ من جيب محفظتها ورقة العشرة شلنات، من إرث عمتها، زالَ بعضُ تلك المرارة والسُمّ، وكذلك الكراهية للرجل الذي لم يعد بإمكانه أن يؤذيها، ولا أن يمنّ عليها، فقد صار لديها 500 جنيه في السنة. زال الغضب حين أدركت امتلاكها لحرية الاختيار! واستنتجت: «عندما تكفّ الأنثى عن الانشغال بتبعات أنوثتها ويكف الآخرون عن حماية هذا الانشغال، يمكن أن يحدث التغيير».
تابعت التفكير: ما هي الظروف التي عاشتها النساء بحيث لم يكتبن حتى في عهد الملكة إليزابيث الأولى (التي حكمت منذ عام 1558 لمدة 44 عاماً)، وازدهر عهدها بالأدب؛ فهو عهد شكسبير وكريستوفر مارلو، وفيه كتب كلُّ رجل على الأقل قصيدة بينما لم تكتب النساء شيئاً!.
واستنتجت أنّ «الكتابة ليست فعلاً معزولاً عن الحياة وإنما مرتبطة به».
في ذلك العهد، ليس الفقر وحده ما كبّلَ النساء، بل أنهنَّ كذلك مُلكٌ للأزواج حتى في أوساط الطبقات النبيلة. أما غالبية نساء الطبقة الوسطى، وهُنّ الأغلبية، فلم يعرفنَ القراءة ولم تبرز من بينهنّ شخصية واحدة، في الوقت الذي جسّدتهنَّ الأعمالُ الإبداعية للرجال كنساءٍ قويات الشخصية والعزيمة، (مدام بوفاري مثلاً ظهرت على يد غوستاف فلوبير: كدودةٍ لها أجنحة نسر). إنما في الواقع كان ذلك عهد ضرب الزوجات والبنات وتزويجهنَّ حسب مصالح الأسرة، وعقد بعض الزيجات بينما لا تزال المرأة طفلة في المهد، والزوج وصيٌّ على كل شيء.
وللمفارقة، كانت العائلاتُ حينها تُحبّ بناتها وتُعاملهنّ بلطف ولباقة، وبالمعروف تطلب منهن القبول بزواجٍ يحقق مصلحة العائلة، وإن رفضن يضربونهنّ أو يعاودون التودّد إليهنَّ كي لا يجلبنَ العار للأهل، أو يُخرّبنَ مصالح العائلة. أي أنّ المرأة خاضعةٌ لسلطة القانون وسلطة الأب وسلطة الأعراف، ولا حق لها في التعليم، ما يجعل النساء مُغيّبات؛ يُضربنَ ويُرمى بهنّ على أرضية الغرف، وينجبنَ الأطفال ويطبخن ويُنظّفنَ وحسب.
وحين وصفوا عبقرية شكسبير قالوا: «لن تتسنى لامرأة لا في عصر شكسبير ولا قبله ولا بعده». أين ذهبت العبقريات الخفية إذاً بين هؤلاء النساء؟
يعتقد إدوارد فيتزجيرالد أن الأغاني الشعبية العظيمة وترانيم الأطفال، مجهولة النسب، لم تؤلفها سوى امرأة. كُنَّ يخفين الاسم كي لا يُقتلن، ولو كَتبنَ تحت تلك الظروف كتابة علنية لخرجت مشوهة، فتقليد العفّة الذي سربلَ النساء على مرّ العصور جعل شهرة النساء مُستنكَرة، وجعل النساء تعيساتٍ بقمعهنّ لأنفسهنّ أيضاً من شدة خوفهنّ من قمع الآخرين.
ولأن وولف وجدت أنه لم يصلنا شيءٌ من كتابات النساء عن حياتهنّ قبل القرن الثامن عشر، لجأت إلى الخيال، واستعادت سيرة أسرة شكسبير الغنية: نشأ شكسبير صبياً طائشاً يهتم بالصيد، ثم تعلّم ودرس الثقافة الإغريقية وتزوج باكراً وأنجب طفلة، ثم ترك كل شيء وسافر إلى لندن. بدأ سائساً يعتني بالخيول على باب المسرح ثم أصبح ممثلاً فيه، ونجح. تخيّلت وولف أنّ لشكسبير أختاً موهوبة، ورآها أبوها تقرأ كتاباً فزَجَرها لكيلا تهدر وقتها مع الكتب، وأن تعود إلى رَتق الجوارب أو تقطيع الباذنجان. ثم تَودَّدَ إليها بعِقدٍ من الخرز لترضى بتاجر صوفٍ تقدّم إليها، وفيه ما يلبّي مصلحة عائلتها، وحين رفضته ضربها وحبسها. ماذا ستفعل أخت شكسبير إذاً، وهي المسكونة بالإبداع، لتتحدّى هذا الظلم؟ سوف تعصي أباها وتمدّ حبلاً من النافذة وتهرب إلى لندن لتُمثّل. وفي المسرح سخروا منها؛ فلا يمكن للمرأة أن تتلقى التدريب، ذلك أنّ امرأة تمثل أشبه بكلبٍ يرقص. إلا أن ممثلاً شهيراً عطف عليها ووجدت نفسها حاملاً منه، فانتهتْ إلى قتل نفسها.
مع بداية القرن التاسع عشر، ظهرت السِّير الذاتية للكُتّاب الرجال، وكشفتْ هذه السّيَر المعاناةَ الإنسانية للكاتب الرجل؛ أنّ أصعب ما يعانيه هو ألّا يكترث به أحد! لكنّ المرأة كانت تعاني من كل شيء: من عدم الاكتراث بها ومن غياب المال والغُرفة الخاصة بها والهُزء منها إن حاولت الكتابة. وحين بدأت الواعظات والخطيبات بالظهور، (وهذه المهنة هنا كناية عن كل مهنةٍ خلّاقة)، سخروا منهنّ ووصفوهنّ بـ «ذوات الجوارب الكحلية، المستلَبات إلى حكةٍ تدفع بهنّ إلى النقش على الورق، وانسحب عليهن تشبيه المرأة التي تُمثَّلُ بالكلب الراقص على قائمتيه الخلفيتين، وهو لا يجيد الرقص على أية حال، الغرابة في أنه أصلاً يرقص!».
واستنتجت وولف أن التاريخ يُكرر نفسه من جديد؛ فجوهر وجود النساء هو أنهن خاضعات للرجال، والرجال قوَّامون عليهن. وأن تاريخ مقاومة الرجال لتحرر النساء ربما كان أكثر إثارةً من قضية التحرر نفسها! لهذه الدرجة كان يُستهان بالمرأة في أوروبا حتى حلول القرن الثامن عشر.
وفي النصف الثاني منه كتبت نساء الطبقة المتوسطة مقالات عن شكسبير مثلاً، ولأن هذه المقالات كانت مدفوعة الأجر، بدأ المجتمع يستسيغها، بل ويحترمها من باب المال الذي عادت به الكتابة على المرأة، بعد أن كانت العفّة نقيضَ أي نوع من الفنون. كانت هذه نقطة تَحوّل ظهرت من خلالها النساء الأرستقراطيات، وكذلك ظهرتْ للمرة الأولى نساء طليعيات من الطبقة الوسطى: جين أوستن والأخوات برونتي وجورج إليوت وإليزا كارتر. (إليزا مثلاً بالغتْ في اجتهادها بأن علَّقت جرساً على سريرها كي تصحو باكراً وتتعلم اليونانية..). وهؤلاء النساء لم يكن لديهن إرثٌ سابقٌ من الكتابة النسائية يعتمدنَ عليه، ولا غرفة تخصهنّ وحدهنّ، ولا دخل. وكُنَّ يكتبنَ بالسر عن العائلة، ويحمدن الله على صرصرة الباب عند دخول أحدٍ ما، ليتنبّهن فيُخبّئنَ الورق. ومع ذلك فقد كتبنَ بلا مرارة وبلا خوف ولا غضب. كُنّ شجاعات، فالكتابة تحتاج إلى الهدوء وإلى الحكمة، حتى جاءتْ كتابتهنّ إعلاناً عن ثمرة سنين طويلة من التفكير حتى التغيير.
في القرن التاسع عشر، الذي سُمّي بالعصر الملحمي لكتابة المرأة، صار بإمكاننا رؤية رفوفٍ من الكتب بأقلام النساء، والشاعرات منهن سبقن الروائيات، فقد كان الاتجاه التلقائي نحو الشعر. وفي الرواية كان المقياس في تمام الخلق أو نقصانه، أي أن يُقنعننا بأنهنّ يقلنَ الحقيقة. (على رغم أنّ شارلوت برونتي أخفقت مثلاً في أمكنةٍ ما من روايتها حين أصابتها النقمة على واقعها وكان عليها أن تكتب بحياد، أو لأنها حرّفت رأيها ليوافق الآخرين، حتى إنها تركت على قارئها أثر التشنج من الألم).
وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لم تعد النساء شاعرات أو روائيات فقط، إنما أصبحنَ يكتبن في الأركيولوجيا والتاريخ وعلم الجمال والرحلات. وفي الرواية استطاعت ماري كارمايكل أن تكتب في روايتها مغامرة الحياة عن المثلية الجنسية ولو تلميحاً: «كلوبي كانت تحب أوليفيا. لا تنزعجنَ ولا تحمر وجوهكنّ. إن مثل هذه الأشياء تحدث». كانت هذه الإضاءة من ماري كارمايكل هي الأولى في مجال الأدب على حُجرةٍ لم يطأها من قبلها أحد.
وتعود ڤرجينيا وولف إلى إبداع الرجال، تورد مثالاً لأسماءِ اثني عشر شاعراً عظيما في المئة سنة الماضية، تسعةٌ منهم كانوا خريجي جامعات، أي توفّرتْ لهم وسائل المعرفة التي تحتاج إلى مالٍ لشرائها. ولذلك، فالمقولة التي تؤكد أن العبقرية موزعة بالتساوي بين الفقراء والأغنياء ليست صحيحة تماماً، فلا تكفي الموهبة وحدها، بل تحتاج إلى التعليم والاكتفاء الماديّ. والنساء كنّ دائماً فقيرات كما كان التعليم مغلقاً عليهن.
وصلت وولف بجولتها في شوارع لندن إلى العام 1928، حيث لاقتْها الحضارة الصناعية وتنوع البشر. رأت رجلاً وامرأة يوقفان التكسي سوياً، فشعرت بالرضا، وحدةُ الرجل والمرأة هي أساس أعظم الرضا، بتعاونهما الروحيّ يؤثّرَ عقلُ كلٍ منهما في الآخر؛ يتأثَّر الجزء الأنثوي من عقله بعقلها والعكس. الذهن تام الذكورة لا يستطيع الخلق والإبداع، ولا تامّ الأنوثة كذلك. العقول مزدوجة الجنس هي عقول عظيمة، متجاوبة ومتوقدة وخلّاقة. وترى وولف أنّ التحوّل الذي وصل مجتمعها إليه ما كان ليصير لولا نجاح هذا المجتمع في إحقاق التصويت للمرأة عام 1919، الذي جعل الرجال، للمرة الأولى، يشعرون بالتهديد من تنامي حقوق النساء، ولهذا تكبدوا مشقة التفكير بخصائص جنسهم!
راحت وولف تفكر بهذا النوع من التعاون داخل الذهن والوجدان بين المرأة والرجل كزيجة بين الأضداد؛ أن يعيشوا حياة حقيقية وليس حيوات متفرقة، أي أن تكون حياتهم معاً هي عالم الحقيقة. ولن يتحقق هذا إلا بالاكتفاء المادي للمرأة، أي بضرورة تَوفُّرِ 500 جنيه وغرفةٍ خاصة. الأولى رمزٌ للتمكّن الاقتصادي، والثانية رمزٌ لسلطة التأمّل، امتلاك سلطة التفكير كي لا تكتب المرأة إلا قناعاتها، وأن تعرف كيف تكتبها!
وفي الفصل الأخير من كتابها، توصي ڤرجينيا وولف طالباتها: «اكتبنَ في كل شيء، وعشنَ حياتكنّ وأثِّرنَ في الحاضر والمستقبل وكنّ أنفسكن». ثم تستفزهنّ: «ألم تسأمنَ من تلك المقولة: النساء لا يحببن النساء. النساء في منتهى القسوة على النساء؟ تذكّرنَ أن النساء اللواتي لم يصنعنَ التاريخ مباشرة كن يصنعن أساسيات الحياة فيه من طبخٍ وغسيل وإنجاب عشرة أولاد. الآن علينا الإنجاب أيضاً، إنما بالكثير طفلين أو ثلاثة، ومتابعة تعليم وتثقيف أنفسنا والإحساس أن أخت شكسبير، العبقرية الافتراضية، تعيشُ في روح كل منا. بها سوف نصنع الحياة التي نشتهيها طالما نحن نبذل من أجلها ما نستطيع».
ماذا نستخلص؛ نحن أبناء وبنات المناطق المنكوبة، من هذا الكتاب؟
بعد مئة عامٍ من ولادة هذا الكتاب، حيث بدأت الحركة النسوية في بلادنا مع حركات التحرر من الاستعمار، وبرزت أسماء مثل هدى شعراوي وسيزا نبراوي ونبوية موسى وملك حفني ناصيف، ثم مثيلاتهنّ من الجيل الثاني، نوال السعداوي ودرية شفيق، وحتى اليوم، لم تسر النسوية خلالها على خط بياني هادئ، بل سلكت دربها في صعود وتعثّر، وتغلبت على كثير من العقبات، واتخذت الأفكار النسوية وكذلك مسألة النقد النسوي توجهّاً أكاديمياً، إنما لا يزال الكثير ينتظر الإنجاز، ويحتاج إلى الوقت والعمل، لتبلغ النساء في بلادنا ما وصلت إليه مثيلاتهن في المجتمع الإنكليزي قبل قرنٍ من الزمن.
لعلّ الأهم في وصية ڤرجينيا وولف، إن جازت تسمية الوصية، أنها لا تخصّ الغرفة وحدها ولا النساء وحدهن، وإن كن المقصودات بالنداء. فلو أنها أرادتها للنساء وحدهنّ، لصاغت عنوانها: غرفة تخص المرأة وحدها. لكنها عنونتْ كتابها: «غرفةٌ تخص المرء وحده»، أي الإنسان عموماً. واختصّت المرأة بتوجيهها إلى المساحة الخاصة بها، لتكتب أدباً يرتقي بالوعي بطريقةٍ غير مباشرة، أي الفكر والأدب المُجدي للجميع على المدى البعيد، بمن فيهم النساء.
كذلك تصلح وصيتها لكل زمن ولأية مهنةٍ إبداعية. فحين توصي: اكتبنَ في كل شيء، يمكن أيضاً أن نفهم منها: اشتغلنَ في كل شيء. وعلى التوازي، توقظ تيار الوعي بالإفصاح عن الكيفية التي يتوصل الإنسان فيها إلى أفكاره، ثم يحدّد أولويات وأُسس عمله أياً كان حتى يتقنه.
ولو سألنا أنفسنا اليوم كنساء كاتبات أو عاملات في مجالات الإبداع: ما الذي تعنيه الغرفة الخاصة و500 جنيه في العام؟
لعلّ عبقرية ڤرجينيا وولف تكمن في إلهامها للنساء ليركزنَ على أمرٍ جوهريّ: كيف يأخذنَ أنفسهنّ على محمل الجد ككاتبات في العالم؟
هل تستطيع أية امرأة من الطبقة الوسطى أو الطبقة العليا لديها أموال موروثة أن تكتب؟ يمكن أن يشتري المال درجةً ما من الحرية، وقد يمكنه شراء قفل. إنما، وبوجود المال، كيف على المرأة أن تجد طريقها إلى الكتابة بحريّة؟ من هنا يبدو أن جوهر الأمر يكمن في كيفية إدارة المفتاح!
في أيامنا تعمل معظم الكاتبات بدوام كامل أو جزئيّ لإعالة أنفسهنّ، وبعضهن هُنّ المعيلات الوحيدات لأُسرهنّ، فالأمر إذا لا يتعلق بالرغبة في غرفة وحدها، ولكن بالحاجة إلى تحديد الفكرة والغاية، وإلى الوقت.
في إحدى لقاءاتها صرّحت الكاتبة الأميركية توني موريسون أنها قد تجلس إلى الكتابة وطفلها في حضنها، يَشدّ شعرها وأَقراطها، بينما قد يحبس الرجل نفسه في مكتبه طيلة الوقت الذي ينجز فيه كتابه، ولا يرى خلالها حتى أطفاله. والطفل هنا رمزٌ للعصر، ولكل المعوقات التي تقف في وجه إلهام المرأة.
لقد تغيّر الزمان وعَبرت النساء مخاضاتٍ كثيرة، لكن الذي لم يتغير بمرور الوقت هو أنّ الأسرة ورب العمل وغيرهما، يتوقعون من النساء أنهنّ حاضرات دوماً لطلبات الآخرين! أي أن تضطر المرأة للكتابة، وهي تُحضِّرُ الطعام للأسرة وتغسل وتكوي و..
ما فائدة الغرفة الخاصة إذا كان قفل هذه الغرفة غير مؤمَّن؟ أو أنّ للمرأة غرفةٌ تخصها وحدها، لكن قفل هذه الغرفة في يد أحدٍ ما، من الخارج؟
ما تحتاجه المرأة ليس الغرفة و 500 جنيه وحدهما، بل أيضاً أقصى الاستفادة من الغرفة والدخل الكافي في القدرة على التفكير!
أهم سؤال قد تطرحه الكاتبة الآن على نفسها هو: ما نوع القفل الذي سأشتريه؟
القدرة على اختيار القفل، القدرة على التفكير في الذات، القدرة على الكفاح الجادّ والمستمر، التصميم على تقرير المصير: كيف عليها أن تتشبث بإلهامها لتضع عملها في أولى مرتبات أولوياتها، لتنغمسَ فيه دون أن يقاطعها أحدٌ أو شيء، ألّا تمنعها المعوقات من اقتفاء إلهامها، ألّا تقتل المعوقاتُ حلمها، ألّا يمنعها من الحلم سوى الموت. أن تتحلى بالشجاعة لكتابة ما تؤمن به، أن تمتلك سلطة التفكير كي لا تكتب إلّا قناعاتها، وأن تعرف ماذا وكيف تقول، وجنباً إلى جنب مع هذا كله: أن تحذر من الغضب!
إياكِ والغضب، استبدلي القفل الخاص بك، ثم ادخُلي، وأَديري المفتاح من الداخل.
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبتها/كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.