أنا فتاة من سورية
أنا فتاة من سورية

سوزان علي/ جيرون-

– هل قررت ألا تعودي إلى دمشق، أقصد أن تبقي في بيروت؟

– طالت إقامتك في لبنان، هل تفكرين بالسفر إلى الخارج من مطار بيروت؟

– كيف أنت اليوم؟ مبسوطة؟ وكيف رفيقاتك؟ إياك أن تكوني تفكرين بألا ترجعي؟

تقول لي الرسائل هذا الصباح، كلّ الرسائل، إني فتاة سورية. إني طُعم سمكةٍ كبيرة، لكن عليّ ألا أصيد السمك، وألا أخرج من الماء أيضًا.

إن الشّبهة تطال حتى الذين فقدوا القرار، أولئك المحبوسين في قطرة مطر، ينتظرون أن يهطلوا فوق ما تمنوا، ولو لمرة واحدة في حياتهم، فوق سقفٍ مائل رسموه فيما مضى، فوق الصفحة الأولى من دفتر مذكراتهم، وكتبوا تحته أسماءهم وتواريخ ميلادهم وهواياتهم، ثم قفلوا الدفتر بأمنية ظهرت كخربشة ناعمة.

عندما يلتصق بكَ صوت الرصاص، ليصير صحنًا على مائدة فطورك، ويفتح الباب بدلًا عنك، لعمال الطابق الأخير، عندما تسكن ممر البيت وتعلق على حيطانه صورك، فأنت ضبابي بما يكفي، كي تمشي مع فصول الجريمة حتى النهاية، دون أن تشعر، أو أن تحمل نعشك مع الآخرين، وأنت تنكش أسنانك بدبوس شعر.

في بيروت، أرى خوفي بأم عيني وجهًا لوجه، كأن جسدي كان مطويًّا لسنين طويلة، داخل حقيبة، وما إن عبرت الحدود حتى تمزقت شرايينه وانفجرت منها الدموع والضحكات والمناديل والرسائل والتفاصيل الغارقة في الألم والفوضى.

العبث غيبوبة في بلد تعيشه الحرب، وبينما القناص يختار مكانه، يخدركَ الأمل، ويبدأ الوقت بنخر جلدك الذي سقيته بدمع خطواتك.

– آلو صباح الخير ماما، منيح إنك بعيدة، نزلت اليوم قذيفتين بجرمانا.

– خليكي عندك يا رفيقتي الموسوسة، باينتا القذائف رجعت.

من وين الخبر؟

  • من صفحة يوميات قذيفة هاون في دمشق.

مع أنني نبشت كل ذاكرتي بحثًا عن حطبٍ عن عائلةٍ عن مسمارٍ، حركت الصباح برائحة الغار في خزانة جدتي، وراقبت الغيم فوق الجبل، وأخذته إلى ناي مهجور فوق سفوح الزبداني، رددتُ كلام الرجال الذين أحبوني كي أطمئن، وكتبت قصيدةً عن الماء الذي يرغب في العودة إلى الوراء، ألا يسمعُ الشجر ألمَ الماء، وهو ينظر إلى الوراء؟

أقول لصديقتي “فرح”، أخاف أن أضيع في هذه الشوارع، نعم هنا ببساطة بوسع الأرصفة أن تضيّعني، إنه لأهون عليّ وأيسر وأسعد، أن أعيش في قبو تحوم فوقه الطائرات، على أن أضيع هنا. قولي لي، يا فرح، هل تكرهني هذه المدينة؟ أم أن إحساسي بالمكان فقدَ قدرته على الطفولة، ولم يعد بريًّا كما كان.

  • صباح الخير صديقتي، ممكن تجيبي لي معك كتاب سليم بركات؟
  • أي كتاب؟
  • سورية.

لا أعرف كيف سأسمي تلك الشرارة، الحالة القصوى من تبصر العاطفة، التعرق، نوبات بكاء جارفة، قد تتذكر حقيبة أمك دون سبب، وتبكي على جيبها المثقوب، كما لو كنت في جنازة، قد يفقدكَ الوعي مشهد قلمك المكسور الذي تركته في العلبة الصدئة، وقد تنهار لمجرد رؤية منظر عابر في التلفاز، يصورُ دمشق وقت الظهيرة وفيروز تغني: أنا صوتي منك يا بردى.

لم أكن على هذه الحال عند خروجي الأخير من دمشق، أي قبل سنة تقريبًا، ربما اكتملت دورة اللاشعور، وبدأ بنقل أعشابه من السطح إلى الأعماق، ربما امتلأت عيني بصور الموتى، ولم يتبق في ذاكرتي قبور مفتوحة، حتى الهمس غدا تشويشًا لا مكان ولا معنى له.

ليلة أمس، سقط المطر بغزارة لن أنساها، عاصفة من الرعد والبرق، الأبواب والنوافذ فتحت على مصراعيها، وانقطعت الكهرباء فجأة، كنت أنا والشجرة نتحرك ونرجف أمام بعضنا، رأيت أضلاع امرأة تتكسر فوق أضلاعي، رأيت كسرة الخبز تتفتت في ظل الشجرة، لمست المرأة التي صرتها عن قرب، الحرب، الحرب أيها العالم البائس، بعد 7 سنوات، الفقدُ نحتَ جسدي وجوّف نظرتي، أنا التي كنت أجزم أنني ما زلت على قيد الحياة.

  • حسنًا، ستشاهدين اليوم عرضًا مسرحيًا في مسرح دوّار الشمس، كوني بخير.

سعيدة لأني لا أعرف عن هذا العرض شيئًا، سوى أننا نشبه بعضنا بعضًا، فنحن الاثنان جئنا من سورية.

“عندما كنت أنتظر” عنوان المسرحية، نتقاسم الاسم ذاته أيضًا، هذا فألٌ حسن أشدّه بين أصابعي وأدخل القاعة.

تروي المسرحية أحداثًا عامةً نعرفها، تستخدم مفردات خاصة، أتاحت الحربُ للسوريين أن يستعملوها ويرددوها، أعطى الإخراج السينمائي المسرحي للفكرة المكررة طريقًا للنجاة من الهفوة والشرود، ابتعد بنا العرض عن واقعنا، مع أنه من لبّ الواقع المعاش، لكن المباشرة بما يشبه جملة البداية لكل قصة “كان ياما كان في قديم الزمان”، تهيئك لمعرفة الحدث، قبل أن يبدأ في صراعه، وتدفعك إلى إكمال جملة هنا، وحذف جملة هناك، أعدّ المخرج نصه أيضًا، وأضاف إلى جوهر العرض إيقاعًا مختلفًا عن النص المكتوب، استطاع بحسٍ وتقنية أن يزود عن بعض الإحالات، وأن يترك الباقي للموسيقى والذكريات والصور، كي تتولى إنقاذ القارب اللغوي من الغرق.

في كل عرض مسرحي، أعتبرُ الجمهور بطلًا من أبطال العرض، لا يقلّ أهمية عن أي عنصر شارك في صناعة العمل، فعندما يضحك الجمهور على جملة عابرة أو حركة قام بها أحد الممثلين، نحن أمام حدث مشارك فعال وحيوي في العرض، وبينما يصمت البعض يضحك آخرون، وبينما يبكي آخرون ينعس البعض، راقبت رقم مقعدي في الوقت الذي بدأت فيه الممثلة (ناندا محمد) في استرجاع ذكرياتها، وسرد علاقتها الغريبة مع جسدها الذي لم تتعرف إليه كما ينبغي، بفعل العادات والتقاليد، ترافقها صور قديمة لها في جميع مراحل عمرها، هي المرأة التي لم تفهم من الدورة الشهرية سوى أنها دماء ستجرحها طيلة الحياة! دونتُ في مفكرة هاتفي المحمول رقم مقعدي، وكان 14. عندما تتكرر جملة قرأتها في كتاب أو شاهدتها في فيلم أو عرض مسرحي، تبدأ حواسي  بالشرود ونبش المكان من حولي، إما أن أقضم أظافري، أو أزيل الخيط المعلق بزر قميصي، أو أن أحرك المكان لأستفزه بأسرار تطغى على المكرر الذي يطغى عليّ ويفرض وجوده، هذا تفسيري النفسي لما يبديه عقلي من حركات، ربما أكون خاطئة، لكن، لطالما كنتُ المرأة ذاتها التي مرت بتلك التجارب، ولطالما حلمتُ بأن أضيف إلى ذاك التاريخ أقوال وأحلام نساء غيري، فتجربتي ليست سوى غمضة عين على نفسي، مثلٌ شعبيّ، أقوال مأثورة، لذلك، على اللغة أن تتحرك بفعل الإيقاع أحيانًا، لقد سارت ومشت عبر آلاف السنين إيمانًا بالطبيعة والتغيير، ولم تكن مجرد حروف تُقرأ وتكتب.

انتهى العرض، نعم بكيت، بكيت وبقوة، وخرجت إلى الشارع باحثة عن زاوية أجلس فيها وأدخن وحدي.

صافحتُ الممثلة حنان شقير، كانت مساحة دورها ضئيلةً، مقارنة بالشخصية التي أدتها وبعدها النفسيّ العميق، فهي الأم والمرأة والضحية معًا، قلت لها:

كم تمنيت لو شاهدتُ العرضَ في بيتي، أو في غرفتي مثلًا، هناكَ سيكون البكاء مرتاحًا.

كنتُ شباكًا في مدينة حمص القديمة، ضعيفًة ومهجورة، مرت قربي قطة سوداء، حاولتُ أن ألتقط صورًة لذيلها المعقوف قبل أن تخاف وتهرب.

كنت سورية حتى النخاع، أنا التي تحاول في كل صباح، وقبل أن تنام، أن تدعم فكرة أنها لا تنتمي إلى أي مكان، حيث توجد الحرية سأعيش، كنتُ أبكي على باب مسرح القباني، على أوراق الإعلانات الممزقة فوق حائط مسرح الحمرا، لماذا يمشي فضاء المسرح متكئًا عليكِ يا سورية في كل دول العالم؟

يمشي ويصرخ ويغني، لكنه يخاف أن يقترب منك؟!

لماذا نغني في الخارج؟

ونحلم ونصفق ونشتم ونضحك خارج سورية؟

لم يبكني العرض في حدّ ذاته، ما أبكاني هو الكواليس.

لم تقترب مني سوى تلك الخدوش الحادة في أصابعي، التي كنت أشعر بها عندما أسمع نشيدنا الوطني تحت المطر، وأشم رائحة التفاح في حقائبنا المدرسية المهترئة.

ما وراء العرض كنتُ أقبعُ، كامرأة تحضن طفلها بقوة، وهي تدفعُ للمهرب ثمن الإبحار في قارب مشبوه.

ما وراء الحرب جعل من روحي مادة خام بيضاء، تنهشها الريح وتترك صفيرها الحاد بين أضلاعي.

كنت جلد حيوان مسلوخ ومرميّ فوق الصخور، وأنا أردد: هذا العرض ليس لي، فأنا أعرفه جيدًا، هذا النص هو لأولئك الذين لا يعرفون عن بلدي شيئًا سوى أن “داعش” خلقت قرب أنهاره، وجملة “الله أكبر” كانت أقوى في آذانهم وحاضرة أكثر من وقع حبات الزيتون فوق حصيرة شمالية عند الفجر، آه ماذا تعرفون عن أغنياتنا عند الحصاد؟

– سوزان أمانة لا تطولي، اشتقت لك.

– ماما عملت لك قطرميز مكدوس مطولي قعدتك ببيروت؟

– وينك وينك، كنت بدي إجي لعندك، بس خبروني إنك مسافرة.

– سوزان بلشت العالم بالشام تمد السجاد، يالله تعي، بساعدك والله.

أنا فتاة من سورية

أنا فتاة من سورية

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015