الجذور الثقافية للعنف ضدّ المرأة؛ من الأمثال الشعبية إلى الفتاوى والمسلسلات
الجذور الثقافية للعنف ضد المرأة

أمل الحارثي/aljasrah- أصبحت أخبار العنف ضد المرأة وجبة يومية للمواطن العربي، لا يكاد يبدأ بتصفح الأخبار على وسائل التواصل الاجتماعي حتى تنهال عليه صور وحكايات مؤلمة عن فتيات ونساء قُتلن، إما على يد أحد أفراد عوائلهن، أو من غريب؛ بدوافع مختلفة يمكن أن نضعها كلها تحت ظل الذكورية المنتشرة في المجتمعات الأبوية، والتي تعطي للرجل تميزًا عن المرأة واستحقاقًا يجعلها في مرتبة أقل ويحرمها من حريتها في اتخاذ القرارات واختيار نمط الحياة، بلغ السيل الزبى عندما ذُبِحت طالبة مصرية أمام جامعتها في المنصورة، أعقبها بيومين قتل طالبة أردنية أمام قاعة امتحاناتها في الجامعة التطبيقية في الأردن. جريمتان هزّتا الشارع العربي لتتعالى بعدها الأصوات المنددة المطالبة بتحليل هذه الظاهرة المأساوية وإيجاد حلول لحماية الفتيات من الغدر الذكوري.

إلا أن أمواجًا أخرى جارفة جرت عكس تيار التنديد لا يمكن تجنب الحديث عنها، منها من وصل به الأمر إلى حد تبرير الجرائم وربطه بعدم احترام الفتيات لرغبة الشباب ومشاعرهم، أو التحجج بمظهر الفتاة ولبسها، سقطة لم ينجُ منها داعية معروف، حيث خرج في فيديو مصور يحذر الفتيات من الخروج بلا حجاب إن أردن تجنب الذبح، فوضى اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي لتظهر مدى عمق الأزمة وصعوبة الخروج من عنق الذكورية التي تتصف بها المجتمعات العربية.

ولهذا نجد أن علينا مسؤولية شرح الظاهرة من جذورها أمام القارئ العربي الذي ما زال يعتقد أن جرائم القتل هذه مجرد أحداث فردية، والتأكيد أن أنماط العنف الجسدي والانتهاكات التي تتعرض لها المرأة كالضرب والإذلال تندرج تحت مظلة العنف المبني على النوع الاجتماعي، والذي يبدأ منذ ولادة الطفلة ومعرفة جنسها، حيث تتعرض الطفلة للتمييز بطريقة التعامل والتربية واكتساب المهارات.

تُربَّى الأنثى على الاحتياج، ويُربَّى الذكر على الاستقلالية، تُحرم الفتاة من المهارات والتجارب الحياتية التي تقويها، فتقل ثقتها بنفسها وبقدراتها، ويصبح الجبن والخوف من القادم صفة تطلق عليها وتنسب ظلمًا لجيناتها الأنثوية، بينما هي صفات مكتسبة من التربية والمحيط لا علاقة لها بالتركيبة البيولوجية، لا يكتفي المجتمع بإضعافها عن طريق الحرمان من التجارب، بل ينزع منها الثقة ويعطيها للذكر، بفرض الأعمال المنزلية على الإناث فقط، ومحاباة الذكر الذي يجد نفسه مخدومًا من الإناث في العائلة؛ فيكتسب جرعة مجانية من الثقة والتعالي والاستحقاق.

لعل أفضل التحليلات التي قرأتها لهذا النوع من التمييز بين الإناث والذكور كان بقلم فرجينا وولف في كتاب “غرفة تخص المرء وحده” حيث حللت فرجينا سبب فرض الأعمال المنزلية على الأنثى حصرًا، بكون المجتمع يرى في الأنثى مرآة لتضخيم الذكر، وأول صورة مضخمة لنفسه وقدراته يراها عندما يجد أنه في درجة أعلى من الأنثى وأنها موجودة لخدمته، هذه الصورة المضخمة للـ “أنا ” الذكورية تعطيه جرعة كبيرة من الثقة.

تحليل فرجينا وولف كان كافيًا بالنسبة لي لمعرفة أسباب غضب الرجل من المرأة عندما تختلف معه أو ترفضه، فهو لا يتعامل معها بنديّة، ويعتبر أن صورته في المرآة العاكسة تنكمش إن تعرض لنقد أو رفض منها، وتهتز ثقته بنفسه التي بنى عليها مجده كرجل، ولهذا نجد الرجل يغضب إن خالفته المرأة في رأي، أما إن رفضته فيثور وقد يصل غضبه للقتل كما رأينا في حالات رفض الفتيات للارتباط ببعض الرجال أو طلب الزوجات للطلاق أو الخلع في المحاكم. لا يمكن أن ينطبق هذا التحليل على كل الرجال، فالرجل الواثق من نفسه بسبب إنجازاته لا يحتاج ليرى صورته مضخمة في مرآة وهمية، ولا يستمد ثقته من التقليل من شأن المرأة، ولهذا فهو لا يعتبر النقد القادم من امرأة إهانة، ولا يرى الرفض فضيحة، ويتعامل معه بروح رياضية ويستمر في حياته بلا عُقد.

تستمر التربية القائمة على التمييز بفرض عنف اقتصادي على الأنثى تشارك فيه العائلة والمجتمع والعادات والتقاليد بدوافع العيب أحيانًا، والخوف على الفتاة أحيانًا أخرى، أو بسبب تفضيل الولد على البنت بحجة أن مسؤولياته المستقبلية أكثر، فتُحرم أحيانًا من ميراثها أو من فرص تعليمية وتدرييبة، وتتم قصقصة أجنحتها بشكل تدريجي حتى تفقد استقلاليتها بالكامل، وتصبح في حالة احتياج دائم، بل تفقد الثقة بقراراتها، وتصبح في أحيان كثيرة على استعداد لتقبل العنف والاستغلال الجسدي والإذلال المعنوي للاحتفاظ بدرجة من الأمان المادي والقبول الاجتماعي.

حتى المرأة العاملة يطالها العنف الاقتصادي أحيانًا، ويتم التفرقة في الأجور بينها وبين الذكر، كما يتم استغلال قوامة الذكر لإجبارها على أخذ قروض لا ترغب بها، وهناك أمثلة كثيرة عن نساء غارمات في السجون لم يكن لهن خيار آخر، ولم يملكن جرأة رفض قرار الزوج أو القريب، كما يتم إجبار النساء أحيانًا على التنازل عن ميراثهن أو القبول بتعويضات بسيطة بحجة إبقاء الميراث في العائلة وعدم إدخال الغرباء في حصص الورثة.

لا يمكن أن نتحدث عن التمييز بين الجنسين في طرق التربية دون أن نعرج على نوع آخر من العنف يمكن وصفه بالعنف الثقافي، يتمثل باستخدام وسائل تربية تعتمد على الموروثات والقصص والأمثال الشعبية والتي تزيد بدورها من زعزعة ثقة الفتاة بنفسها وترهبها من القادم في الوقت الذي تنمي في الذكر حب الشجاعة والإقدام.

يستمع الطفل الذكر لقصص عظمة الشخصيات التاريخية وأمجادها، وتُسرد على مسامعه قصص الشاطر حسن وبطولاته، بينما تستمع الطفلة لقصص الفتاة الجميلة التي أنقذها الأمير أو الشاب الثري من حياتها البائسة، بل ويتم زج بعض القصص المخيفة من التراث المحلي عن فتيات خرجن من عباءة العادات والتقاليد لتلقى كل منهن حتفها في نهاية مؤلمة، كل هذه القصص هدفها أن تعرف الأنثى أن لا منقذ لها سوى الذكر، وأن الخروج عن طوعه لعنة ستلقاها أينما حلت، وأن عليها أن تشعر بالخوف الدائم على العفة التي قد تدفع ثمنًا قاسيًا إن خسرتها، هذا التمييز في التربية يقضي على ما تبقى للفتاة من روح المغامرة والاستكشاف والتطلع للاستقلالية ويزيد من عمق احتياجها للآخر وعجزها عن مواجهة الحياة، فيقدمها وجبة جاهزة لكل ذكر مريض يبحث عن استحقاق وثقة بلا جدارة.

تتربى الفتاة على أمثال شعبية تقال كمسلَّمات لا لبس فيها، ” اكسر للفتاة ضلعًا يخرج لها عشرة” مثل يُحرض على العنف والضرب ويبرره بأن القوة للأنثى مرفوضة، وأنها كلما نبت لها جناح على المربي أن يقصه. هذه هي التربية التي تتلقاها الكثير من الفتيات في عالمنا العربي، سياسة الإضعاف في مقابل تقوية الذكر أنتجت مجتمعات تعاني فيها المرأة من الفقر الشديد والعنف، وحتى في العوائل الداعمة نسبيًّا للمرأة، نجد أن هناك حدودًا لتنمية المرأة لقدراتها لا تستطيع تجاوزها، فالقوة للفتاة غير مرغوبة اجتماعيًّا بعكس القوة للذكر.

من الأمثال الشعبية الظالمة للمرأة تلك التي تتحدث عن خصالها السيئة وتعتبرها جزءًا من تنشئتها البيولوجية، بينما هي صفات مكتسبة من طريقة التربية وعزل الأنثى في المنزل وإهدار وقتها في الملل والعلاقات الاجتماعية غير المفيدة وقمع المجتمع لها وقصقصة أجنحتها.

“يا ويل من أعطى سره لامرأة”، “عقربتان على الحيط ولا ابنتين في البيت”، “صوت أفعى ولا صوت بُنيّة” وغيرها الكثير من الأمثال التي تتحدث عن خصال المرأة السيئة، وتتناسى أنها إن وُجِدت فهي ردّة فعل لحرمانها من فرص الحياة وتجاربها التي تصقل الشخصية وتنمي العقل وترفد الفكر بكل جديد ومفيد، أما أمثال مثل “هم البنات للممات”، “إن ماتت أختك انستر عرضك” فهي من أكثر الأمثال ظلمًا، وفيها تحريض على الأنثى كجنس، ومدخل لكراهيتها بل وترغيب في العنف ضدها وتشجيع عليه.

لا يمكن أن نتحدث عن ثقافة العنف ضد المرأة دون أن نذكر أثر الإنتاج التلفزيوني واختلاله منذ أكثر من عقد من الزمن، كان الفن دائمًا رافدًا للفكر ومحفزًا على الجمال، لا يمكن أن ننسى الإنتاج الضخم للتلفزيون المصري في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وأثره في تشكيل الوعي العربي ودوره المهم في التنشئة، كانت كل حلقة من ليالي الحلمية والمال والبنون درسًا في تاريخ تلك الحقبة الزمنية، أما الحوارات فقد نُسجت بدقة وعمق، كتّاب المسلسلات كانوا أدباء ومفكرين، فماذا حصل في العقد الماضي؟ غزا باب الحارة البيوت العربية وأظهر صورة للعائلة قائمة على قمع المرأة، وأظهرها بشكل محبب حتى باتت مقبولة ومستساغة، ثم انتشرت المسلسلات التي تبجل نموذج “البلطجي” العادل، الذي يأخذ حقه بيده وكأن القانون غير موجود، أصبح من السهل أن نرى هذا “البلطجي” يعتدي بالضرب على حبيبته أو أخته بدافع الغيرة مثلًا، ويهدد بالقتل من تسول له نفسه الاقتراب من حبيبته في الشارع، بل لقد وصل الأمر لتمجيد صورة الرجل الخارج عن القانون الذي يعيش زعيمًا على عائلته ويتاجر بالممنوعات، لكن شخصيته تتسم بالعدل والحكمة والغيرة على نسائه، هذا النموذج لقى رواجًا واستحسانًا من الشباب، هذه الرجولة المفرطة التي تفيض من شخصية “البلطجي” أصبحت مطمعًا وأصبح هو القدوة، ولعل أسهل طرق التقليد التي اتبعها بعض الشباب كانت تمارس في البيوت، على إناث العائلة، حيث لا حسيب ولا رقيب.

لا يمكن نسيان أثر الغناء والموسيقى في العقد الماضي في تسخيف وتسطيح الشاب العربي، فكلمات الأغاني لم تعد بحاجة لشاعر، وأصبحت تفيض بالذكورية والسطحية، سقف الذوق أصبح منخفضًا، وضاعف الفقر وسوء التعليم أثر هذه الثقافة، وهذا لا يعني أبداً أن الساحة خلت من الغناء الجميل والموسيقى الراقية، لكن الإقبال عليها أصبح ضعيفًا بسبب الجو العام والتراجع الفكري والثقافي ومخرجات التعليم السيئة.

لا يمكن أن ننسى دور بعض الدعاة في استمرار دائرة العنف ضد المرأة، بتركيزهم على الفتاوى الغريبة التي ترسّخ وتشجّع على العنف، إذ بات من الطبيعي أن تجد داعية لا يتحدث إلا عن المرأة وفتنتها وقوامة الرجل، ولا يخفى على أحد أن التركيز على المرأة أصبح هدفًا بسبب نقص الحرية والخوف من بحث أمور سياسية واجتماعية أخرى قد تفتح أبوابًا للمساءلة والعقاب.

يمكن أن يؤدي تشديد العقوبات لانخفاض في وتيرة العنف ضد المرأة، لكنه وحده لن يحل المعضلة، الطريق الوحيد أمامنا هو تفنيد هذه الظاهرة والبحث عن أسبابها، ومن ثم إيجاد حلول تقضي على المسببات، أول خطوة في علاج المرض هو تشخيصه، المكابرة وادعاء عدم وجود خلل وأن ما يحصل هو مجرد حالات عنف فردية سيضاعف المآسي وسنجد أنفسنا يوميًّا على فوهة بركان، نحن نتحدث عن ظاهرة عنف ضحيتها المرأة، نصف المجتمع التي تنجب وتربي النصف الآخر، فإلى أين نحن سائرون؟

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبتها/كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

الجذور الثقافية للعنف ضد المرأة

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015