العمل‭ ‬على مقاربة‭ ‬اصطلاحية‭ ‬جديدة‭ ‬للنصوص
مقاربة‭ ‬اصطلاحية‭ ‬جديدة‭ ‬للنصوص

أسماء المرابط/alfaisalmag- هل‭ ‬قلة‭ ‬جهود‭ ‬المرأة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬تأويل‭ ‬وتفسير‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭ ‬والإسلامي‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬ضعف‭ ‬علاقتها‭ ‬بهذا‭ ‬التراث‭ ‬أم‭ ‬إلى‭ ‬هيمنة‭ ‬الذهنية‭ ‬الذكورية‭ ‬على‭ ‬الإعلام‭ ‬واستبعاد‭ ‬جهودها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال؟‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬مهم‭ ‬جدًّا،‭ ‬فهو‭ ‬يرصد‭ ‬جوهر‭ ‬الإشكالية،‮ ‬والإجابة‭ ‬عنه‭ ‬قد‭ ‬تطول؛ لأن‭ ‬المسألة‭ ‬مركبة،‭ ‬لذا‭ ‬سأحاول تلخيصها‭ ‬في‭ ‬النقاط‭ ‬الآتية‭: ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬الإشارة‮ ‬أولًا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الإشكالية‭ ‬لا‭ ‬تهم‭ ‬الإسلام‭ ‬وحده‭ ‬بوصفه‭ ‬دينًا‭ ‬وحضارة،‭ ‬بل‭ ‬تهم‭ ‬الديانات‭ ‬السماوية‭ ‬كلها،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬المعرفي‭ ‬الكوني،‭ ‬كالفلسفة‭ ‬مثلًا،‭ ‬نرى‭ ‬غيابًا‭ ‬شبه‭ ‬تام‭ ‬للنساء‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭. ‬إذًا‭ ‬هنالك‭ ‬تهميش‭ ‬واضح‭ ‬للنساء‭ ‬وغياب‭ ‬لهن‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الإنساني،‭ ‬ولم‭ ‬يبدأ‭ ‬الوعي‭ ‬بهذا‭ ‬التهميش‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬وبداية‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭.‬

ثانيًا: أما الإسلام، فلا شك أن الوحي والرسالة القرآنية ومنهج الرسول صلى الله عليه وسلم، غيروا بل أحدثوا ثورة داخل المنظومة القبلية لتلك الظرفية الزمنية، فمثلًا أكَّدت دراسة أكاديمية حديثة، «موسوعة تراجم أعلام النساء» للأستاذ أكرم ندوي، وهو أستاذ في جامعة أكسفورد، أن الفقه الإسلامي قد غفل عن الدور الأساس الذي لعبته النساء المسلمات في علوم الحديث مثلًا، وقد قدم أكرم ندوي في 43 مجلدًا أسماء أكثر من 9000 من عالمات القرن الأول الهجري حتى أواخر القرن الثاني عشر، فأين ذهبت كل هذه الأسماء وكل هذا العطاء العلمي؟ وماذا عن العلوم الأخرى كتفسير القرآن الكريم؟ كيف يعقل أن تكون السيدة عائشة أم المؤمنين أول مفسرة وأول مفتية في تاريخ الإسلام ولا نكاد نرى اسم امرأة واحدة بعدها، إلا في القرن العشرين مع تفسير عائشة عبدالرحمن في السبعينيات، الذي لا يعترف به كثيرون؟

أسباب تهميش المرأة

النزاعات والصراعات السياسية حول الحكم بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن أهمها الفتنة الكبرى، ساهمت في تهميش المرأة. فبَعْد الثورة الروحية والاجتماعية طَوال مرحلة التنزيل، التي مكَّنت النساء من الولوج في الفضاء السياسي والاجتماعي، ومن المساهمة في بناء القواعد الأولى للحضارة الإسلامية؛ جرى إبعادهن من الفضاء العام بسبب الحسابات السياسية، كما هو شأن معظم الثورات عبر التاريخ الإنساني. ثم أتت الفتوحات الإسلامية والتبنِّي التدريجي للتقاليد الثقافية لحضارات أخرى (كالبيزنطيين والفرس)، فجرى تبنِّي تقاليدهم، وبخاصة الأعراف الذكورية الموروثة. ولعل أبرز مثال على ذلك هو مفهوم «الحريم» المعروف لدى الفرس، الذي جرى استملاكه ثقافيًّا على حساب المبادئ الدينية التي جاء بها الإسلام.

ومع بداية عصر التدوين للعلوم الإسلامية خلال القرنين الثامن والتاسع الميلاديين، الذي تم في أجواء من الاضطرابات السياسية، بدأت «مأسسة» المعرفة الدينية، وإقصاء النساء من الولوج إلى مواقع السلطة العلمية، ويبدو هذا واضحًا في غياب النساء عن المذاهب الفقهية، حتى في المجال الصوفي، فنرى مثلًا كيف أن المتصوفة المشهورة رابعة العدوية لم تترك أي مريدين أو طريقة على اسمها على الرغم من شهرتها.

سبب آخر لغياب المرأة عن المجال العام كامن في ترسيخ فقه «الطاعة» العمياء مع النظام السياسي الاستبدادي للخلافة. فأصبحت طاعة الحاكم باسم الدين، لكونه خليفة الله في الأرض، مفهومًا دينيًّا رسَّخ بداية استغلال السياسي للدين. وجرى تنزيل هذا المفهوم من الفضاء العام إلى الفضاء الأسري الخاص، وأصبح فقه «طاعة» المرأة لزوجها أو لِوَليّ أمرِها من الذكور من المعتقدات الدينية المترسخة في كتب الفقه، والدين منها بريء، وأصبح الخروج عن فقه الطاعة خروجًا عن الدين ورمزًا للفتنة، ومن ثَمّ أصبحت الفتنة السياسية موازية لفتنة النساء، وبهذا وجب منعهن من الولوج إلى الفضاء العام والفضاء المعرفي، وسجنهن في البيوت من باب سد الذريعة، أي خشية من الفتنة. إضافة إلى أن الفقه أصبح من أبرز مصادر التمييز ضد النساء؛ إذ استند بشكل كبير إلى العرف والتقاليد، وابتعد من مقاصد الشريعة العادلة.

كما أن الإنتاج التأويلي الإسلامي ظل أسيرَ قراءة دوغمائيّة ومُسيَّسة، وقعَتْ مَأسَستُه في مدارس فقهية. وأدَّى التشدد المذهبي إلى جمود الفكر الإسلامي، وبخاصة في مجال المعاملات الاجتماعية، زِدْ على ذلك أن تلك النصوص قد دُوِّنت في زمن كانت فيه المرأة قد فقدت عددًا كبيرًا من صلاحيّاتها، وأصبحت تلك الاجتهادات الفقهية مع انتكاسة الحضارة الإسلامية نصوصًا «مقدسة» أو شبه مقدسة، ومَصدرًا وحيدًا للتشريع، ولا سيما بالنسبة إلى مدوَّنات الأسرة في أغلب البلدان الإسلامية. والحقيقة أن الأمر كان على عكس ذلك تمامًا، حيث إنّ أغلب مؤسِّسي المذاهب الأوائل، اعتبروا قِيدَ حياتِهم أن تأويلاتهم الفقهية هي مجرَّد مجهود إنساني لاستنباط الأحكام ضمْن سياقاتهم الخاصة والمعيَّنة.

جهود المرأة في قراءة التراث

للحديث عن الجهد الذي قدمته المرأة العربية في قراءة التراث وتأويله، يكفينا إعطاء مثل بارز في هذا المجال وهو اسم فاطمة الفهرية التي أسست مع أختها مريم جامعة القرويين في فاس بالمغرب سنة 859م، وتُعد أول جامعة في العالم. أما الأسماء الأخرى فيمكن الرجوع إلى كثير من الكتب القديمة مثل «سير أعلام النبلاء» للإمام الذهبي، وإلى بعض الكتب الحديثة التي ترصد أسماء نساء بارزات في العديد من المجالات، وأيضًا إلى الموسوعة العلمية «المُحَدِّثات»، للدكتور أكرم الندوي الصادرة سنة 2002م، وإلى كتاب الأستاذة أسماء السيد «women and the transmission of religious knowledge in Islam».

وهنالك اليوم كثير من النساء المسلمات المتخصصات في العلوم الإسلامية كعلوم التفسير والفقه والحديث، ولكن، بحسب علمي، لا نكاد نرى مؤلفًا واحدًا أو مشروعًا جديدًا لمتخصصة واحدة في تفسير القرآن الكريم اليوم، فكل ما نراه هو إعادة ما فسره الأولون، وإعادة قراءته قراءة تقليدية لا نرى فيها أي مجهود فكري نقدي أو تحليلي عقلاني، وكذلك الرجال، فلا نكاد نرى أي جديد في علم التفسير، وكأن ما قاله الأولون مقدس وصالح لكل زمان ومكان.

لقد قام العلماء المسلمون الأوائل بتفسير القرآن الكريم في ضوء مقتضيات مجتمعاتهم والعقليات السائدة آنذاك، لكنهم لم يعدُّوا قط تفاسيرَهم البشرية مَعاييرَ تأويلية ثابتة ومقدَّسة لا تقبل النقاش. هذا الاعتقاد لم يتفشَّ إلَّا حديثًا، مع جمود الفكر الإسلامي وتراجُع الحضارة الإسلامية، حين تَعطَّل اجتهاد المفسرين المنطلق من السياق، وقُدِّست تفاسير الأسلاف عبْر تهميش المبادئ الأخلاقية الواردة في النصوص الدينية. ومع كل الاحترام الذي نُكِنُّه للعمل والجهد الذي بذله سلَفُنا الصالح، لكن لا يمكننا أن نبقى رهينِي رؤيتهم الخاصة، في ظلِّ تطوُّر المعايير الاجتماعية والعالمية والحقوقية الحديثة.

ضرورة الديمقراطية

لست بعالمة أو متخصصة في العلوم الإسلامية، أنا طبيبة متخصصة في تشخيص الأمراض السرطانية في الدم، لكن لدَيّ شغف الاهتمام بالدين والفكر الديني، وأعدُّ نفسي مفكرة وباحثة في هذا المجال، وأحاول إعطاء رأيي وبذل مجهود فكري حسب استطاعتي لإعادة النظر في تراثنا الإسلامي الغني والمبدع، الذي للأسف قد حُصِر واختُزل في جزئيات ومفاهيم تقليدية، غالبًا ما تصطدم مع مستجدّات عصرنا المعقد والمعولم، ويبقى همي الوحيد هو العمل على قراءة ومقاربة اصطلاحية جديدة للنصوص أعدُّها ضرورة أوَّليّة، حتى نتصدى للتحديات المعاصرة لمجتمعنا، مع مشاركة الجميع، نساء ورجالاً ومن جميع الاختصاصات، فالدين ليس حكرًا على المختصين في هذا المجال، فقِيَم العدل والإنصاف والقسط التي يأمر بها الإسلام، والتي هي غايته الكبرى في الخلق، لا بد أن تنعكس على الواقع الاجتماعي، وعلى الخطاب والتربية الدِّينيَّين. وأنا على وعي بأن مسألة الإصلاح الديني، وبخاصة تلك المتعلقة بموضوع النساء، تبقى مرتبطة بالممارسة الديمقراطية على أرض الواقع؛ لذا سيكون من باب الوهم ادِّعاءُ قدرتِنا على معالجة موضوع النساء بمعزل عن المشكلات الأخرى التي تتخبط فيها البلاد العربية.

أعلم أن فكري وأعمالي تزعج الكثيرين الذين يرون أن أي فكر ينتقد الخطاب الديني هو انتقاد للدين أو عبث بمبادئه، وبخاصة إذا صدر من امرأة، فالرفض يصبح أكثر بسبب الذهنية الذكورية، وأيضًا بسبب الخوف من التغريب أو استيراد أفكار التحرر النسائي الغربي، وللأسف معظم من ينتقدونني لم يقرؤوا لي كتابًا واحدًا، أو حتى مقالًا لكي يدركوا أن ما أحاول العمل به هو عكس هذه الاتهامات؛ ففكري وعملي ومشروعي في مجمله راسخ من داخل المرجعية الإسلامية، وينتقد الفكر الاستعماري والتبعية الأيديولوجية المهيمنة، وأبحاثي تنبثق من أخلاقيات القرآن الكريم التي ابتعدنا منها اليوم، والنموذج التحرري الذي أحلم به هو ذلك الذي ينبع من الرسالة الروحانية القرآنية التي حررت الإنسان (رجلًا كان أو امرأة) من جميع أشكال الاستعباد. وهذا ليس بنموذج غربي ولا شرقي بل هو كونيّ وأخلاقي وإنساني قبل كل شيء. لذلك لا أبالي بهذا التشويش؛ لأني مقتنعة بأن رسالة القرآن رسالة تحررية بامتياز، ولدي الحق كإنسانة وكامرأة في الدفاع عنها والتشبث بها، والتصدي لذلك التيار الفكري الديني المتشدد الذي همّش روح هذه الرسالة التي هي أولًا وقبل كل شيء رحمة للعالمين.

مقاربة‭ ‬اصطلاحية‭ ‬جديدة‭ ‬للنصوص

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبتها/كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015