“النساء واللغة”.. في صناعة المرأة الثرثارة
"النساء واللغة"

وارد بدر السالم/diffah.alaraby- تأخذ المرأة مكانتها في الدراسات الاجتماعية والنفسية والسيكولوجية والجنسية، بوصفها الوجه المباشر في المجتمعات الإنسانية وثقافاتها المتعددة، عاكسة الكثير من الفضاءات الاجتماعية والنفسية في النسق الثقافي العام لتلك المجتمعات التي تمر بأدوار تطور كثيرة. وبالتالي هي المحور الأساسي لتلك الدراسات والأبحاث. عندها يكون التطور التاريخي للمجتمعات لا يتم بمعزل عن المرأة وكيانها المتميز، في تحقيق أكثر الشروط الحضارية تقدمًا.

وما يلزمنا هنا ونحن نطالع كتاب (النساء واللغة) – (ترجمة قاسم المقداد- إصدارات دار نينوى – دمشق)- لمؤلفته فيرينا آبيشير أنْ نلاحظ بأنّ هناك تمييزًا في الكلام واللغة بين الذكور والإناث عبر اللغة المكتسبة من بيئات متعددة، مثلما دعت المؤلفة إليه. لذلك فالعنوان الهامشي للكتاب (التصورات الاجتماعية للاختلاف) يشير إلى دور اللغة في إشاعة ما يسمى بـ”الثرثرة النسائية” المعروفة في المجتمعات الإنسانية.. فهل صحيح أن هناك نساء ثرثارات يتكلمن خارج اللغة؟ أم أن اللغة هي التي تحدد فائضها الذي يسمى (ثرثرة) كما توصف المرأة به من دون الرجل؟ على أساس أن (وظيفة المرأة هي الكلام) وأن (اللسان سيف المرأة- مثل صيني) كما جاء بالأمثلة التي وضعتها المؤلفة لتوطيد الصلة بين المعنى والنتيجة؟

فكرة الكتاب فيها ظرافة بقدر ما فيها من معلومات علمية وتحليلات منطقية، وهي تجوس عوالم النساء والرجال في اختلافاتهما وتشابهاتهما اللغوية، كما كشفتها الاستبيانات الكثيرة التي توغلت في العالم النسوي، عبر اللغة ومقتضياتها الحسية والنفسية، وما يتراكم منها في الفضاء النسائي الذي يتحول إلى (ثرثرة) بمقتضى أن المسؤول اللغوي عند النساء هما نصفا الدماغ؛ عكس الرجل الذي يستعمل نصف الكرة المخية كمسؤول لغوي. ولهذا يقال إن المرأة تتفوق على الرجل بنسبة ذكائها بحسب بحوث علمية تشريحية. وهذا التفوق المبدئي يجعل من الخزين اللغوي عندها أكثر طاقة للتدفق والتأويل بما يشبه التقنية المبرمجة في دماغها. ولم يكن مثل هذا الأمر وليد لغة حاضرة ومتداولة، بقدر ما هو ترسبات لغوية قديمة. وفي هذا ترى المؤلفة أن (فكرة الثرثرة بالمؤنث تُعد من أقدم الأفكار وأكثرها ديمومة. فالأدب يتحدث عن النساء الثرثارات، لدى الحضارات جميعها..) وظل الاعتقاد بأن النساء هنّ كائنات ثرثارية حتى القرن الخامس عشر تحت تبرير أن (الشيطان يدفع النساء إلى الثرثرة..) لكن هذا كله تم من دون معاينات بيولوجية وتشريحية وسوسيولوجية للإناث، بقدر ما كان خرافات اجتماعية؛ لذلك ستكون الثرثرة بماهيتها النفسية النسائية كعلامة (اختلاف) مع الرجل، حتى لو وضعنا النوعين الجنسيين في ظروف متماثلة من الثقافة الاجتماعية والنفسية والبيئية والمكانية. لكن مثل هذا (التفريق) يحسبه البعض (عنصريًا) ويجعل من المرأة (أقلية) في المجتمع، وأن كل ما تقوله عبارة عن (كلام من دون تفكير) وأن خطابها (تافه) بما يعني أن هناك مخرجات جاهزة للتأليب على المرأة منذ عصور قديمة، حاولت أن تضعها على هامش المشاركة الفعلية. وبالتالي فالرجل ساهم بطريقة أو بأخرى في عدّ المرأة، بفائضها اللغوي؛ ذات خطاب غير مكتمل، وأنها تتحدث بأي شيء كان.. أي أنها ثرثارة.

ومع تاريخية هذا الموضوع وأهميته السيكولوجية، فإن علماء الأعراق والأجناس والجماعات اللغوية حاولوا دراسة هذه السمة الأنثوية عبر مستويات البنية اللغوية (مستوى الوظيفة الصوتية، والمستوى النحوي الصرفي، والمستوى المعجمي) فوجدوا في عينات كثيرة وفي الوظائف الصوتية اختلافات نُطقية في اللغة في المد والضم واللفظ المزدوج، والأمثلة المتاحة التي ذكرتها الكاتبة كثيرة من منغوليا وروسيا وفيتنام وشمال الهند وهنود أميركا وهنود يانا، مستندة على تحليلات صوتية ولغوية من حلقة براغ وتروبيتسكوا وشتراوس وإيتين دوليه، لتصل إلى خلاصة غريبة، بناء على التحليلات والأبحاث العصبية اللغوية والأنثروبولوجية والصوتية عند اللسانيين المعروفين، بأن (لدى النساء ميلًا لإفساد اللغة)، وهذا الاستنتاج مبني على دراسات علمية معقدة إلى حد كبير فيما يخص آليات الدماغ البشري منذ نشأة الجنين في الرحم، فـ (الاختلافات الجنسية المرتبطة بالاختلافات الموجودة بين دماغ المرأة ودماغ الرجل حيرت عددًا من العلماء.. والاختلافات الجنسية في نصفي القشرة الدماغية اللذين لا يعملان بالطريقة نفسها لدى الرجل والمرأة..) وصولًا إلى (الجانب الأيسر من دماغ النساء الخاص بالقدرات اللغوية واللفظية أكثر تطورًا من نظيره لدى الرجال..) وأن (اللسان الأول الذي تتعلمه الفتاة الصغيرة والولد الصغير هو التكلم الأنثوي..) وإذا كان المثال هذا من اليابان لإيضاح فكرة نمو اللغة بين الصبي والصبية، فإن الفتاة تحتفظ بقاموسها الأنثوي مضافًا إليه القاموس الذكري، بينما يحتفظ الولد بقاموسه الذكري عندما يكبر، ويفترق عن الولد الصغير الذي كانه ذات يوم.

ومع فكرة الأنوثة الناضجة بالتدريج تميل الفتاة منذ سن مبكر إلى (التنغيم) في صوتها، بملاحظة جديرة من أن النساء عمومًا يَمِلْنَ إلى التشبث بالصيغ الأنثوية لغويًا تلك التي لا يميل الرجال اليها. (وليس سرًا أن النساء لا يقلدنَ حكي الرجل العامي..) ونعتقد أن مثل هذه الملاحظة صحيحة إلى حد كبير بين المجتمعات الإنسانية. فالقاموس النسائي عمومًا لا يميل إلى الشتائم أو إيراد مفردات ناشزة اجتماعيًا كالتي يميل الرجل إليها، مع أن الاثنين ضمن بيئة واحدة وظروف مشتركة واحدة. فالمرأة أكثر تهذيبًا من الرجل في هذا الشأن، وبالتالي فقاموسها اللفظي والمعنوي يختلف كثيرًا عن قاموس الرجل. لذا نجد أن فائض اللغة المكتسبة للمرأة أكثر اتساعًا ودراية لفظية من الآخر- الرجل. ويفسر ترودغل أن الحذلقة اللغوية عند النساء سببها عدم (شعورهن بالأمان اللغوي) في تبعيتهن للرجل اجتماعيًا. مثلما يرى هاس بأن (الملفوظات التي تتداولها البنات في ما بينهنّ أكثر طولًا من الملفوظات التي يتداولها الصبيان في ما بينهم..).

لغة النساء والاختلاف

ترى المؤلفة أن الرجال موضوعيون لكنهم (يثيرون الضجيج) بينما النساء (يتصفنَ بالعاطفية والفصاحة). وهذه الالتقاطة، وإن كانت بحثية على الأرجح، إلا أنها غير كافية لتحديد المستوى اللغوي بين الاثنين. فالثرثرة، مع التحليل العلمي غير المشكوك فيه، هي (تصور اجتماعي) أيضًا، راسخ في العقل الجمعي الشعبي والرسمي أيضًا. يلتحق بهذا التوصيف، التصور الأدبي أيضًا إلى حد ما. فأوسكار وايلد له مقولة بهذا الوصف: (النساء جنس تزييني. ليس لديهن شيء يقلنه. لكنهنّ يقلنه بشكل ساحر). وهذا (التصور الأدبي) هو تصور اجتماعي قبل أن يكون أدبيًا، لو فهمنا على شكل واضح بأن الأدب هو نتاج اجتماعي على الأغلب في مضامينه العامة، وليس انعكاسًا نفسيًا تامًا أو تحليلًا يُراد به وضع هذه الصفة النسائية موضع النقد أو الملاحظة الشعرية الشخصية.  لكن ثمة كتابات وكتّاب لجأوا إلى هذه الطريقة لتجسير العلاقة بين المرأة واللغة واستنباط المشكلة الأساسية لموضوعة الثرثرة.

بعض الكتّاب الفرنسيين (إيرغاري، لوكلير، مونرولاي) يرون أن على النساء العثور على لغتهن (من خلال الإصغاء إلى أجسادهنّ) وهذه الرؤيا ليست خيالية تمامًا، بقدر ما هي دعوة للتعامل مع الجسد بوصفه كيانًا مستقلًا ذا طبيعة خصوصية، يمكن التعامل معه ككائن حي وأن كل عضو فيه قابل للجدل والتوجه، بضمنها اللسان كعضو له أهمية في إقامة العلاقة الاجتماعية اللفظية مع الآخرين حتى لو كان هناك اختلاف لغوي بينها وبين الرجل، فإن (قبول المرأة للاختلاف يعني قبولها لأنوثتها) والمرأة في كل زمن ومكان تحرص على أنوثتها بشكل كبير. واللسان مع كونه عضوًا في الجسد، إلا أن ارتباطه العصبي في الدماغ شأنه شأن بقية الأعضاء الصغيرة والكبيرة. وبالتالي فإن استبيان ومحاورة ومقابلة عدد من النساء أجرتها المؤلفة، اتسمت بالوضوح والصراحة في هذه الدراسة وأوصلتها إلى عدد من النتائج. وهي نتائج قابلة للجدل والمعاينة والملاحظة والتعديل أيضًا، بسبب أن المجتمعات الإنسانية لا تتشابه في ثقافاتها ووعيها وحضورها المباشر في الحياة، لا سيما المرأة. وبالتالي فإن هذه الاستخلاصات ليست نهائية، بقدر ما للدماغ من دور رئيسي في إضفاء هذه الصفة أو تلك على الرجل والمرأة. ففي الاستبيانات التي أجرتها الباحثة نرى الكثير من النساء المُستبيَنات كنّ على وضوحٍ مطلق في شرح فكرة الثرثرة وأسبابها الاجتماعية النفسية، بعيدًا عن التشريح والمعالجات الطبية والعلمية فـ (في دماغ المرأة تفرعات كثيرة. وفي دماغ الرجل تفرعات كثيفة) حسب الرؤيا العلمية، وإن عقل الرجل والمرأة مختلفان (كالاختلاف بين القط والكلب) أما الرجل فهو مخلخل في سلوكه لكن (تريد النساء إثارة إعجاب الرجال).

استبيانات واقعية

الاستبيانات الملحقة بالكتاب واقعية وطبيعية. نرى الوقوف على نوعها وإشكالاتها وطبيعتها الفطرية أو المصطنعة في شعوب غير عربية توجه اليها هذا الكتاب، كأن تقول النساء بأن الأنوثة صعبة التعريف، لكنها (طريقة في عيش الأشياء بعمق.. والمرأة تضحي بالكثير من نفسها جسديًا.. وكلما ازدادت المرأة علمًا وثقافة صارت لغتها تشبه لغة الرجل.. وثقافة المرأة أشبه بإعادة اكتشاف الذات). وعلى هذا المنوال تجري استبيانات مرنة بين النساء، لنكتشف الكثير من الملاحظات وربما الحقائق في الهاجس الأنثوي الذي يرى في أن الإفراط في النسوية يُفقد الأنوثة، بسبب الاحتكاك الدائم بالحياة الاجتماعية وما فيها من قضايا سياسية واقتصادية، مع أن الرجال يهتمون بالقضايا الفكرية والاقتصادية والسياسية أكثر من النساء اللاتي يتحدثن عن الملابس والموضات والمشكلات الحياتية الصغيرة والكبيرة، لكن المرأة وفي حالات استثنائية تتمتع (بروح الرجل) لأن الرجال (يثيرون الاهتمام) أحيانًا، مع أنهم يختصرون الكلام ويوجِدون حاجزًا في العمل بينهم وبين النساء اللاتي يتحدثن أقل من الرجال في الميدان العملي. لهذا فإن (ميْل النساء إلى الانفصال عن الرجل في أغلب الأوقات) طبيعي، بسبب كتم اللغة التي تكتنزها المرأة والانشغال بالجانب العملي من دون وجود النساء. غير أن (حديث النساء مهم.. لكنه إذا تكرر كل يوم يصبح بلا قيمة).

موضوع الثرثرة النسوية سيبدو معقدًا بوجهات نظر قد تكون متناقضة بعض الشيء، وهذا يتحكم به الوعي النسوي، ووجود الحاضنة الاجتماعية التي تكرّس الكثير من القيم الأخلاقية والسيكولوجية والسلوكية. فالنساء يقلن بأنهنّ ميّالات إلى الحديث يمينًا وشمالًا مما يجعل حديثهنّ (سطحيًا) مثلما يرين بأن الثرثرة (مصدر معلومات متجددة) وأنه شكلٌ من أشكال الاسترخاء النفسي والعاطفي. ومع أن الرجل ينظر إلى اجتماعات النساء كشيء (مضحك) وهو عبارة عن (دجاجات ينقنقنَ) لكن النساء يُجبْنَ بأن من أسباب الثرثرة عدم وجود نشاط يومي كالرجل. فالثرثرة تقوم على أشياء صغيرة وعظيمة من وجهة نظر النساء. أو إنها تعبير (عن عدم الرضى) لذلك فقد تهمهنّ التفاصيل أكثر من الرجل.. (واذا روت المرأة قصة خلال 12 دقيقة.. أما الرجل فيروي القصة بثلاث دقائق) يضاف إلى كل هذا اعترافات ضمنية ساخنة على نحو يدعو إلى رؤية الأمور من زوايا متعددة. فالمرأة (لا تكتم السر) لكنها أكثر انفتاحًا على (تفاهات الآخرين)، ويرى الكتاب عبر تفصيلات أخرى في الاستبيانات وغيرها من الحقائق المرابطة بسلوك المرأة اللغوي، بأن اختلاف النساء عن الرجال بموضوع الكلام الكثير؛ الثرثرة؛ هو موضوع مصنوع تاريخيًا (لكي تكون المرأة ناعمة).

“النساء واللغة”

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبتها/كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015