“بيت بلا نوافذ”.. المرأة جوهر وجود الإنسان
من مسرحية "بيت بلا نوافذ"

أنور محمد/ اللاذقية/alaraby- في سياقٍ اجتماعي ساخن من المسرح التفاعلي، يدفع المخرج ياسر دريباتي بنسائه الثماني والثلاثين فوق قمة جبل (جوفين)، على ارتفاع أكثر من ألف متر فوق سطح البحر الأبيض المتوسِّط في مدينة اللاذقية، وعلى خشبة صُمِّمت خصيصًا لعرضه “بيت بلا نوافذ” عن نص مسرحية “بيت برناردا ألبا” لفيديريكو غارثيا لوركا (1898 ـ 1936). العرض الذي أنتجته المنظمة الدولية (UNDP) يقدم لنا أفعال نساءٍ يمتلكن مضمونًا روحيًا أثار انفعالات سامية؛ فالمرأة هي جوهر وجود الإنسان.

يموت زوج برناديت (الممثِّلة نيرمين علي)، فتقرِّر الدخول في غيبوبة تقترب من العدم، حداد يدوم ثمانية أعوام مع ابنتيها (الممثلتان براءة حسينية، وحنان نعمان) إكرامًا لهذا الزوج؛ الرجل الاستثنائي الخارق في حفظه لكرامة المرأة، الذي غابَ جسده لكن روحه لا تزال حاضرة. هل تذهب برناديت من الوجود وفاءً لزوجها؛ أم تسخر من زوجها، وتصعِّد من غضبها، فتقيِّد سلوكها (مع ابنتيها)، في إقامة جبرية مديدة، وويلٌ لمن تخالف أوامرها؟

شكَّل المخرج ياسر دريباتي مع ثلاثين امرأة جوقة تقاوم ذاك الحكم الجائر، ثلاثين امرأة يعشْنَ الألم، وليس الأمل، نذكر منهنَّ: مانيا عون، فلك يوسف، هادية حبيب، مريم سلوم، باسمة عبد الرزاق، ديانا عيد، سلوى إسماعيل، وداد محمود، ورولا. ومع ممثلاته الثلاث: نيرمين علي، وبراءة حسينية، وحنان نعمان، والمغنية هبة أسعد، والراقصتين: حلا حبيب، ونور شحادة، وعازفتي التشيللو: جويل علي، وآنا عكاش. الموسيقى للفنان بيرج قسيس.

حوَّلَ المخرج الجبل، جبل جوفين، في بلدة الدالية في محافظة اللاذقية، إلى منصَّة استكملت أركانها من ديكور وسينوغرافيا وإضاءة؛ بأصباغها وملابسها من الطبيعة. ومع أنَّ النساء الثلاثين يمثلن لأوَّل مرَّة في حياتهن، فقد خلعن ثياب الخجل والخوف من رهبة المسرح، وأمسكن بالسلطة التي منحها إياهنَّ في اختبارات التمثيل، فالتمثيل معرفة وفلسفة، حين يصير الممثِّل قسًّا وكاهنًا، ملكًا وخادمًا، فارسًا ومحاربًا، غنيًا وفقيرًا، قتيلًا ومقتولًا، خائنًا وبطلًا، بهلولًا ومهرِّجًا، طفلًا وعجوزًا، ومؤمنًا. الممثلات اشتبكن مع برناديت وابنتيها في حوارات وحركات بكثيرٍ من الإحساس بالاستثارة، وهنَّ يختلفن على (أبي حسيب) الذي توفاه الله؛ هذا الرجل الكريم الشهمُ، الوفيُّ الفحلُ، الأنيق القوي، الثري، الظريف الفكه. وكأنَّه كان صديقًا لكلِّ نساء البلدة، في مشهد مكاشفة دفعت المتفرجين لأن يبتسموا ابتساماتٍ شُجاعة، وهم يشاركون النساء المؤديات حوارهن/ صراعاتهن بحركات تعبيرية تُشيعُ أثرًا فكاهيًا أو هزليًا على قمَّة جبل جوفين.

النساء الممثلات انتقدن “أبي حسيب” لقسوته وتحجُّر قلبه، مثلما امتدحن ـ كما ذكرنا ـ كَرَمَهُ وسخاء يديه، بل وتوصيله طلبات محظياته ـ صويحباته من خضار وفواكه، وغيرها، إلى أبواب منازلهن. هذا الأبو حسيب كان محور جلسة/ مشهد البوح بأسرار نساء البلدة وعلاقتهن به، حتى لتحسب أنَّ أبا حسيب فارَقَهنَّ وكل واحدة اختلفت، أو اتفقت، اقتربت، أو ابتعدت عنه، تترحَّم عليه من كل قلبها (الله يرحمو)، كأنَّه كان لها وحدها في مشهد العزاء الذي تحوَّل إلى مِرجَل كشف فيه المخرج ياسر دريباتي خواء الوجود الإنساني. فأبو حسيب في المسرحية هو الوحيد الرابح على حساب البشر البسيطين المقهورين الذين يقعون تحت عصا الملكية، أو الجمهورية الكاسرة.

في مسرحيته هذه، جمع دريباتي ما بين مسرح الحلقة والبساط والحكواتي، ومسرح السامر، مع ممثلات أدَّيْنَ أدوارهن بفن، وليس بصنعة، وبتكثيف لموضوع المسرحية التي كتبها غارثيا لوركا، فكُنَّا مع برناديت سورية من بلدة الدالية في اللاذقية. وحتى في مشاهِد الرقص، كانت الراقصتان حلا حبيب، ونور شحادة، ترقصان بحضورٍ تمثيلي. فالرقص محفِّز درامي وجمالي كمشهدٍ يصلُ ويقطعُ ويصلُ ما بين المَشَاهِد، والمكان الذي ترقصان فيه يذكِّرنا كما درسنا وقرأنا بمكان المسرح اليوناني الذي كان يقع في معبد الإله في قمَّة الجبل، جبل جيفون، حيث يمتدُّ منه مَمَرٌّ هو الممر الذي اخترقته النساء وهنَّ ينشدن وينتحبن بغضب نحوَ (ذا) المكان، ليكون العرض، وتكون أحداثه على مرأى من آلهة أثينا. فالرقصة التي أدتاها حبيب وشحادة في المَشاهِد؛ خاصة رقصة حلا حبيب؛ حركاتها كانت أفقية وهي ترقص، وهي تصعد إلى الأعلى بقدمين قريبتين كما متباعدتين، فيما الوجه مبتسم. كانت غجرية ترقص بجيشان وهي تمر من الهدوء إلى الفوران برباطة جأش. لم تكن منفعلة، كانت ترقص بإقبال عقلي، كما لو أنَّها كلُّ الممُّثلات، فيما كانت الممثلة نيرمين علي (برناديت) تنتقل من الثبات إلى التغيُّر، وهي تؤدي مونولوجها الداخلي بقوَّة ورِقَّة ـ تتنقَّل ما بينهما ـ شديدة الاتِّساع والغنى، وهي تكشف عن الجوهر الداخلي لشخصية برناديت، وإن ذهبت لبرهة وهي تمثِّل بانفعال قوي كما لو أنَّ الدمع جرى من عينيها، متأثرةً، لتتماسك بعدها. فيما كانت الممثِّلة حنان نعمان تبدي في حركاتها المعارضة والمعترضة، كما الممثلِّة براءة حسينية، على أوامر والدتهما برناديت باللعب وهي تدخل في الشخصية وتخرج منها، لم تَذُبْ في دورها، كانت لعوبًا وهي تلعب، فترينا أفكار ومشاعر الشخصية.

يكشف صوت المغنية هبة أسعد، وهي تخترق مع النساء الممرَّ/ الشارعَ المفضي إلى الخشبة في قمَّة جبل جوفين، عن ألمٍ وغضبٍ، ومأساةِ ما يقع على النساء من جورٍ وظلم. الشارعُ الممرُّ، الطريقُ الذي تمشي فيه النساء هو طريق المآسي، والصوت، صوت هبة أسعد؛ غناؤها، كان يخرج من حنجرتها كالنشيج، كما لو أنَّها تعزف نغماتٍ على آلةٍ موسيقية؛ نغماتٍ توافقية وتطابقية بنسبٍ رياضية بسيطة وبشكل هارموني، كأنَّها ضربات تذهب من الخشونة إلى النعومة فالتلاشي، فترسل إشاراتٍ/ علاماتٍ تقترب من الفكر اللغوي، ولكن بشكل صوتي: استنكاري، تعجبي، مجروحٌ مقهورٌ، ساخر، قصصي، وحميمي دال. وعلى أوتار التشيللو، عزفت كل من جويل علي، وآنا عكاش، لحنًا حزينًا في الطريقِ المَمَرِّ إلى قمَّة الجبل حيث الجدل المسرحي.

المخرج ياسر دريباتي في “بيت بلا نوافذ”، مع ممثلات/ مؤدِّياتٍ اشتغلن أدوارهن بأحاسيس أنثوية ناقدة، وبقدرٍ من الإنسانية، قام بتأجيجٍ التراجيديا في العرض نحو الذروة المسرحية.

من مسرحية “بيت بلا نوافذ” 

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبتها/كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015