تراث‭ ‬الهيمنة‭ ‬الذكورية
Abstract painting. the girl in the cafe

حياة عمامو/alfaisalmag- لا‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬فارقًا‭ ‬جوهريًّا‭ ‬بين‭ ‬الباحثة‭ ‬والباحث‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بدراسة‭ ‬التراث‭ ‬ومحاولة‭ ‬فهمه،‭ ‬وبخاصة‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بقضاياه‭ ‬الحارقة‭ ‬التي‭ ‬تُلقي‭ ‬بثقلها‭ ‬على‭ ‬واقع‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬الراهن،‭ ‬حيث‭ ‬يتعرض‭ ‬الباحث،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬امرأة‭ ‬أو‭ ‬رجلًا،‭ ‬إلى‭ ‬صعوبتين‭ ‬رئيستين‭: ‬تتعلق‭ ‬الأولى‭ ‬بالتراث‭ ‬اللامادي،‭ ‬وبخاصة‭ ‬الجانب‭ ‬الديني‭ ‬منه،‭ ‬مثل‭: ‬القرآن‭ ‬والتفاسير‭ ‬والأحاديث‭ ‬النبوية‭ ‬والسيرة‭ ‬النبوية،‭ ‬حتى‭ ‬كتب‭ ‬الفقه‭ ‬والفتاوى‭ ‬والتاريخ‭ ‬التي‭ ‬ينظر‭ ‬إليها‭ ‬بوصفها‭ ‬مقدسات‭ ‬وحقائق‭ ‬مطلقة‭ ‬لا‭ ‬تقبل‭ ‬النقد‭ ‬ولا‭ ‬الشك،‭ ‬وبناء‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬النظرة‭ ‬التي‭ ‬ترسخت‭ ‬في‭ ‬الضمير‭ ‬الجمعي‭ ‬للعرب‭ ‬المسلمين،‭ ‬يُنعت‭ ‬بالكفر‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يعتمد‭ ‬الفكر‭ ‬النقدي‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬تجاه‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬لدراسة‭ ‬قضايا‭ ‬مهمة‭ ‬مثل‭: ‬الحجاب‭ ‬والوضع‭ ‬الاجتماعي‭ ‬للأقليات‭ ‬الدينية‭ ‬والعرقية‭ ‬ومسألة‭ ‬الحقوق‭ ‬والمواطنة،‭ ‬وفي‭ ‬حالة‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الباحث‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القضايا‭ ‬امرأة‭ ‬فإنهم‭ ‬لا‭ ‬يكتفون‭ ‬بتكفيرها‭ ‬وإنما‭ ‬ينعتونها‭ ‬بالفسق‭ ‬والفجور‭ ‬لإسكاتها‭ ‬نهائيًّا.

أما الصعوبة الثانية فتتعلق بالتراث المادي وأساسًا علم الآثار الذي يتطلب البحث فيه إمكانيات مادية وأبحاث ميدانية تستغرق زمنًا طويلًا، وعلى الرغم من أن صعوبات البحث في هذا المجال تنطبق على النساء والرجال، وهذا ما يجعلهم لا يقدرون على تنظيم أبحاث أثرية بمفردهم، بل ينخرطون في فرق أجنبية بإمكانها توفير المستلزمات المادية والكفاءات العلمية، فإن وضع المرأة الباحثة في هذا الميدان أشد خطورة وتعقيدًا لما يمكن أن تتعرض إليه من تحرش وابتزاز في الميدان الذي كثيرًا ما يكون في مناطق بعيدة ومعزولة تستوجب إقامة الباحثين الكاملة لمدة قد تستغرق شهورًا.

توجهات النسوية

ينتمي كثير من النساء العربيات إلى النسويات المناضلات عن طريق الكتابة أو التحركات الميدانية أو الاثنين معًا. ولهؤلاء النسوة توجهان مختلفان، فإما يكنَّ من النسويات اللاتي يُعطين الأولوية القصوى للقيم الكونية والمواثيق الدولية، أو يكنَّ من النسويات الإسلاميات اللاتي لا يرين تحرر المرأة إلا من خلال احترام خصوصية الدين الإسلامي، ويتحفظن دائمًا على ما تدعو إليه المواثيق الدولية فيما يتعلق بالحريات والتحرر، ويوجد في البلدان العربية كثير من النساء النسويات المنتميات إلى كلا الصنفين، ولكنهن أقل حجمًا من ناحية الإنتاج الفكري والإشعاع العلمي من فاطمة المرنيسي.

في غير مجال النسوية يأتي كثير من الباحثات العربيات في مجال التراث، مثل سهير البارودي، ووداد القاضي، ونابيا أبوت، وعائشة العابد، هذا بالنسبة للجيل القديم، أما الجيل الأصغر سنًّا، فيوجد كثير من الباحثات في آثار ما قبل الإسلام، فضلًا عن كثير من الباحثات في تاريخ الإسلام وحضارته في موضوعات كثيرة مثل الطبخ والطقوس، وبخاصة طقوس العبور منها، ومسألة السُّلَط والمجتمع والبلاط والعمارة…

إن التحدي الكبير الذي يواجه الباحثات والباحثين في مجال إعادة النظر في التراث وقضاياه يتعلق أساسًا بقلة الإمكانيات المادية المخصصة لهذا المجال، وبخاصة النظرة الدونية التي أصبحت تنظر بها الأنظمة العربية إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية؛ بسبب كون هذه العلوم لا تُنتج إنتاجًا ماديًّا، لذلك فهي من وجهة نظرهم لا توفر أرباحًا مادية مثلما يتوق إلى ذلك نظام العولمة النيوليبرالي.

هذه النظرة السلبية إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تُعالج داخلها كل قضايا التراث هي المتسببة في جانب كبير في عقم سياسة الثقافة والتعليم في بلداننا، فضلًا على المردودية القليلة للسياحة وسطحية الفنون والإبداع. إن إعادة النظر إلى التراث وفهمه ثم توظيفه في نهضة شاملة يمكن أن يكون مفتاحًا من أهم مفاتيح الصحوة التي تجعلنا نلتحق بالأمم المتقدمة، وعلاقة المرأة العربية ليست ضعيفة بالتراث، ويمكن تفسير ضعف مشاركتها في البحث في هذا المجال بقِلّة عدد الباحثات مقارنة بعدد الرجال.

صراع جندري

وقد بيّنت الإحصائيات في تونس أن نسبة الباحثات تفوق نسبة الباحثين ولكن أغلبيتهن يبحثن في البيولوجيا والطب والاقتصاد والكيمياء، وقلة قليلة منهن فقط يبحثن في التراث والآثار بسبب صعوبة هذا الميدان من جهة وقلة الإمكانيات من جهة ثانية وتبخيسه من جهة ثالثة من جانب الأنظمة السياسية كما بينتُ ذلك سابقًا.

ويُمكن تفسير قلة إقبال النساء على الأبحاث الأثرية والتراثية بالصراع الجندري وهيمنة الذكور؛ لأن من يرسمون السياسات في بلداننا هم الذكور الذين لا يؤمنون بالبحث في قضايا التراث وأهميتها في واقعنا الحالي، ولا بدور المرأة في البحث فيه؛ لأنهم يتعاملون مع هذا التراث كأيديولوجيا يوظفونها بأوجه مختلفة لضمان استمرارية هيمنتهم السياسية والاجتماعية والثقافية، فالتراث بالنسبة إلى هؤلاء يمثل آلية من آليات الهيمنة وليس مصدرًا مهمًّا من مصادر التنمية.

Abstract painting. the girl in the cafe

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبتها/كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015