“تسلل” في “حقول الحرية”: المرأة العربية في ملاعب كرة القدم
كرة القدم النسائية

صفاء الصالح/ بي بي سي عربي- على الرغم من أنّ كرة القدم النسائية في العالم العربي ما زالت في كثير من البلدان في إرهاصاتها الأولى وتُمارَس في نطاقات محدودة، ولم تصل إلى مستوى إحترافي يؤهلها للظهور في البطولات والمونديالات الدولية لكرة القدم النسوية التي بدأت منذ عام 1991، إلا أننا بدأنا نشهد مؤخراً اهتماماً خاصاً بها في السينما وجعلها موضوعاً أساسياً لعدد من الأفلام فيها.

وكان آخر هذه الأفلام هو “أوفسايد خرطوم” (أي: تسلل) الذي دشّن عروضه العالمية في مهرجان برلين السينمائي، ومازال يواصل عروضه، ويتابع المشاركة في العديد من المهرجانات والتظاهرات السينمائية.

كان الفيلم واحداً من ثلاثة أفلام ترافق إنتاجها مع إسقاط نظام عمر البشير في السودان، وحظيت باحتفاءٍ في عدد من المهرجانات الدولية بوصفها تمثّل نهضة سينمائية في السودان الذي تعثّر الإنتاج السينمائي فيه طوال الفترة الماضية.

وانضم هذا الفيلم إلى فيلم المخرجة البريطانية/الليبية نزيهة عريبي “حقول الحرية”، المنتج عام 2018 وعرض في مهرجاني تورينتو ولندن السينمائيين عام 2019، والذي يتناول حلم ثلاث نساء ليبيات ومحاولتهنّ تأسيس فريق كرة قدم نسائي يمكن أن يُشارك لتمثيل ليبيا في المسابقات العربية والدولية في أعقاب سقوط نظام العقيد معمر القذافي.

ويمكن أن نضيف هنا فيلم المخرجة الأردنية وداد شفاقوج “17” المعروض عام 2017، ويتناول فتيات منتخب كرة القدم الأردني للشابات تحت 17 سنة خلال استعداداتهنّ لبطولة كأس العالم للسيدات تحت سنّ 17 لكرة القدم، والتي أقيمت في الأردن في 2016، ويسلّط الضوء على خلفياتهنّ الاجتماعية المختلفة والتحدّيات التي تواجههنّ كفتيات اخترن ممارسة لعبة رجولية في مجتمع ذكوري محافظ.

وكذلك فيلم المخرجة الفلسطينية سناء القاعود “نساء في الملعب” 2011، الذي صوّر على مدى ثمانية أشهر المنتخب الفلسطيني النسوي لكرة القدم عبر متابعة حياة أربعٍ من لاعباته والتحدّيات الاجتماعية التي يواجهنها.

نستطيع التحدّث إذن عن ظاهرة بدأت تتصاعد بإطراد مع الدعم الإنتاجي الذي تحظى به مثل هذه الأفلام من جهات إنتاجية دولية ومنظمات نسوية تعمل على تمكين المرأة في العالم الثالث، والنمو المتزايد للاهتمام بالرياضات النسوية، فضلاً عن الترحيب الذي تحظى به في المهرجانات والمناسبات السينمائية أو فعاليات المنظمات النسائية الدولية.

ولا ننسى أن نضيف هنا أنّ العام الماضي، الذي شهد عرض الفيلمين الأخيرين في عدد من المهرجانات، قد عُقِدَت فيه بطولة العالم لكرة القدم النسائية في العاصمة الفرنسية باريس، والتي رافقتها حملة إعلامية ترويجية ضخمة.

كفاح في مجتمع ذكوري

تنطلق هذه الأفلام جميعاً من ثيمة واحدة، تتمثّل في التركيز على كفاح المرأة ومعاناتها للحصول على حقوقها والمساواة مع الرجل في مجتمعات ذات هيمنة ذكورية (بطرياركية)، واختيار كفاح نساء يُمارسن رياضةً هيمن عليها الرجال، لنيل الاعتراف بهنّ وبحقّهنّ في ممارستها.

يتفق فيلما “حقول الحرية” و “أوفسايد خرطوم” بأكثرمن سمة؛ فكلاهما يمثّل محاولة مخرجة اغتربت عن بلادها وتزورها للمرة الأولى، وتصبح محاولتها لصنع فيلم عن نساء بلادها، محاولةً للتعرّف على نفسها وعلى بلادها الأولى واختبار هويتها من خلالهن. فمخرجة الفيلم الأول نزيهة لعيبي بريطانية من أصول ليبية، ويمثّل الفيلم بالنسبة إليها محاولة لاكتشاف بلاد والدها بعد الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بحكم العقيد معمر القذافي، وتحديداً واقع المرأة الليبية في المجتمع المحافظ الذي تعيش فيه.

ومروة زين، مخرجة “أوفسايد خرطوم”، سودانية عاشت معظم حياتها خارج بلادها؛ فهي وُلِدَت في السعودية التي عاشت فيها حتى سن الـ 12 عاماً، وانتقلت بعدها للعيش في مصر التي درست فيها السينما في معهد السينما في العاصمة المصرية القاهرة وعملت كمساعدة مخرج مع عدد من المخرجين المصريين، قبل أن تتمكن من صناعة فيلمها الأول هذا؛ والذي مثّل أيضاً محاولة لاكتشاف بلادها وهويتها وواقع النساء فيها.

تقول كلتا المخرجتين إنّ العمل على الفيلم استغرق أكثر من أربع سنوات، رافقتا فيها مجموعة النساء اللواتي يحاولن شقّ طريقهنّ وسط كلّ تحدّيات المجتمعات المحافظة لإثبات أنفسهنّ كلاعبات كرة قدم، والتمكّن من المشاركة في المسابقات الدولية في اللعبة. ففيلم زين بدأ بدعوة من مؤسسة نسوية سودانية، تحمل اسم رؤية، لصنع فيلم قصير عن مجموعة فتيات يلعبن كرة القدم في الخرطوم، بيد أن معايشتها مع الفتيات دفعتها إلى مدّ الفكرة والعمل على فيلم وثائقي طويل، في هذا الصدد.

الهوية وتناقضات الواقع السياسي

يختلف فيلم زين عن فيلم عريبي بأنّها ركّزت على شخصية أساسية؛ هي سارة أدوارد المُدَرّبة المحترِفة لكرة القدم، والتي تقود مجموعة من الفتيات لتأسيس فريق سوداني نسوي لكرة القدم على الرغم من المعوقات التي تواجههنّ من المجتمع ومن النظام السياسي الحاكم في السودان إبّان حكم عمر البشير.

وتوفّر شخصية سارة للمخرجة فرصةً لتسليط الضوء على لحظة تاريخية في المجتمع السوداني، بعد انفصال جنوب السودان، فسارة هي من أصول جنوبية اختارت البقاء في الشمال بعد انفصال جنوب السودان وظلّت تواجه أزمة هوية. وترى زين فيها كما تقول في إحدى مقابلاتها إنها تمثّل بالنسبة إليها “رمزاً للنضال ورمزاً لوحدة السودان فهي من الشمال والجنوب وتتمتّع بصلابة وذات شخصية ملهمة، تذكّرني بالملكات في التاريخ”.

وهكذا يتجاوز الفيلم لدى مروة زين مجال كرة القدم النسوية، ليصبح محاولةً للنظر في البلاد عموماً وتناقضات واقعها السياسي والتهميش الذي تعاني منه المرأة في ظلّ نظامٍ سياسي يمثّل مزيجاً من العسكر والإسلام السياسي. فالمناقشات بين سارة وزميلاتها في الفريق تتجاوز القفشات المرحة أو الحديث عن هموم كرة القدم النسائية، إلى أحاديث أوسع عن تناقضات المجتمع السوداني وعن توزّع هويته بين فضاءات مكانية وثقافية ودينية متعدّدة.

وإذا كان الفيلم يبتدئ بلافتة تقول: “تحت الحكم العسكري الإسلامي الحالي في السودان، لم يكن مسموحاً للنساء لعب كرة القدم ولم يكن مسموحاً لنا التصوير أيضاً، ولكن …”، إلا أنّ مسار الأحداث فيه لاحقاً يُناقض هذه المقولة فنحن إزاء فيلمٍ صوّر في السودان (ربما بظروف صعبة)، وإزاء لاعبات كرة قدم يحاولن بناء فريق نسوي وينجحن في النهاية في تنظيم مباراةٍ لكرة القدم، ويشاركن في انتخابات اتحاد كرة القدم السوداني على أمل وصول قيادة جديدة تفعّل فريق كرة القدم النسوي (كان للسودان فريق كرة قدم نسوي في السبعينيات) ومشاركته في المسابقات الدولية؛ بل أن بعضهنّ مثل سارة تحترف رسمياً العمل في تدريب كرة القدم. وإن كنا لا نستطيع أن نغفل هنا أثر مجتمعٍ محافظ ونظامٍ إسلامي يفرض الكثير من المعوقات على ممارسة المرأة لمثل هذه الرياضة.

وتأتي الصور الفوتغرافية التي تعرضها المخرجة في نهاية فيلمها لتقدّم لنا نوعاً من المقارنة بين واقع المرأة السودانية وسِعَة نشاطاتها الرياضية والثقافية والفنية في السبعينيات، وتراجع مثل هذه النشاطات والحريّات في أعقاب إنقلاب نظام الإنقاذ في السودان في عام 1989.

ويظلّ فيلم “أوفسايد خرطوم” عند حدود هذا المسح (الأفقي) لواقع شخصياته، مفتقداً لمسار درامي أو حدث درامي محدّد يقود أحداثه ويمثّل ذروتها، فتلجأ المخرجة إلى صناعة مثل هذا الحدث في إقامة مباراة كرة قدم نسائية في فسحة ترابية في إحدى ضواحي العاصمة السودانية، لتشكّل مشهد النهاية في الفيلم حيث ترتفع الكاميرا (عبر التصوير بواسطة طائرة مسيّرة ‘درون’) ليصغر حجم الملعب الترابي بشكل تدريجي؛ ليبدو مجرّد بقعة صغيرة تتلاشى وسط بيوت المدينة البسيطة المتناثرة وسط هذه الفضاء الترابي، وقد اختارت المخرجة ملصق الفيلم من هذه اللقطة.

مواجهة مع المجتمع المحافظ

وعلى العكس من فيلم “أوفسايد خرطوم” الذي سبق تصويره الانتفاضة الشعبية في السودان والإطاحة بنظام الإنقاذ (صوّر بين 2014 – 2018)، جاء بدء العمل في فيلم “حقول الحرية” في عام 2012، أي في أعقاب أحداث الانتفاضة الليبية التي انتهت بإسقاط نظام العقيد القذافي، لذا فإنّ المواجهة الأساسية فيه مع المجتمع والتوجّهات الإسلامية المحافظة التي هيمنت في هذه المرحلة، وشبح التطرّف والتشدّد الذي يصل حدّ التهديد بقتل النساء اللواتي يُمارسن هذه الرياضة. وإن كان كلا الفيلمين يخصص مساحة للفتاوى وتصريحات رجال الدين التي هاجمت النساء وتحرّم ممارستهنّ للعبة كرة القدم.

بيد أنّ ما يغفله الفيلمان معاً، هو الغوص عميقاً في واقع الانقسام الإثني والعرقي الذي يميّز المجتمعين اللذين اختارت المخرجتان مادتهما منها. وهو أمرٌ لا يمكن إلا لمطّلع بعمق على هذه المجتمعات أن يتلمّس أن معظم الشريحة المختارة في الفيلمين هي من فئات عرقية مهمّشة يقع عليها نير تمييز اجتماعي كبير، وفي الوقت نفسه تبدو أكثر تحرّراً من الاشتراطات التي يفرضها المجتمع المحافظ على فئات أثنية أخرى تقع في قلب علاقات القوة فيه. وهو موضوعٌ شائك لمّحت له المخرجتان لكنهما لم تخوضا فيها لأنه يهدّد الأسس التي قام عليها فيلميهما.

تتابع عريبي في فيلمها “حقول الحرية” أحلام نسائها الثلاثة، فدوى وحليمة ونعمة، في ممارسة كرة القدم وتأسيس منتخب نسوي ليبي يسهم في المسابقات العربية، بل وتساعد في تجسيد هذه الأحلام على أرض الواقع من خلال مشاركة فريق إنتاج الفيلم، كما يبدو، في جعل هذا الحلم حقيقة، ومرافقة الفريق في النهاية لخوض مباريات مع فرق عربية أخرى في العاصمة اللبنانية بيروت.

ولعلّ النموذج لمثل هذه الأفلام، التي تدخل صناعة مادتها الفيلمية ضمن مجال كرة القدم النسائية، هو فيلم المخرجة الألمانية مارلينه أسمان “كرة قدم تحت الحجاب” 2006، والتي رتبت مباراة ودّية لكرة القدم بين فريق نادي كرويتسبرغ الألماني والمنتخب الوطني النسوي الإيراني لكرة القدم، وصوّرت فيلمها عن الرحلة إلى إيران والأجواء التي رافقت هذه الرحلة إلى إيران. كما أسّست بعد الفيلم مع ناشطين آخرين جمعية “ديسكفر فوت بول” التي تُعنى بكرة القدم النسائية وتمكين المرأة في مختلف أنحاء العالم من ممارستها وتستخدم الفيلم وسيلة أساسية للترويج لنشاطها.

وكان العام نفسه قد شهد فوز فيلم المخرج الإيراني جعفر بناهي بجائزة الدب الفضي، وهي الجائزة الكبرى للجنة التحكيم في مهرجان برلين السينمائي، عن فيلمه “أوفسايد”، (استلهم الفيلم السوداني عنواناً مشابهاً له)، والذي كان أول فيلم يسلّط الضوء على علاقة المرأة بمباريات كرة القدم في المجتمعات الإسلامية المُحافِظة، من خلال محاولة مجموعة من الفتيات التنكّر في أزياء صبيان لحضور مباراةٍ لكرة القدم في بلدٍ كان يمنع دخول النساء إلى الملاعب.

وعلى الرغم من أن كرة القدم موضوع أثير يمتلك حضوراً كبيراً في تاريخ الفن السينمائي، إذ يلجأ المخرجون في العادة إلى استثمار الشعبية الكبيرة التي تحظى بها اللعبة لجذب جمهورها إلى أفلامهم، إلا أنّ كرة القدم النسائية لم تأخذ إلا نسبة قليلة من هذا الاهتمام، وظلّت لدينا نماذج معدودة في هذا الصدد، حتى مطلع الألفية الجديدة حيث تصاعد الاهتمام كثيراً بهذا النمط من الأفلام سواء في السينما الوثائقية أو في السينما الروائية بعد النجاح الكبير الذي حقّقه فيلم “أُركليها مثل بيكهام” عام 2002.

كما بات لهذا النمط من الأفلام مهرجاناته المتخصّصة، كما هي الحال مع مهرجان كرة القدم النسائية الذي عُقِدَ في أوغسبرغ، أو مهرجان “أُركليها” الذي عُقِدَ في مدينة فرانكفورت الألمانية.

كرة القدم النسائية

كرة القدم النسائية

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015