تنميط المرأة بين الطبيعة والمجتمع
الصورة النمطية عن المرأة

بي بي سي- تتعرض المرأة خلال حياتها إلى عملية تنميط وقولبة جسدية وذهنية ونفسية، لتهيئتها للدور الاجتماعي الذي يعدها له المجتمع.

كتبت الفيلسوفة الفرنسية المعروفة بأفكارها النسوية سيمون دو بوفوار “الإنسان لا يولد امرأة بل يصبح ذلك لاحقا”. ليست الإشارة هنا إلى كيان المرأة البيولوجي بالطبع، بل إلى كيانها الآخر: العاطفي، النفسي، الاجتماعي. ما أرادت دو بوفوار قوله هو أن المرأة تخضع لعملية “تنميط” تكسبها الهوية التي يعرفها بها المجتمع كامرأة.

وما هي ملامح هذه الهوية يا ترى ؟

من الصعب الاتفاق على ملامح محددة، فهي تختلف باختلاف الثقافات، وإن كان هناك اتفاق عابر للثقافات على بعض تلك الملامح.

ربما القاسم المشترك بين الثقافة السائدة في المجتمعات الرأسمالية الغربية وتلك التي تسود في مجتمعات الشرق العربي مثلا، أن أحد معرفات الهوية النسائية هو وظيفتها الجنسية.

تقول ناتالي غارلاند، طالبة دكتوراة وباحثة أمريكية في شؤون النسوية في جامعة UCL في لندن:

“الطريق الذي نسلكه حتى نتحول إلى نساء متعدد الطبقات والمستويات وصعب التعريف، نشأت في عائلة يهودية أمريكية علمانية مترابطة ، حيث يتوقع من النساء الزواج والإنجاب والمحافظة على الإرث اليهودي. وتحظى المرأة بالتقدير أيضا لنجاح تحرزه أو لذكاء تحظى به، وكل هذا يشكل عبئا نفسيا علي، لكنه قد يكون محفزا”.

وترى ناتالي أنها في وضع محظوظ أكثر من مثيلاتها في أماكن أخرى من العالم،لأنها امرأة بيضاء تنتمي للطبقة الوسطى وتعيش في الغرب، لذلك، وبالرغم من وجود التمييز الجنسي إلا أن فرصها لتحديه أفضل من مثيلاتها في أماكن أخرى من العالم خاصة إذا كن ينتمين إلى طبقة اجتماعية اقل حظا.

شرك إسمه الجسد

إذن الهاجس المشترك هو الزواج، كوظيفة بيولوجية منوط بها إعادة إنتاج القبيلة كحد أدنى، وما يتبع ذلك من متطلبات تتغير من ثقافة لأخرى.

ابتداء من هذه الوظيفة المعرفة لشخصيتها الاجتماعية وسلوكها وحتى حركات جسدها العفوية، تبدأ عملية تشكيل المرأة.

ما يمكن ملاحظته، وبغض النظر عن الثقافة الاجتماعية السائدة، هو الوعي المكثف للمرأة بجسدها، الذي تحس به كشرك.

يمكن ملاحظة أبسط مظاهر هذا الإحساس بمراقبة سلوك المرأة الدائم الذي ينم عن وعي لحظي ومكثف بجسدها في سياق جنسي محض.

حين ينحني الرجل لالتقاط شيء ما مثلا يفعل ذلك باسترخاء وبدون أن يحس من يراه أن هناك ما يشغله خارج نطاق الشيء الذي يلتقطه.

في حال المرأة يبدو الأمر أكثر تعقيدا، حتى للناظر من بعيد، فهي بحركة عفوية تشد بلوزتها إلى الأعلى خوفا من أن تكشف الحركة صدرها أمام الناظرين.

وكذلك فعليها أن تنتبه إلى أن قميصها لن تنحسر من الخلف أو أن بنطالها لن ينخفض عن خصرها ويكشف ثيابها الداخلية.

تقول د.نوال السعداوي في كتابها “المرأة والجنس” إن جزءا من تربية الفتيات (في مصر، لكن مصر ليست استثناء من هذه الناحية) يركز على ضرورة أن تنتبه الفتاة إلى كيفية جلوسها، بحيث لا تنفرج الساقان، مثلا، بشكل يجعل ثيابها الداخلية ظاهرة لمن يجلس في مقابلها.ويجب أن لا تضع ساقا على ساق، لأن هذا يخدش الصورة النمطية للفتاة الخجولة.

في كتابها “الجنس الثاني” تناقش سيمون دو بوفوار تطور العلاقة بين المرأة وجسدها، ودور المجتمع في ذلك.

في هذا الكتاب تقول دو بوفوار ، الحائرة بين الفلسفة الوجودية التي تعتنقها وبين جنوحها نحو الفكر النسوي، إن جسد المرأة يمكن أن يتحول إلى “شرك” كذلك يمكن أن يصبح وسيلتها للعبور نحو حريتها.

ترى دو بوفوار أن ليس الجسد بمفهومه البيولوجي هو الذي “يشكل” وعي المرأة به سلبيا أو إيجابيا، بمعنى كمنطلق للحرية أو للحياة المقيدة، بل كيفية استجابتها له (طبعا من خلال تفاعلها الاجتماعي).

التفاعل الاجتماعي وتشكل “المرأة” في المجتمع العربي

في الثقافة العربية التي تحتفي بالرجولة (من حيث عدم التحرج من الإعلان عنها، بل وفي سياقات معينة تشجيع التباهي بمظاهرها)، فإن أول ما يغرس بالفتاة هو “ضرورة التكتم” على مظاهر أنوثتها الجوهرية ، في الوقت الذي يضع أكثر من خط تحت المظاهر السطحية.

تقول علياء الزعبي، خريجة أدب إنجليزي من حيفا:

“الغريب أنه من خلال نشأتي وخاصة في فترة مراهقتي كان علي أن أطبق جميع معايير الانوثة من الخارج وأن أجعل نفسي قالباً اسمنتياً من الداخل ,أن أراقب خطواتي كي لا تكون طريقة سيري رجالية, أن اضفي ارجحة خفيفة للوركين حين أمشي , أن لا أضحك بصوتٍ عال حتى لو كانت النكتة مثيرة للضحك،أن لا أضعَ الواناً في شعري حتى لو كانت مؤقتة”.

تجتاز الفتاة المرحلة الحرجة بين “الطفولة” و”الأنوثة” فتتغير المعايير والقوالب. تتابع علياء:

“حين انتقلت من الصف التاسع الى الصف العاشر، بدأت طلبات الزواج تطرق باب بيتنا ”

هنا توضع الفتاة في مواجهة بين أحلامها الخاصة وبين الدور المنوط بها، ويلعب الحظ وظروف العائلة دورا في مساحة الهامش الذي يترك لها. علياء وصلت إلى نقطة المنتصف .

“أبي ليس اباُ فاشياُ لهذا فقد كان سبب رفضهِ للعرسان دائماً أني لا أزال صغيرة في السن، في الثانوية كانت أحلامي كبيرة : أن أسافر , أن أتعلم , أن أصبح ما أريد , أنهيت ثانويتي , لم أسافر , تعلمت .. لم أصبح ما أريد” .

بداية الرحلة

تبدأ عملية التكتم على مظاهر الأنوثة العميقة مع بلوغ الفتاة، فأول مظاهر هذا البلوغ مواجهة تجربة مبهمة، لا يجري في العادة تهيئتها لها من قبل الأم، وذلك تكريسا لموضوع الكتمان والحرج، هذه التجربة هي الدورة الشهرية الأولى.

هذه أول تجربة مربكة في علاقة الفتاة العربية مع جسدها.

يستمر التكتم بعد تصالح الفتاة مع الظاهرة وفهمها لماهيتها، فيفترض أن تحتفظ بها سرا، فلا تتحدث عنها، وتشتري الفوط الصحية وتتخلص منها بالسر بعد استخدامها. هذا ما تناولته أفلام ولقطات فيديو ساخرة مؤخرا، حيث بدأ البعض في كسر حاجز الصوت حول هذا الموضوع

وتستمر التربية الاجتماعية برسم التدرب على إتقان الدور الجنسي المنوط بالفتاة مستقبلا ضمن مؤسسة الزواج، فتبدأ عند نقطة معينة بأخذ اتجاه معاكس.

في كتابها “نساء على أجنحة الحلم” تستشهد عالمة الاجتماع المغربية الكاتبة فاطمة المرنيسي بأقدم النصوص السردية الشرقية التي ترجمت إلى العربية خلال العصر الذهبي للإسلام (ألف ليلة وليلة) عن مأزق شهرزاد: المرأة التي كان عليها أن تتقن فنون المناورة في لعبة الموت، فمطلوب منها أن ترفه عن الملك ثم تمنحه جسدها مقابل أن لا يقتلها.

تمثل هذه الحكاية بشكل صادم مأزق المرأة في لعب الدور ونقيضه في علاقتها بالرجل، حتى تحوز على رضاه.

مراحل التنميط

بعد مرحلة البلوغ تكون الفتاة قد دخلت أولى مراحل التشكيل الجنساني والتي تصاحب مرحلة نضوجها العاطفي والجسدي، أي بداية تشكيل وعيها الأنثوي وتدريبها على استعراض انوثتها.

في هذه المرحلة يبدأ التشكيل الاجتماعي المنوط به رسم ملامح دورها المستقبلي، وعلاقتها بالرجل: تبدأ العائلة بتدريبها على الأعمال المنزلية ومن ثم توزيع تلك الأعمال عليها: تنظيف، طهي، خدمة ذكور العائلة.

بعد أن تتجاوز الفتاة سن العشرين يكون قد غرس في وعيها أنها الآن “تنتظر النصيب”، أي قدوم شاب لطلب الزواج بها.

في هذه المرحلة تواصل ما بدأته في المرحلة السابقة: استكمال الاستعداد للمرحلة المقبلة، الزوجية، فتبدأ في تعلم أصول الماكياج والتمكن من مهارات الطبخ، وفي نفس الوقت تعيش مع هاجس أن “يفوتها القطار” أو بمفهوم المجتمع أن “تصبح عانسا”، أي تتجاوز السن الذي يجعلها جذابة للرجال.

في هذه المرحلة أيضا تحاط الفتاة بمجموعة من “الحكم” والأمثال الشعبية التي تمجد المؤسسة الزوجية “ظل رجل ولا ظل حيط”، من أجل تكريس إحساسها بالحاجة للرجل (مهما بلغت درجة استقلاليتها)، وهو الهاجس الذي يصاحبها بعد الزواج ويجعلها تخشى من أن تفقد ذلك “الظل” بالطلاق أو بأن يتزوج بأخرى أو بالخيانة الزوجية.

الجسد المحرم، الجسد الحلال

خلال المرحلة التي تسبق الزواج تبقى علاقة المرأة بجسدها ملتبسة، محاطة بالتحذيرات: عيب، حرام. وهذا ما يحرمها من إمكانية الحصول على وعي جنسي، ولو على مستوى التعرف الحميم على جسدها الخاص .

ثم فجأة تتزوج، ويكون عليها بين عشية وضحاها، أن تقتحم عالم الجنس وكأن شيئا لم يكن، فالجنس فجأة يصبح واجبا مقدسا، لأنه مرتبط بإسعاد شريك حياتها “بالحلال”.

ما الذي يجري في غرفة النوم ؟ ليست هناك الكثير من الدراسات حول تاثير سكب الماء الساخن بشكل مفاجئ على جسد غمر بالثلج لسنوات طويلة، وإمكانية قفز المشاعر والجسد من وعي إلى وعي نقيض..

على المستوى اللفظي، فجأة يصبح التعامل مع الجسد مباحا بل مستحبا، ابتداء من الأسئلة الفضولية لأم الزوجة والزوج، في الأيام الأولى، إلى “الاطمئنان على الحمل” في الشهور التي تلي، إلى التدخل في عدد الأطفال الذين تنجبهم …الخ الخ الخ.

الرأي الآخر

طبعا عدد كبير من الفتيات يتصالحن بشكل أو بآخر مع النمط الذي يرتإيه المجتمع، ولا يعشن حالة اغتراب عنه.

تقول شيماء (إسم مستعار ) إنها لم تحس بأي ضغط نفسي خلال تربيتها، ولا حتى بعد الزواج، فهي متدينة ملتزمة، وترى أن وضعها متماه مع قناعاتها الدينية.

واستشهدت شيماء بالآية القرآنية “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا”، وهي مقتنعة أن الزواج وتكوين العائلة هي إرادة الله.

أما نسرين عيسى، طالبة جامعية تعيش في الولايات المتحدة فترى أن الصورة غير واقعية بالمرة، وأن تجربتها الشخصية تعكس دورا محدودا للمجتمع ودورا أكبر بكثير للعائلة.

تقول نسرين :”أنا نشأت في عائلة و لم أنشأ في مجتمع، نشأت في منزل ولَم أنشأ في الشارع، و في الحقيقة كلنا هكذا و المجتمع لا علاقة له بنا لا من بعيد ولا من قريب إلا من أراد لنفسه التأخر عن القافلة ورضي بحالِه. انا نشأت في عائلة محافظة حتى بعد ما توفي ابي عنا كانت أمي هي الام و الأب في آن واحد و لا اذكر انني سمعت منها مصطلحات مشابهة لـ” حين تصبحين زوجة ” أو افعلي هذا ” حتى تكوني زوجة مثالية ” أو حتى ان تعلمني الطبخ كي أكون زوجة ماهرة في الطبخ”، لم اذكر انها دست لنا مصطلح المجتمع في نقاشاتنا، فإن أذنت كان برضاها لا برضى المجتمع و إن منعت كان اختياراً منها لا من المجتمع”،

وتضيف نسرين أنها تفكر بالقرارات الذاتية التي قبل ان تتخذها، وبم سيلحقه هذا القرار بها من ايجابيات أو سلبيات ولا تفكر بالمجتمع أبداً، “عائلتي لا تُرغم على الزواج و لا تمنع الزواج عنوه ايضاً، تعطيني الاحقية في الاختيار و الترك في حال شعرت بعدم الارتياح المُبَرر، و تعطيني القوة التي اتجعلني سيدة نفسي فعائلتي بقوامها الصحيح بعيداً عن المجتمع لم تميعني و لم تجعلني أعاني من فوبيا “ماذا سيقول عني المجتمع “،

“كسر القالب”

إذن الكثير الفتيات تكون مادة سهلة للتشكيل، ولا تبدي مقاومة تذكر، أما من تعترض على المسار العام فتواجه مأزقا .

تقول إيمان ريان، وهي موظفة في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، حاولت التحرر من النمط الذي أقحم عليها:

“أنا الآن أعيش حالة صراع داخلي: العائلة تعني لي الكثير ويعز علي أن أخيب آمالهم، لكني أريد أن اشبه نفسي أكثر، أن أخلع الشال المفروض علي، أن أختار ثيابي بما يتلاءم مع شخصيتي، لكني لا أستطيع، لقد غرسوا في داخلي كيف يجب أن أمشي وكيف أتكلم وما هي الثياب التي أرتديها. أحس أن بداخلي فتاتين مختلفتين طوال الوقت: واحدة بشخصية قوية وواثقة، وأخرى من ذكريات وتربية الماضي”.

وتسهب إيمان في الحديث عن “فخ الازدواجية” التي تسيطر على حياتها، لكنها ترى أنها مسألة وقت، وسيأتي اليوم الذي تطلق فيه العنان للبنت الحرة بداخلها، لكنها تأسف على الوقت والطاقة الضائعة في هذا الصراع، والتي كان يمكن أن تستغلها لتحقيق إنجازات.

الصورة النمطية عن المرأة

الصورة النمطية عن المرأة

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015