“حياة النساء مهمة”
النساء هنّ عادةً الضحية الأولى

ابتهال الخطيب/الكويت/alhurra- لا جديد في هذه القصة، ولكن كلّ ما فيها غريب؛ كلّ تفصيل فيها مرعب حدّ الجنون. هذه قصة تحدث باستمرار مُفجِع في أنحاء العالم العربي، تتكرّر بغرابتها وجنونها وإفجاعها بمعدّل مرعب، ولا شيء يحدث. شابة كويتية من قبيلة معروفة تزوّجت من شاب حضري برضا والدها، ولكن بمعارضة إخوتها الذكور الذين رأوا في زواجها خارج القبيلة عارٌ لهم. بعد سنتين من زواجها، الذي أثمر صبياً صغيراً، وتخللتهما محاولات مستمرة من الإخوة لفكّ زواجها هذا، ذهب أحدهم إلى بيتها وأطلق النار عليها، ليتم نقلها إلى العناية المركزة في المستشفى.

إلى هنا وهذه قصة من واقع حيوات النساء، تُستَنكر ولا تُستَغرب. المُفجع أنه عندما سمع الإخوة على ما يبدو أنّ أختهم لم تتوفَ، ذهب آخر الى المستشفى ودخل قسم العناية المركزة وأطلق النار عليها ليُرديها هناك قتيلةً، هي والجنين الذي في رحمها.

لم تحدث هذه القصة في دولة عربية أقلّ حظّاً، في إحدى القرى العميقة المعزولة من بلد نائي، لم تحدث في منطقةٍ أقلّ وفرةً مادية أو حظّاً تعليمياً أو انفتاحاً على العالم الخارجي، حدثت هذه القصة عندنا في الكويت، أفضل دولة مالياً في العالم العربي، أكثرها انفتاحاً وتحرّراً، على الأقل في منطقة الخليج؛ أعلاها ديمقراطيةً ببرلمانها ودستورها القديمين؛ أفضلها ظروفاً بالنسبة للنساء وأوفرها حظّاً في عدد المُتقلّدات مناصب مهمة منهنّ (من حيث النسبة السكانية).

إذا كان هذا يحدث في الكويت، ترى ما يحدث في المناطق المنغلقة وبين العائلات المتحفّظة حيث الأسرار لا تخرج وحيث وسائل الإعلام لا تصل؟

أن تحدث فاجعة غريبة مثل هذه وفي بلد منفتح مثل الكويت تلك إشارةٌ إلى عمق انغراس وترسّب الأفكار القَبلية القديمة (أحتاج هذا التنويه كلما كتبت عن الموضوع، الأفكار القَبلية نسبةً لنوعية الأفكار لا لارتباطها بقبيلة) التي تتوارث جيلاً بعد جيل دون أن يستطيع التعليم المتحضّر أو الانفتاح على العالم أو حتى التديّن والالتزام العقائدي أن يحرّك شيئا من جذورها، أو أن يقلب بعضاً من تربتها.

تنغرس هذه الأفكار عميقاً في المخ وتترسّب فوق كلّ المشاعر والأحاسيس الطبيعية وتصدّ كلّ التزامٍ ديني وتمسّك عقائدي، فيصبح الحديث الشريف “لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى” مثلاً مادةً غير ذات أثر في الحياة اليومية. هذا الحديث رغم أهميته وقداسته الدينية لم يستطع أن يحرّك ولو قليلاً الطبقات الكثيفة من الأفكار القديمة الغابرة التي تُعلي روابط الدم وامتداد الأصول التي تتحصّل على قيمتها من عدد المعارك التي دخلتها المجموعة البشرية وعدد من أغاروا عليهم وقتلوا ونهبوا.

الواقع أنّ كلّ المجموعات البشرية بدأت هكذا، عنيفة متصارعة من أجل البقاء، في مجموعات قَبلية كانت تتخذ سمعتها وصفاتها من عدد معاركها وانتصاراتها. عالم اليوم ترك هذه المفاهيم خلفه إلا في أجزاء من أواسط شرقنا المنكوب، حيث لا يزال العمق القبلي، قد يكون من شبه الجزيرة وقد يكون من قبائل إيران أو سوريا أو الأردن أو صعيد مصر أو أعماق المغرب العربي أو أي امتداد آخر، يحكم حيواتنا المعقّدة العصابية، ظاهرها مدني حديث، وباطنها قبلي قديم، في يدٍ “موبايل” وفي يدٍ سيف، حالة عُصابية مذهلة الأعراض، كارثية النتائج.

حالة متناقضة تلك التي نعيشها، هي لا تسبّب تضارباً في أساليب حيواتنا ونفاقاً في تقييمنا لظروفها فقط، هي كذلك تخلق تشوّهات نفسية خطرة جداً تقود لجرائم بشعة، تماماً كتلك التي أفجعت أب في ثلاثة من أبنائه، أب كان أكثر قدرةً على قول لا لفكرة غابرة قديمة، إلا أنّ أبناءه، الذين يُفترض أنهم أخذوا خطواتٍ أبعد من أبيهم باتجاه المفاهيم الإنسانية الحديثة، ما استطاعوا المقاومة، فسقطوا أسفل هذه الترسّبات غير الصالحة للزمن، ليرتكبوا هذه الجريمة التي لم تزهق روحاً بريئة وتفتت العائلة وتنكبها فقط، ولكنها كذلك أشارت بوضوح لعمق التشوّهات النفسية والخراب العقلي التي يمكن أن تُحدِثها الأفكار القَبلية الأصولية الدموية القديمة، تلك التي ما أن تدخل في العقل البشري حتى تكمن كفيروس خبيث، يُظهر نفسه كلَوثةٍ في عقل صاحبه تدفعه لإهدار حيوات الآخرين وحياته كذلك.

ولأننا في عالم ذكوري أبوي بحت، فإنّ النساء هنّ عادة الضحايا الأولى لهذه الفيروسات الفكرية الخبيثة. مفاهيم مثل مفاهيم الشرف والعرض، تلك التي لا تعريفات فلسفية أو مفاهيمية واضحة لها، هي مفاهيم مطاطية غائمة، لا معنى بيّن لها إلا ما خلقه عقل صاحبها، ترتبط أحياناً بساعة خروج المرأة من البيت، وأحياناً بكشف وجهها، بل وأحياناً حتى بمنطوق اسمها، وأحايين بمفاهيم لا أسس علمية لها مطلقاً، مثل مثلاً مفهوم غشاء البكارة، الذي يعتقده البعض مقياساً للشرف والطهارة، غير واعين أن بعض النساء تُولدن بأغشية لا تتمزّق وأُخرياتٍ تُولدن بلاها أصلاً.

هذه المطاطية الذكورية لمفاهيم الشرف والعرض، والتي تضع كلّ أحمال هذه المفاهيم على عاتق المرأة والمرأة فقط، قد حصدت لها من أرواح النساء ما لا يُعدّ ولا يُحصى. فأن يُصبح الزواج من خارج القبيلة مُخِلٌّ بالشرف والعِرض، رغم عدم حُرمته الدينية ورغم موافقة ولي الأمر الأول، الذي يُفتَرَض أنه صاحب القرار من حيث المفهوم القَبلي والديني كذلك، فتلك إشارةٌ الى عمق الخلل النفسي والتشوّهات الفكرية التي يُمكن أن يخلقها الإغراق القَبلي الذين نعيش به في عالم اليوم المتحضّر.

لدينا في الكويت عددٌ من المؤسسات والحركات النسائية الفاعلة جداً في مجال حقوق المرأة وحمايتها ونبذ كلّ مظاهر العنف التي قد تُحيق بها، من بينها حركة نسائية مهمة تحمل اسم “حملة إلغاء المادة 153” وحساباتهم موجودة في انستغرام وتويتر، وهي حركة نشأت أصلاً لإلغاء المادة 153 من قانون الجزاء الكويتي الذي ينصّ على عقوبة مُخَفَّفة لمن يقتل ابنته أو زوجته أو أخته أو أمه إذا ما وجدها في حالة “تلبّس”، مما يُفضي إلى إقرارٍ ضمني من المشرّع الكويتي بنوع من استحقاق جرائم الشرف، وهو إقرارٌ موجود في عددٍ آخر من القوانين العربية.

تكبر هذه الحملة كلّ يوم لتضم كافة القضايا الحقوقية للمرأة ولتتعامل مع أشكال التمييز والعنصرية والممارسات العنيفة معها.. تابعوا الحملة، ساندوها، وعرّفونا بالحملات العظيمة القائمة في بلدانكنّ، والتي هي من المؤكّد أنها فاعلة في نضالها كذلك.. دعونا نتكاتف، نضع كلّ اختلافاتنا جانباً ونشبّك الأيادي لنحكم دائرة الأمان حول بناتنا، حول أجيالنا القادمة من النساء، لنحاول إيقاف نزف الأرواح النسائية، ولنناضل لوضع حدّ للأفكار الغابرة القديمة التي تُريق دماءنا، بكل صور إراقتها العنيفة، كلّ يوم.. لنمدّ أيادينا من خلال مؤسساتنا ونتكاتف.. سنحدث فرقاً عظيماً!

النساء هنّ عادةً الضحية الأولى

النساء هنّ عادةً الضحية الأولى 

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015