رفضا لإعادة إنتاج القهر… حملة لمقاطعة “شقراء”
بوستر الفيلم

حميدة أبو هميلة/independentarabia- هذا الفيلم لا يحب مارلين مونرو، ولا يأخذ صف أعدائها أيضاً، وغير مخلص لسيرة النجمة الأيقونية تماماً مثلما تنصل من أمانة المعلومة التاريخية. ينتصر “شقراء” للسينما فقط، بالتالي فهو فيلم بشاعريته المفرطة مكانه المثالي قاعة عرض ضخمة ومجهزة للاستمتاع بتفاصيل السرد الشغوف بحركة الكاميرا وبلعبة الأبيض والأسود والإضاءة، لكن الجمهور الحقيقي عبر العالم لم تتسن له سوى فرصة متابعته عبر منصة “نتفليكس”، حيث انطلق أواخر سبتمبر (أيلول) الماضي، بعد أن شوهد بشكل محدود من قبل رواد مهرجان فينيسيا السينمائي الـ79 في الثامن من الشهر نفسه.

صعد الفيلم الذي جسدت فيه الكوبية آنا دي أرماس الدور الرئيس في وقت سريع لقائمة الأعلى متابعة بنحو 40 مليون مشاهدة خلال أسبوع واحد، ولقائمة الأكثر جدلاً أيضاً، هذا اللغط الذي وصل إلى المطالبة بمقاطعة هذا العمل الذي يذكر نجمات هوليوود بعقود طويلة من الاستغلال والتحرش والظلم المتعمد.

فقد تعالت صيحات من عارضات وممثلات يعبرن عن شعورهن بالحزن جراء تركيز الفيلم بشدة على جوانب مظلمة من حياة مارلين مونرو، وعلى رغم أنه مأخوذ عن رواية لجويس كارول أوتس تحمل من الخيال كثيراً، وصناعه أكدوا أنهم غير ملزمين الصدقية التاريخية للأحداث، ولكن لتماهي لقطات الفيلم مع كثير مما جاء في سيرة مونرو الحقيقية فإن الأمر بدا ثقيلاً للغاية بالنسبة لبعضهم، حيث لحظات الإذلال لا تنتهي، وحيث تبدو المرأة منهزمة تماماً. واللافت أن الفيلم لم يعط فرصة للمشاهد للتعاطف مع مورنو ولا للابتهاج بنجاحها وشهرتها ومجدها، بخاصة أنها بدت على طول الخط كمن تحتقر نفسها وتشعر أنها لا تستحق شيئاً، وأنها خانت هويتها الحقيقية نورما جين.

3 ساعات من الإذلال

الفيلم الذي تقارب مدته ثلاث ساعات يعطي أسانيد ومبرروات كثيرة لحركة “MeToo” (أنا أيضاً) التي انطلقت بقوة قبل خمس سنوات لتشجع النساء على التحدث عن الاعتداءات التي تعرضن لها، ومن خلالها اطلعنا على شهادات لنجمات شهيرات اعترفن بتعرضهن لاعتداءت من كبار صناع الفن في مدينة السينما، وعلى أثرها يقضي هارفي واينستين عقوبة السجن، كما تستمر فصول محاكمة بيل كوسبي وغيرهما، ومع ذلك فهو يبدو بالنسبة لكثيرات ممن يعملن في هذا المجال ضاغط بشكل مبالغ فيه على تلك الجروح، ومن هنا تساءل بعض المعلقين: هل كان يمكن أن تنقذ حركة “مي تو” مارلين مونرو “يونيو (حزيران) 1926 – أغسطس (آب) 1962” التي كانت تجد نفسها تمثل أمام الشاشة وخلفها لمحاولة التعايش؟

تعرضت مارلين لاستغلال لم يتوقف وجحيم من الألعاب النفسية حتى قبل أيام من وفاتها جراء جرعة زائدة من العقاقير ذات صيف في برينتوود بلوس أنجليس الأميركية. والمؤكد أن الصورة التي ظهرت عليها حياة الممثلة المحبوبة تكشف عن التناقض الصارخ بين الحياة تحت الأضواء وخلفها، حيث تتحول مونرو تماماً وتصبح فراشة سعيدة وهي أمام الجمهور ثم تحترق من الداخل والخارج وحدها، مضطربة وساذجة وضعيفة الشخصية ومسكينة تحتاج إلى المساعدة، فهل هي نفسها من أعطت الفرصة لكل هؤلاء، وأغلقت كل الأبواب التي كان يمكن أن تساعدها في النجاة؟

بالطبع الظروف متغيرة، لكن الفيلم الذي يحاول الرأفة بها يدينها أيضاً في بعض المواقف، إنها أبعد ما تكون عن الاستقلالية والثقة بالنفس والاعتداد بالذات، وحتى التفكير شبه السليم، ومن هنا ربما جاء الضيق الذي صاحبه تغريدات وفيديوهات متنوعة لمدونين يطالبون بعدم مشاهدة العمل الذي يعتبرونه مسيئاً لأشهر نجمات السينما الأميركية الراحلات، كما دخل على الخط بعض المشاهير وبينهن المغنية والعارضة الأميركية كورتني ستودن التي دعت متباعيها إلى المقاطعة، مشيرة إلى أن الفيلم لا يقدم صورة حقيقية لمارلين مونرو، كما تابعت في تصريحات أكثر جرأة أنها تعتبر أن الخوض في أمور الاستغلال الجنسي والسخرية ممن تعرضوا لها أمر غير محترم، لافتة إلى أنها تدرك هذا الشعور جيداً، فالفيلم على ما يبدو لمس كثيراً من الجروح، وذكر كثيراً من الفنانات بالأذى المحيط بمهنة الفن، ومنهن كذلك العارضة والممثلة الأميركية الثلاثينية إيمي راتاجوسكي التي اعتبرت أن العمل يستعرض آلام النساء ويتاجر بها، مؤكدة عبر فيديو لها أنها على رغم تعلمها كيف تتعامل مع الأذى الذي تعرضت له في حياتها، لكنها غضبت بشدة حينما شاهدت “بلوند”.

وجه آخر للرئيس الوسيم

الشريط المصنف للبالغين يتضمن كثيراً من المشاهد الصريحة التي تكرس لمزيد من القهر، فعلى رغم أن تصنيفها الظاهري يشير إلى أنها أقرب إلى الإباحية، لكن الحقيقة أنها لقطات تثير الأسى والشفقة، حيث مونرو الخاضعة دوماً والتي تتعرض لإساءات من كل من يمر في طرقات الاستديو، ولم تسلم حتى من الأطباء الذين يحقنونها بقسوة لتعيد استكمال مشاهدها، ولا ممن ينزعون جنينها من أحشائها عنوة، أو مدير أعمالها الذي يعاملها كدمية، وأحبائها الذين يعنفونها بدنياً ونفسياً، والجمهور الذي تراه في بعض الأوقات كأشباح بأفواه ضخمة تريد ابتلاعها.

لا أحد في تلك الصناعة حالياً يريد بالطبع أن يتجسد أمامه كل هذا القهر والبؤس وهذه الحياة المروعة والغارقة في تناقضها، كما أن بعضهم عاب عليه تماديه في إظهار البطلة عارية، وكأن صناعة يمعنون في تصويرها كسلعة، وهو الأمر الذي لم يعجب على ما يبدو الممثلة البارزة جوليان نيكولسون التي أدت شخصية غلاديس بيرل بيكر والدة مارلين، حيث قالت في حوار لها مع “اندبندنت” الإنجليزية عن الفيلم ما نصه “أشعر أنني أشاهد بانتظام أفلاماً صريحة جنسياً أكثر أو أعنف يسمح للأطفال في سن السابعة أو الثامنة أو التاسعة بمشاهدتها، وهو أمر فظيع”.

المشاهد الفاضحة هنا كانت تعري هوليوود بالأساس، ولا تثير سوى الحنق على الأرجح، كما تفضح وجهاً أكثر عنفاً لرئيس أميركا المدلل المحبوب صاحب “الوسامة الصبيانية” كما يصفه العمل، جون كيندي “29 مايو (أيار) 1917 – 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1963″، إنه يبدو كمعتد محترف يستعبد الممثلة التائهة التي تعيش بهاجس أنها ورثت اضطرابها العقلي من الأم، وتحاول أن تنسلخ عن مأساتها، لكنها تعود بقوة أكبر لواقعها المرير، ثم يظهر أن مطبخ السياسة يتماس مع مطبخ هوليوود في ذلك الوقت. إنها كواليس تقتل الروح ولا ينجو فيها إلا أمثال موظفي الخدمة السرية الذين يجرون ممثلة ضئيلة الحجم ليعنفها الرئيس الأشقر.

يعطي الفيلم ملمحاً عن الفضائح الجنسية في البيت الأبيض، حيث فاز كيندي بالعلاقة الأكثر شهرة، وتبعه بعدها بعقود بيل كلينتون وأزمته العنيفة مع مونيكا لوينسكي، فقد ظلت لسنوات اللقطة الأشهر حينما تغني مونرو بدلال لكينيدي في عيد ميلاده، لكن الفيلم بدد هذه الذكرى تماماً.

نورما ضحية مارلين

آنا دي أرماس عبرت عن عدم ارتياحها أثناء التصوير، بل وصفت الأجواء بالمظلمة، حيث ظلت تسعة أشهر واقعة تحت تأثير الشخصية التي حولت أنامل فناني المكياج إياها إلى نسخة حية منها، لكن هل كان الفيلم نسخة حية من حياة مارلين فعلاً؟ بالطبع لا، وهو أمر شدد عليه صناعه مراراً ومع ذلك لم يسلموا من الانتقادات من قبل الجمهور والمتخصصين على السواء، فمنهم من ذهب إلى اتهامهم بالتضليل، وهو الأمر الذي جعل بعضهم يعلقون على الأمر وبينهم مؤلفة الرواية الأصلية الكاتبة جويس كارول أوتس التي خرجت بتصريح غريب مفاده أن قصتها ليست للجميع، كما تحدث مخرجه أندرو دومينيك مجدداً، مشيراً إلى أن الفيلم يستند إلى بعض الحقائق بالفعل في حياة مونرو، ولكنه يمزجها بالخيال أيضاً، ولعل من أبرز الأمثلة هنا هو تصوير الفيلم لحال الهلع التي انتابت مونرو قبل وفاتها بوقت قصير، حيث تلقت نبأ وفاة أحد أصدقائها القدامي، لتنهار بعدها ثم يبدأ العد التنازلي لتلاشيها من الحياة على سرير فوضوي وفي غرفة نوم تحاكي تماماً المشهد الأخير في حياتها، لكن الواقع يشير إلى أن هذا الصديق كاس تشارلي شابلن جونيور الذي هو نجل أسطورة هوليوود تشارلي شابلن توفى بعد رحيل مونرو بست سنوات كاملة، بالتالي فالفيلم اختار تلفيق تلك الواقعة لخدمة الدراما، وليؤكد مراراً على أنها سيرة متخيلة حتى لو حملت لمحات لا تقبل الشك من الحقيقة. 

كذلك تم مزج كثير من التفاصيل المتعلقة بعائلتها بدءاً من محاولة الأم قتلها غرقاً أو طريقة بحثها عن والدها الذي لم تره قط، أو شعورها الدائم بالذنب بسبب تكرار تعرضها للإجهاض، وهي خطوط أساسية في الفيلم بعضها مرتبك والآخر مثبت تاريخياً، حيث اجتهد صناع “بلوند” في إظهار آنا دي أرماس لتكون أقرب ما يكون من مارلين مونرو، حتى إنها قدمت مشهد الفستان المتطاير الشهير وكأنها صورة متحركة منها، في حين بدا أيضاً باقي الأبطال على قدر عال من الاحترافية وبينهم بالطبع أدريان برودي الذي استحضر تماماً شخصية الكاتب آرثر ميلر، معبراً عن قصة الحب الوحيدة التي كان يمكن أن تنتشل بطلة “البعض يفضلونها ساخنة” من مأساتها، كما حرص فريق العمل على التصوير في الأماكن الحقيقية التي عاشت فيها الشخصية لتبدو المشاهد متطابقة تماماً، فبعد مرور 60 عاماً على الرحيل لا تزال سيرة مارلين مونرو قادرة على إثارة نقاشات حادة وانقسامات عميقة بين العاملين في المجال الفني في العالم.

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبتها/كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

بوستر الفيلم

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015