سوريات يملأن فراغاً مهنياً ذكورياً
أم علي التي تُدير مشحماً ومغسلاً للسيارات

إيمان ونوس/ الحياة- مثلما تُخلخل الحروب ميادين الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية، ومثلما تهدّم المباني والمرافق العامة، فإنها وبلا أدنى شكّ، تُخلخل الحياة الاجتماعية بمفاهيمها القيمية السائدة، بل وربما تهدم بعضها إلى غير رجعة، فتفرض على الباحثين والاختصاصيين دراسة ظواهر جديدة أو طارئة كثيرة على مجتمع الحرب، مثلما تدعو القائمين على التشريع إلى وضع تشريعات وقوانين تنظّم الحياة الجديدة للناس الذين باتوا أيضاً يتبنّون مفاهيم وقيماً مُغايرة للمعتاد.

ولأن الرجال هم دعامة الحروب ووقودها، فإن المجتمع لا ريب سيفقد غالبيتهم في ظلّ استمرار تلك الحرب لسنوات، والتي استنفدت معظمهم سواء بالمشاركة في القتال الى جانب أيٍّ من الأطراف، أو الاعتقال والاختطاف والهجرة والموت اليومي، ما يجعل نسبتهم تتضاءل في المجتمع قياساً إلى نسبة الإناث التي تتصدّر إحصاءات الحرب، وهذا ما أدّى إلى فراغ مؤسسات ومواقع عمل عامة وخاصة مُتبقية من العمالة الذكورية. وهذه الحال تؤكّدها الإعلانات التي نسمعها أو نراها يومياً، والتي تطلب عمّالاً لمختلف المهن والأعمال.

هنا، بقيت المرأة المُعيل الوحيد للأبناء والأهل، وغالباً بلا مورد مالي يُعينها على مسؤولياتها الجسام، ما دفعها الى البحث عن أيّ عمل يفي أَجره مهما كان ضئيلاً بتأمين رغيف الخبز، وحين لم تجد لها مكاناً في مهن تألفها بسبب ازدياد طلب النساء عليها، فقد حاولت اقتحام مجالات عمل كانت إلى زمن قريب حكراً على الرجال، مُستغلة خلو هذه المهن من عمالها من جهة، ومن جهة أخرى لتُثبِتَ للمجتمع أنها ليست أقلّ شأناً من الرجل في أيّ مهنة مهما كانت صعبة أو شاقّة. والأمثلة في واقعنا اليوم كثيرة نراها في الطريق إلى مكان العمل ومنه أو التجوال في المدينة وأسواقها وشوارعها.

وكانت البداية مع تطوّع نساء وفتيات في الوحدات المقاتلة أو على حواجز التفتيش لدى مختلف الأطراف، فظهرت نساء يرتدين الزي العسكري، ويحملن السلاح أحياناً. على رغم أن هناك كلية عسكرية وشرطية للبنات منذ ما قبل الحرب، لكنها كانت في الحدود الضيّقة قياساً الى المهن الأخرى التي تخوضها النساء.

مريم واحدة منهن، قالت أنها اضطرت للتطوّع بعد أن طرقت أبواب عمل مختلفة من دون جدوى، فالغلاء المستفحل سواء في أجرة البيت الذي تسكنه مع أهلها وأبنائها بعد أن نزحت من منطقة ساخنة، أو في تكاليف المعيشة التي لم يعد أيّ دخل قادراً على الوفاء بها، أرغمها على القبول، فالمهنة غريبة على المجتمع، لكنها تأقلمت معها بعد أن تجاهلت الكثير من الاستهجان والتلميحات السلبية، مُعتبرة أن المرأة أينما وُجِدَت تستطيع أن تُثبت حضورها الإيجابي الذي سيُرغم الناس يوماً ما على تغيير نظرتهم إليها والى علمها، المهم ألا تبقى مكتوفة اليدين بانتظار شفقة الآخرين.

دلال فتاة عشرينية نزحت مع أهلها إلى المدينة، وتعمل في فرن للمعجنات، أجابت حين سألتها عن سرّ اختيارها هذا المكان، فقالت أنها لم تكمل تعليمها، وتحاول أن تُساعد في مصاريف الأسرة التي لم يعد راتب الأب الضئيل يكفيها، ولم يترك الغلاء لها مزيداً من الخيارات المفقودة أصلاً بحكم البطالة.

وعن تأقلمها مع هذا العمل تضيف: «صحيح أنه كان مُحرجاً لي في البداية، كوني بين مجموعة من الرجال، لكنني اعتدت عليهم، وهم في الوقت ذاته ألفوا وجودي بينهم ولو على مضض، المهم هو عملي وأجره آخر الأسبوع، كي لا نمدّ أيدينا إلى الآخرين».

أم محمد قبل الحرب كنتُ أراها صباحاً وهي تحضر الطعام لزوجها وابنيها في معمل البلوك (أحجار الطوب) الذي يملكه زوجها، تتولّى اليوم مهام زوجها في المكان عينه بعد أن اختفى، وهاجر ولداها هرباً من الخدمة. تقول: «في البداية، رأيت أن الأمر جدُّ قاسٍ عليّ، فالوقوف أمام مكبس البلوك يحتاج إلى قوة العضلات والصبر صيفاً وشتاء، لكن ما إن نفدت مُدّخراتي المالية وسواها، ولأنني لم أجد من يقوم بهذا العمل خصوصاً من ذويّ الثقة، قررت أن أُباشر العمل مع بناتي بعد عودتهن من المدرسة أو الجامعة، فالطلب على إنتاجنا أصلاً قليل، لكن المردود يقينا ذُلّ الحاجة».

وتُشارك أم محمد في العمل السيدة فتحية التي تقود سيارة بيك آب تنقل فيها طلبيات البلوك أو الإسمنت والرمل إلى الزبائن.

أم علي التي يعرفها أهل الحي جميعهم، منذ ما قبل الحرب بقليل، كانت تُدير مشحماً ومغسلاً للسيارات، لأنها أرملة ولا مُعيل لأطفالها. اليوم وبعد أن غادر معظم الشباب، بقي المحل شاغراً من عماله، فقررت أن تقوم هي بالعمل، فتوفّر أجرة العمال في الوقت ذاته لتفي بحاجات الأبناء ودراستهم. وهي سعيدة بهذا العمل، على رغم أنها تعرّضت لمُضايقات كثيرة في بداية الأمر كون غالبية زبائنها من سائقي الوسائط العامة، لكنهم باتوا يتهيّبون تجاوز حدودهم معها.

وهناك من تركب دراجتها الهوائية يومياً بعد أن تضع عليها بسطة من مأكولات الأطفال والمعجنات فتبيعها لهم أمام المدارس، وبعد الظهر تضع المنظفات وبعض أدوات المطبخ لتجول بها في الشوارع والمنتزهات فتشتري منها النساء.

بالتأكيد، هناك كثيرات لم نرهن وهنّ يعملن في ورش البناء أو الحدادة أو تصليح السيارات والدراجات، أو حتى في محل تبديل قارورات الغاز المنزلي وتعبئتها.

إنه واقع الحرب وتبعاتها وضرائبها التي لم تترك للمرأة خيارات كثيرة، فكان خيارها الأوحد كرامة وإنسانية مجبولة بالصبر والتحدّي، تحدّي الموت والجوع والبطالة، مثلما هو تحدٍّ لمجتمع ذكوري لم يكن يراها سوى أداة للمتعة ووعاء للإنجاب وحفظ نسل العشيرة. مجتمع بات مُرغماً على الاعتراف بها إنسانة كاملة الأهلية والنضج النفسي والعقلي لتشغل الأماكن بلا وجل ولا استكانة، وتفادياً لمهانة أو ذلّ في سبيل البقاء ومن تُعيلهم على قيد حياة، سيُسجّل تاريخها يوماً بطولات لا تُنسى لسوريات أثبتن للعالم بالفعل الحقيقي أنهن واهبات الحياة للحياة.

أم علي التي تُدير مشحماً ومغسلاً للسيارات

أم علي التي تُدير مشحماً ومغسلاً للسيارات

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015