ماذا يعني أن أكون نسوية؟
مزيج من النسوية

إيمان النمر/TRT عربي- لاقى اصطلاح “نسوية” هجوماًً شديداً، سواء في الغرب أو الشرق، ما هدد بمحوه التام وتفريغه من معناه، سيما بعدما ارتبط ببعض التيارات النسوية الراديكالية المتطرفة، لا يمكن التأسيس لحركة نسوية عربية فاعلة من غير تحرير المفهوم الذي يُعبر أساساً عن الهوية.

في كتابها “دفاعاً عن حقوق المرأة” الصادر عام 1792، كتبت ماري وولستونكرافت (1759-1797) عبارتها التدشينية للنسوية “أتوق بشدة لأن أرى التمييز على أساس الجنس قد تلاشى تماماً، عدا ما يتعلّق بالحب”، ومن المتفق عليه أن وولستونكرافت لم تستخدم اصطلاح “نسوي Feminism” الذي استخدمته الموجة النسوية الأولى خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، للإشارة إلى حقوق المرأة على أساس المساواة بين الجنسين.

من تاريخه إلى اليوم، تَغير الاصطلاح، وتفكّك على صعيد الفكر والممارسة بين عدة موجات وحركات إقليمية وعالمية؛ مثلاً، انقسمت الموجة النسوية الثانية فترة الستينيات، حسب نظريات الاقتصاد السياسي إلى عدة نسويات: ماركسية، اشتراكية، وليبرالية. وتحت مسميات فلسفية حقوقية انقسمت إلى نسويات: راديكالية، بيئية، سوداء، ثقافية، ووجودية .. إلخ. وبالتبعية لم يعد الاصطلاح بريئاً من دلالات الأيديولوجية، إلى الحدّ الذي أصبح فيه ما يُسمى “بنسوية الدولة أو السلطة”.

ونلاحظ في العالم العربي أنّ النسويات الرائدات اللواتي حملن على كاهلهن مسألة الدفاع عن حقوق المرأة وحتى فترة السبعنيات من القرن المنصرم تقريباً، لم يفصلن قضيتهن عن القضايا الكلية الخاصة بعملية التحديث والتحرير الوطني من الاستعمار، و لم يُعرّفن أنفسهن بأنهن “نسويات”، إنما استدللن على نشاطهن بلفظ “نسائي”، سيما منذ تأسيس الاتحاد المصري النسائي عام 1923، وما تبعه من إنشاء عدة منظمات وجمعيات واتحادات مماثلة أُختصت بتلك المسألة، وفي هذا الصدد، تشير مارجو بدران إلى أن أول من استخدم مصطلح “Feminist”، كانت الفرنسية أوبرنين أوكلير، التي ألّفت عام 1882، كتاب “النساء العرب في الجزائر” خلال إقامتها بالجزائر.

بالتالي حين نطرح اليوم سؤال: ماذا يعني تبني اصطلاح النسوية؟ لابد أن نضع في الاعتبار التغيرات التي طرأت على الاصطلاح نفسه، وإدراك مساره وظروف دخوله إلى مجتمعنا العربي، ودلالاته التي حملها خلال فترات متباينة. ويجرّنا ذلك إلى عدة أسئلة أخرى مثل؛ هل في حال التعريف بأني نسوية يعني أن ذلك مجرد اختيار للمناصرة والتعضيد أم التزام بالانخراط في عمل تنظيمي حركي؟ وهل بات اصطلاح نسوية دالاً على ذاته بذاته أم يستوجب تقديم عديد من الشروحات التي يتضح من خلالها ماهيته؟ وهل ينطوي الاصطلاح على انحياز حقوقي إقصائي؟ وهل يُمثل عدم تبنيه انحيازاً مضاداً تجاه المرأة؟ وهل الاصطلاح ذو صلاحية زمانية ومكانية؟ وهل يمكن أن يفقد دلالاته تماماً ويستوجب استبداله باصطلاح آخر؟

في واقع الأمر قد لاقى اصطلاح “نسوية”، خلال العقدين الماضيين وإلى الآن هجوماً شديداً، سواء في الغرب أو الشرق، ما هدد بمحوه التام وتفريغه من معناه الذي أُسس عليه، سيما بعدما ارتبط ببعض التيارات النسوية الراديكالية المتطرفة، التي ظهرت في عقد الثمانينيات، ومنها تيار النسويات السحاقيات، و “فتيات التوابل” في التسعينيات، ما أفقد النسوية الكثير من الدعم المجتمعي، واكتسبت معاني شعبوية سلبية، بات المفهوم في ظلها مُزحة أو تهمة تستوجب التنكر، وهذا السبب يُعدُّ أحد أهم الأسباب التي أدت بالنسوية العربية إلى أن تعاني من انتكاسات على مستوى المفهوم والممارسة وبالتالي على النتائح المعيارية أو العملية المترتبة عليها.

ولإضفاء نوع من المعالجة المنهجية على إشكال المفهوم، نجد العديد من الحملات التثقيفية التي قادها عدد من الفنانات والكاتبات النسويات بهدف التوعية بالمعني “السليم” للنسوية وإعادة الثقة به؛ ومنها حملة “He for she” التي دشنتها الممثلة الأميركية إيما واتسون العام 2014، وضمن ما صرحت به: “أن النسوية أصبحت لدى الكثير كلمة غير مرحب بها؛ لأنها لم تعدْ تعني سوى كُره الرجال، وها هي تُعيد التعريف السليم. إن النسوية هي نظرية المساواة بين الجنسين على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي”.

في ذات السياق ألقت الروائية النيجيرية عام 2012 كلمة على منصة TEDx بعنوان “We should all be Feminists”، داعية الجميع لأن يكونوا نسويين فخورين؛ لأن النسوية لا تعني كُره الرجال، غير أن النسويات لسنّ بمعقدات نفسياً ولا عانسات عابسات الوجوه. وعلى نفس المنوال صدر في أكتوبر/تشرين الأول من هذا العام، كتاب “قصر باكنجهام .. مفاهيم خاطئة حول النسوية”، يشتمل على 52 مقالة مُبسَطة، حول معنى النسوية، والتصدي للخرافات الشائعة حولها.

على هذا النحو الموجز تعَقد الاصطلاح وأصبح جدلياً ومشتبكاً، ما جعل كل طرف من الأطراف يدّعي أنه يمتلك شكلاً نقياً أو صحيحاً من النسوية، بحسب تحليل الكاتبة “كاتي رويفي” في كتابها “الصباح التالي: الجنس والخوف والنسوية”، ثم انتقل إلينا بكافة اشكالياته، خاصة في الآونة الأخيرة التي تلت “ثورات الربيع العربي” عن طريق المدونات الشخصية ومواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من الفضاءات الإلكترونية، التي اهتمت بقضايا المرأة، وأسهمت في خروج الاصطلاح من حيزه النخبوي الضيق.

وفي الواقع قد لاقى تبني الاصطلاح في بدايته وبتأثير الزخم الثوري صدىً واسعاً ومبشّراً بين الأوساط الشبابية، ما شجّع العديد من فتيات ونساء بارزات بإعلان “نسويتهن” وافتخارهن بها، كحركة ثورية ضد قهر المرأة وتنميطها وخضوعها باسم الدين والعادات والتقاليد، وآزارهن بعض الشباب العربي؛ أحدهم كتب أنه “انحاز للتيار النسوي لإيمانه بالمساواة بدون تمايز جنسي، وبحثاً عمّا أسماه “حداثة تشاركية كلية … حداثة بديلة تسعى إلى جعل الحيز العام لكل الناس”.

جدير بالذكر أن النسوية بتشابكاتها المفاهيمية والنظرية، لم تُدرس للآن ضمن المناهج التعليمية التأسيسية أو أقسام العلوم الإنسانية بالتعليم الجامعي بمصر مثلاً، ولم تُناقَش بجدّية على منصات الإعلام الرسمي أو الخاص. إذاً حين خرج الاصطلاح من نخبويته، لم يواز ذلك طرح علمي توعوي من شأنه تأسيس وتثبيت ماهية الاصطلاح ودلالاته التي تحدد حاجة مجتمعاتنا العربية منه.

وبالنظر إلى كيفية انتشاره الجماهيري كاصطلاح لغويّ، يتبين أنه تداول بنطقه اللاتيني “فيمينزم” أو “فيمنيست”، وتبناه البعض على سبيل “الموضة الاصطلاحية” كاستهلاك لا وعي، وإذا أجرينا عملية بحث سريع على محركات البحث العامة، سنجد بعض المنتديات والمواقع التي وضّحت المعنى في سياق لغوي عامي ومختزل؛ نظراً لكثرة استخدام الاصطلاح في المنشورات الساخرة و “الكوميكس”.

كما يُلاحظ أنه طُرح في سياق عدائي واستقطابي و “دوجمائي” أيضاً، وشُوِّه كما شُوهت كافة الاصطلاحات التقدمية باستغلال مساحات الجهل المعرفي عند العامة، في عمليات “الاستقطاب الأيدولوجي” بين التيارات السياسية والأصولية على اختلافها، إضافةً إلى الخطاب الاختزالي فاقد الفاعلية والإبداع، الذي طُرح من بعض النسويين والنسويات، وبجانب الدلالات السلبية المُحَمّل بها من بيئته الأصلية، تم الزجّ به في معارك كلامية وتنابذية بلا معنى.

على إثره تخلَّى الكثير عن الانتساب إلي النسوية، ومنهم الذين صُدموا في الواقع بعد تجميد المد الثوري، وشعروا بضرورة تبني خطاب حقوقي شامل وكلي في مجتمعات ما يزال يبحث فيها الإنسان عن حقوقه الأولية (تعليم وعمل وممارسة سياسية مواطنية).

وفي محاولة علاجية بائسة، روّج البعض بديلاً شعاراتياً، ودالاً بذاته على الفاعلية النسوية في المجتمع ألا وهو شعار “المرأة المستقلة القوية Strong Independent Woman” إلا أنه لم ينجُ هو الآخر من صفعات السخرية والاستهلاك، في ظل تبنّي بعضهن “لخطاب الهشاشة الأنثوية” الذي يناقض الشعار.

هذا في حين أن بعضهن ما زلن متمسكات بنسويتهن، لكنه تمسك دفاعي، ينفي، لكنه يعكس إثباتاً، على شاكلة “أنا نسوية ولست مسترجلة، ولا أكره الرجال، ولست مريضة نفسياً”، ما حدا بتحوّل المسألة من حقوقية ماسة إلى حالة دفاعية، خلا أن اصطلاحات المشاعر مثل “الحب أو الكراهية” يجب ألا يتضمنها الخطاب الحقوقي، فهل يصلح أن نخوض معاركنا بمصطلحات مضطربة في واقع مهزوم؟

مزيج من النسوية

مزيج من النسوية

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015