نحو نسوية للجميع.. ضد التمييز على أساس الجنس
مسيرتان للمطالبة بحقوق المرأة: لندن 1819 ونيويورك 2019

حسام أبو حامد/diffah.alaraby- النسوية هي مجموعة متداخلة من نظريات تسعى، في جوهرها، إلى تحقيق المساواة في الحقوق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بين النساء والرجال، وتشير إلى مجموعة متنوعة من المعتقدات والأفكار والحركات وأجندات العمل، وإلى أي إجراءات، خاصة منظمة، تعزز التغييرات في المجتمع لإنهاء الأنماط التي توفر حرمانا للنساء، وتدور حول فكرة أن النساء والرجال يستحقون على قدم المساواة فرص الازدهار.

وفّرت الحركة النسائية من الموجة الأولى، التي روّجت لحقّ المرأة في الاقتراع، تقدّماً غير مسبوق للنساء في أوائل القرن العشرين، وشجّعت حركات الموجة الثانية والثالثة في الستينيات والتسعينيات تغييرات اجتماعية مستقطبة، من الإجهاض إلى التقاطعية[1].

بمرور الوقت، أصبحت المؤسسة الاجتماعية للنسوية أكثر راديكالية مما دفع نسويّات أكاديميات أمثال: كاميل باغيلا، وكريستينا سومرز، وإليزابيث جينوفيز، ودافني باتاي إلى انتقاد بعض أشكال النسوية، التي رأين فيها تشجيعاً على الكراهية ورفعاً لمصالح النساء فوق الرجال، واستشعرن في راديكاليتها خطراً يهدّد الرجال والنساء على حدٍّ سواء.

بعض النسويات تمسّكن بالنسوية في موجتها الأولى، ورفضن أن يكنّ نسويّات معاصرات يلعبن “دور الضحية” بدلاً من تمكين المرأة، أو فضائح “سوء السلوك الجنسي” التي رافقت الموجة الأخيرة من النسوية وأجّجت “التوترات بين الجنسين”، بحسب تعبير “النسوية الواقعية” كريستينا سومرز.

امتدت هذه الانتقادات من مؤيدي الفكر النسوي لتلقى حضناً أكثر دفئاً عند معارضي النسوية، من فئات شعبية واسعة. وتشتعل اليوم فضاءات التواصل الاجتماعي بمعارك عديدة بين مناصري النسوية، الذين يؤكّدون أن النسوية لا تسعى إلى قمع الرجال بل إلى فرصٍ ومعاملةٍ متساوية لكلا الجنسين، وآخرين يرون أن النسوية لا تتعلّق بالمساواة بقدر ما تدور حول إهانة الرجال، وأن النسويّات يُمارِسن تمييزاً جنسياً معكوساً.

مبدأ المساواة أمرٌ جيد، لكن ماذا عن موجات الغضب والانقسام وانعدام الثقة التي تسلّلت إلى الحركة النسوية؟ ألا يضرُّ ذلك بالنسوية أكثر مما يساعد على فهمها؟ وهل تبرر مثالب النسوية التخلّي عنها؟

ضدّ النسوية!

المنتَقدِين للنسوية، الأكثر تطرّفاً، يعتقدون أنّ النسوية باتت استراتيجية تعويضية لمساعدة الإناث على التعامل مع شعورهنّ بالدونية الجنسية، والإحباط والإذلال الناجم عنها، وهؤلاء هم المخصوصون في عموم هذه المقالة وفقراتها المتعدّدة. هناك من هو قلقٌ من تحوّل النسوية إلى أيديولوجيا، إلا أنّ هناك آراء مختلفة حول ما تعنيه كلمة “أيديولوجيا”، وقد حمّلها التعريف الماركسي مضموناً سلبياً بوصفها مجموعة من الأفكار والمبادئ التي تدعم النظام الاجتماعي المُهَيمِن، وبهذا المعنى، الذي يدور حوله القلق، لا يمكن اعتبار النسوية “أيديولوجية” لأنها لا تُصادق على النظام الأبوي القائم والمُهَيمِن.

التمييز الجنسي معكوساً؛ من التهم التي يوجهها منتقدو النسوية التي باتت بالنسبة لهم لا تعدو أن تكون مقابلاً للذكورة، وأنّ تمكين المرأة ما هو إلا دعاية كاذبة تخفي وراءها كُره الرجال والرغبة في قمعهم. وإن بدا أن ذلك هو هدفٌ لا يزال صعب المنال في المجتمعات الشرقية الأكثر ذكورية، فإن المجتمعات الغربية باتت مقياساً للمخاطر المتخيَّلة على المجتمعات الشرقية. هناك، حيث باتت الإنجازات القانونية للنسوية تهدّد حقوق الرجال ومواقعهم في المجتمع.

فبعض الأصدقاء العرب المقيمين في الغرب أثاروا في نقاشي معهم عدداً من القضايا التي تعكس خطورة التوجّه النسوي، منها: حيازة المرأة على حقّ حضانة الأطفال، وارتفاع معدّلات الانتحار بين الرجال، وارتفاع معدل إصابات/وفيّات القوى العاملة بين الرجال. تساءل هؤلاء: هل فعلاً تُناضل النساء من أجل المساواة؟ لماذا يكسبن دائماً معارك حضانة الأطفال؟ لماذا لا يكون في اهتمامهنّ معالجة معدّلات الانتحار والإصابة والوفيات المرتفعة بين الرجال؟ لماذا يتعيّن على الرجل أن يبقى المُعيل، وأن يدفع ثمن كل شيء؟

بدا بعضهم مقتنعاً أنّ الأمر لم يعد يتعلّق بالمساواة بقدر ما يتعلّق بالتفوّق والأمن الأنثوي، ففي دول أوروبية، نحو ألمانيا وفرنسا، تملك المرأة منذ البداية حقّاً تلقائياً، فطرياً بيولوجياً، في معرفة أنّ الطفل هو طفلها، بينما يُحرَمُ الرجل من حقّه في إجراء اختبار الأبوّة من غير طريق القضاء، وتصل عقوبة ذلك في فرنسا إلى السجن لمدة عام، وغرامة قدرها 15000 يورو.

يبدو لي أنّ كثيراً من الرجال ما زالوا يفشلون حتى الآن في فهم الروابط السببية بين حقوق المرأة ونوعية حياتها. هل فعلاً تفوز النساء في جميع معارك حضانة الأطفال؟.. في معظم الحالات، يقرّر الوالدان أيّ ترتيب يجب القيام به دون الحاجة إلى اللجوء إلى المحكمة، وغالبية الآباء إما يخرجون من حياة أطفالهم تماماً، أو يحصلون على قدرٍ أقلّ من الحضانة من الأمهات.

هنا لا يلعب تحيّزٌ مزعوم للنساء دوراً في حصول الرجال على حضانةٍ أقلّ من النساء، بل العوامل الثقافية، لا سيما أن غالبية القُضاة يكونون ذكوراً. أسباب هذا “التحيّز” قائمة على الطريقة التي ينظر بها الرجال تاريخياً إلى النساء، بوصفهنّ يقدّمن رعايةً أفضل من الرجال، وبالتالي يجب أن تحصل النساء على الحضانة. وحين لا يكون الرجل مستعداً للتخلّي عن حياته المهنية لصالح الحضانة وقضاء وقت أطول مع أطفاله، تفوز المرأة بشكل افتراضي. المجتمع الذكوري نفسه هو من يفرض تلك الصورة النمطية عن المرأة بأنها الحاضنة وهي إحدى الأنماط التقليدية التي تُحارب النسوية ضدها، وحين يتوقّف المجتمع عن حصر المرأة في هذه الصورة ستنظر المحاكم إلى الجنسين على قدم المساواة.

الاكتئاب.. واحدٌ من الأسباب الرئيسية لارتفاع معدّلات الانتحار بين الرجال، والذي لا يتم التعرف عليه أو علاجه في الوقت المناسب. يتحمّل المجتمع الذكوري جزءاً كبيراً من المسؤولية حين يُطالب الرجال بأن يكونوا رواقيين متجرّدين من العواطف أو قادرين على قمعها، وأحد نضالات النسوية يتعلّق بالسماح للرجال بإظهار المشاعر، وطلب المساعدة، دون أن يشكّل ذلك بالنسبة لهم حرجاً اجتماعياً، عند ذلك سيزداد تعبير الرجال عن مشاعرهم ويطلبون المساعدة، مما يقلّل من فرص الانتحار. وبات منح النساء فرصاً أكثر للعمل ومساواتهنّ في الأجور مع الرجال، خطوة على طريق تغيير النظرة إلى الرجل بوصفه معيلاً عليه أن يدفع دائما. وفي مجتمعٍ يتساهل مع تعدّدية علاقات الرجال، وعدم وفائهم لشريكاتهم من النساء، بينما يُطلق النار على المرأة عند أول نزوة، لا بد من أن يكون اختبار الأبوّة تتويجاً لشكوكٍ يمكن تعليلها أمام القضاء، لا مجرد أوهام لم يتم التحقّق منها بعد.

مرةً أخرى؛ لا يمكن النظر إلى الأمور المذكورة مع التغاضي عن الروابط السببية بين حقوق المرأة ونوعية حياتها في المجتمع الذكوري.

ثقافة الاغتصاب

ما أن يهدأ الجدل القانوني والمجتمعي حول قضية الاغتصاب حتى يُثار ثانيةً لأسباب مختلفة. وتتعالى الأصوات في فضاءات التواصل الاجتماعي مطالبة بفضح “المتحرّشين”؛ التقليد الذي أصبح دارجاً منذ الدعاوى القانونية التي أخذت تنهال على المنتج الهوليوودي هارفي واينشتاين، بدايةً منذ عام 2017، تتهمه بالاغتصاب والتحرّش الجنسي بعشرات الممثلات والعاملات بصناعة السينما على مدار ثلاثة عقود، وقد شجّع ذلك الكثيرات من الضحايا، اللاتي التزمن الصمت سنوات خشية التكذيب، على الجهر بما لاقينَ على أيدي نجوم وشخصيات مرموقة، مما أثار التساؤل ثانيةً حول معايير الإدانة بالتحرّش الجنسي بشكل عام، والاغتصاب بشكل خاص، والذي شجّع النساء العربيّات على تحدّي الصمت الذي تفرضه عليهنّ مجتمعاتهنّ حين التعرّض لمثل هذه المواقف، وباتت لهنّ نسختهنّ الخاصة من “افضحوا المتحرّش”.

أمام عدد الضحايا اليومي من متحرّشين، قد يكون البعض محقّاً حين يشعر أننا رجالاً بتنا نخضع للتفسير الأنثوي للعلاقات بين الذكور والإناث، الذي يفترض سلفاً “صدّق كلّ النساء” وأنهنّ لا يكذبن بشأن هذه الأشياء، وكأنهنّ يجسّدن بطبيعتهنّ “الحقيقة”.

طبعاً، لا يصمد هذا الافتراض أمام واقع أنّ المرأة تكذب أيضاً، وإن كانت غالباً هي الضحية؛ فهذا لا يعني أن النساء ملائكة. صحيحٌ أنّ الرجال يستغلّون مناصبهم ومصادر قوتهم المتنوّعة لممارسة الجنس، لكن أيضاً علينا أن نأخذ بعين الاعتبار النساء اللائي يستخدمن حياتهنّ الجنسية للحصول على الميّزات والوصول إلى القمة.

أدّت حملات فضح المتحرّشين إلى خوف الرجال، وإرباك العلاقات بين الطرفين في ثقافةٍ جنسية تبدو فضفاضة، لم يعد يميّز الرجل فيها متى يكون معجباً بفستان صديقته، ومتى يكون متحرّشاً بها جنسيّاً، حتى أنّ بعض الأصدقاء تساءل ما إذا كانت النساء تفضّلن احتكار المبادرة والقيام بالخطوات الأولى؟ ويقف البعض مستغرباً أمام روايات نساء عن قضايا التحرّش وتفصيلاتها اللفظية التي أصبحت أشبه بأفلام إباحية مجانية. فهل من سبيل للخروج من هذه الفوضى؟

قد نتساءل نحن الرجال أيضاً: وماذا عن التحرّش الجنسي الذي نتعرّض له سواءٌ صدر عن نساء أو رجال آخرين؟ من الصعب مساعدة الرجال الذين تعرّضوا للإيذاء الجنسي في مجتمع يحتكم فيه الرجال والنساء إلى أدوارهم الاجتماعية بوصفهم ذكوراً وإناثاً، وتعتقد ثقافته أن الرجال لا يمكن اغتصابهم فهم الذين يريدون دائماً ممارسة الجنس، وفحولتهم تفترض أنهم متعطّشون له، ويُتوقّع أنهم فاعلون دائماً.

تناضل الحركة النسوية من أجل القضاء على هذا التوقّع، والذي بدوره سيجعل من السهل على الرجال أن يعترفوا وأن يوجّهوا التهم. ومرةً أخرى لا يرى الكثير من الرجال الروابط بين النسوية وحقوقهم كرجال، بل هناك رجال ونساء على حدّ سواء يؤمنون بضرورة معالجة حقوقهم أولاً وبإلحاحٍ أكبر، دون أن يفهموا أنه من خلال معالجة أمرٍ واحد، فإنك تعالج عدّة أمور مجتمعة.

في الواقع، كانت قضية الاغتصاب في الغرب محلّ اهتمام الحركة النسوية بمختلف أطيافها منذ نشأتها، وقد كافحت طويلاً لإدخال إصلاحات تشريعية هامة، بعد أن كان اغتصاب النساء يُعدّ جريمةً في حقّ الأب أو الزوج، لا في حقّ الضحية نفسها، إذ هي إحدى أملاك الذكر، تخضع لولايته، لا كياناً إنسانياً مستقلاً له حقوقه القانونية المحدّدة (هل لا يزال الأمر كذلك في مجتمعاتنا العربية؟).

الموجة الثانية من الحركة النسوية نظرت إلى الاغتصاب بوصفه مشكلة ثقافية وسياسية، مما شجّع على انتشار مفهوم «ثقافة الاغتصاب»، وهو وصفٌ للمجتمعات التي يلقى فيها العنف ضدّ المرأة عامةً، والعنف الجنسي خاصةً، نوعاً من التسامح وربما التأييد، حتى يوشك الفارق بين العنف والجنس أن يتلاشى. فكان للحركة النسوية الفضل في اعتبار إكراه الزوج لزوجته على الجِماع نوعاً من الاغتصاب المُجرَّم، وبسبب النسويّات، خضعت تفاصيل التقاضي والشهادة والأدلة المعتَبرة في قضايا الاغتصاب، لدراسةٍ ونقاشٍ مجتمعي وقانوني مكثّف، وأصبح التعريف القانوني لمصطلح “الاغتصاب” قادراً بشكل متزايد على تضمين الهجمات على الرجال.

وفي السياق القانوني، ارتبطت جريمة الاغتصاب بثلاثة مفاهيم رئيسية: «عدم الرضا» و«القصد الجنائي» و«العنف»، ورغم اختلاف التيارات النسوية حول تعريفها وشروطها وجدواها، فإنها تصلح مرشداً لكل من يريد التغزّل بامرأة دون أن يعتَبَر متحرّشاً.

العدو المشترك

قد يسأل البعض: إذا كانت النسوية من أجل المساواة، فلماذا لا تناضل النسويّات من أجل حقوق الرجال أيضاً؟

الإجابة البسيطة هي: للسبب ذاته الذي يجعل جمعيةً خاصة بمرضى السرطان لا تعمل على علاجٍ لمرض السُكري، ولا يعني ذلك أنّ الجمعية الأولى تكره مرضى السكري وتتمنى لهم الموت.

وبالمثل، عندما تتحدّث النسويات عن قضايا المرأة، وليس قضايا الرجال، فإن الوضع الافتراضي ليس أنهنّ لا يهتممن بقضايا الرجال، بل أنّه من خلال إصلاح العديد من مشكلات النساء، سيتم حلّ مشكلات الرجال في هذه العملية. كل شيء مرتبط، قضايا المرأة هي قضايا الرجل. مشاكل الرجال هي نتيجة مباشرة لما يفرضه المجتمع من قيود على النساء، وبالتالي فإن عمل النسويات قد فعّل حقوق الرجال أكثر من أي مجموعة أخرى.

تطوّرت الحركة النسوية بسبب وجود حقوقٍ منصوص عليها في القانون خلقت عدم المساواة بين الرجل والمرأة (لا تستطيع النساء التصويت، أو الالتحاق بالجامعة، أو الترشّح لمنصب، أو فتح حساب مصرفي خاص بهنّ، ونحو ذلك). كان هناك نقصٌ متأصّل، مطبّق قانونياً، في المساواة، وهذا هو سبب التركيز على حقوق المرأة. حيث كانت النساء، وليس الرجال، الذين لديهم حقوق أقلّ من الآخرين.

افتقرت المرأة إلى الحقوق على أساس أنها أنثى، ولم يفتقر الرجال أبداً إلى الحقوق القانونية على أساس كونهم ذكوراً، بل كان افتقارهم إلى ذلك يعود إلى العِرق أو الطَبَقة، وليس إلى جنسهم. عندما بدأت النساء في الحصول على هذه الحقوق القانونية، تحوّل التركيز إلى التحيّز الثقافي ضدّ/حول المرأة.

النسوية لا تتعلّق بمحاربة الرجال، فهم مع النساء في الضفة نفسها، يصعب على الكثيرين، نساءً ورجالاً، في مجتمعاتنا التقليدية، أن يفهَموا أن العدو المشترك هو النظام الأبوي، الذي لا يمنح الرجل الحقّ في ممارسة الرقص بدلاً من رياضة كمال الأجسام إن أراد أن يبدو رجلاً، ولا الحقّ في أن يكون عاطفياً وحساساً ومزاجياً، وأن يبكي دون أن يُنعَتَ بأنّه كالنساء. عموماً لا يُمنَح الرجل حقّ أن يكون له جانبٌ أنثوي فيفضّل اللون الوردي أو يُؤثِر نمطاً معيّناً من الملابس، دون أن يتم تصنيفه على أنه مثليّ.

بالانتصار على المجتمع الذكوري بإمكان الرجل التقدّم بشكوى حين يتعرّض للاعتداء الجنسي دون أن يخشى سخرية المجتمع الذي لا يريد أن يعترف أنّ الإساءة هي إساءة بغضّ النظر عن الجنس، وأن يكون أباً في المنزل يُتابع دراسته، مثلاً، بينما تعمل زوجته لتوفير المصاريف العائلية، دون أن يعيّره الآخرون. عموماً، سيكون له حقّ أن يكون كما هو وليس كما يتوقّعه المجتمع منه لمجرّد أنه رجل.

النسوية تُكافح ضدّ الصورة النمطية بأنّ الرجل والمرأة يجب أن يكونا على نحو محدّد فقط بسبب جنسهما وإلا عليهما أن يشعرا بالخزي إن سلكا خلاف ما هو متوّقع. النسوية ترفض تصنيف الأشخاص إلى رجال ونساء وحصرهم في أدوارهم الجنسية، فنحن جميعاً أكثر من مجرد جنسنا، نحن عقل وإرادة حرّة قادرة على الاختيار، ولا يوجد شخصان متماثلان، حتى لو كانا من نفس الجنس.

صحيح أنّ الحركة النسوية عملت على جعل المجتمع أكثر عدلاً للنساء، لكن الرجال استفادوا أيضاً بشكل كبير، وكثير من الرجال ليسوا راغبين، مثلاً، في العودة لممارسة دور المُعيل الوحيد للأسرة، مع فرص محدودة للطلاق، ولا إلى ممارسة البغاء وغيره من أنواع الجنس التجاري في ظلّ حظر وسائل منع الحمل. عندما يتم إلغاء النظام الأبوي، لن يتم فقط تمكين المرأة ومنحها حقوقاً متساوية مثل الرجل، ولكن أيضاً، سيتم تدمير مطالبة المجتمع للرجل بأن يكون وفق نمطٍ يحدّده جنسه.

خاتمة: نسوية للجميع

استعير مثالاً كلاسيكياً أفترض من خلاله أن لدينا صبياً وفتاةً، لديهما قطعٌ من الحلوى. لدى الولد 8 قطع ولدى الفتاة 4. قد يعتقد بعض الرجال أن النسوية هي أن نأخذ من الصبي القطع الـ 8 ونمنحها للفتاة، وقد تعتقد بعض النساء، في المقابل، أن النسوية هي السماح للصبي بالاحتفاظ بالقطع الـ 8 ولكن إعطاء الفتاة 8 قطع إضافية ليصير لديها 12 قطعة. وقد يعتقد بعض الرجال والنساء أن النسوية هي: أخذ 2 من الصبي وإعطائهما للفتاة، بحيث يكون لكلّ منهما 6..!

ولكن النسوية لا هذا ولا ذاك، بل هي أن تُعطي الفتاة 4 قطع إضافية ليكون لدى كل منهما 8 قطع. النسوية هي أن يتفق الناس على أنّ النساء بشرٌ مثل الرجال ومستحقّاتٌ لنفس الفرص. كل شيءٍ آخر؛ السياسات، والنظرة العالمية، والعمل الاجتماعي والسياسي، والقوانين، وما إلى ذلك، مطروحٌ للنقاش.

في المجتمعات الغربية، التي حقّقت فيها النساء المساواة القانونية، يعتقد البعض أن النسوية لم تعد ضرورية، وأحياناً تتم السخرية من النسويّات الغربيات لأنهنّ بدلاً من مساعدة النساء في البلدان الأخرى اللائي يتعرّضن فيها للقمع بالفعل، يركّزن على حقّهن في الجري عاريات الصدر. ولكن النسويات مستمرات هناك في مكافحة التحيّز الثقافي للمجتمع الذكوري.

وفي المجتمعات العربية التي تتعرّض فيها المرأة لعدم مساواة مضاعفة، قانونية وثقافية، فإننا لا نزال دون نظرية نسوية متماسكة، بل تبدو تلك النسوية مواقف شخصية يتبنّاها كلّ من أعلن أنه نسوي، ليقدم لك نسخته الخاصة منها عند سؤالك له عما يعنيه أن يكون نسويّاً.

وبكل حال، على من يرغب في معارضة النسوية أن يحدّد موقفه، وما إذا كان يعتقد بالمساواة السياسية والاقتصادية والشخصية والاجتماعية بين الجنسين، وأنّ المرأة تستحق أن تتمتع بنفس الحقوق والفرص التي يتمتع بها الرجل. دون ذلك، لا يمكن أن يأخذ النقاش أي منحى إيجابيّ، كأن نسعى إلى إزالة سوء الفهم عن النسوية، التي هي نبيلةٌ من حيث المبدأ، ومثيرةٌ للانقسام في الممارسة.

ليست النسوية شريرة أو خاطئة ولسنا أمام نسوية واحدة بل نسويات، وحتى الأصوات النسوية الأكثر شعبية لا تتحدّث باسم جميع النسويّات، فمع تغيّر المجتمع تتغيّر النسوية أيضاً؛ حيث تتكيّف مع أشكال جديدة من عدم المساواة وتحوّلات في الأشكال القديمة. تتفوّق النساء من نواحٍ كثيرة على الرجال تماماً كما يتفوّق الرجال على النساء في نواحٍ كثيرة. وأحياناً قد تكون الفروقات فردية أكثر من كونها جنسية. نستطيع التأكد من ذلك عند تنحية التلقين الديني (جميع الأديان الإبراهيمية أبوية) والتقليد الثقافي اللذين كرّسا اعتبار النساء أقلّ من الرجال، وبزوال المجتمع الذكوري فإن النسوية ستختفي ولن تكون ذات صلة.

في كتابها «النسوية للجميع؛ سياسة شغوفة»، تذهب بيل هوكس[2] إلى أنّ النسوية هي فعلاً للجميع ولا تقتصر على جنس أو عرق، وتدعو إلى الاقتراب من الفكر النسوي ومحاولة فهمه من المصدر لتكون مكوّناً أساسياً في حياتنا اليومية، والتخلّص من معاداة النسوية القائمة على الجهل بها. أشارت هوكس إلى أنّ معظم من استمعت إليهم من منتقدي النسوية أخبروها بأن كل ما يعرفونه عن النسوية لم يصلهم من المصدر الأم، وأنهم لم يقتربوا فعلاً من الحركة النسوية بالقدر الكافي الذي يجعلهم يتعرّفون فعلاً على كنهها، وعلى ما يحدث داخلها، ولم يدر في خلدهم أنّ النسوية تتعلّق بالحقوق، حقّ النساء في المساواة، وتتمسّك بتعريفٍ للنسوية على أنها “حركة تهدف إلى إنهاء التمييز والاستغلال والاضطهاد على أساس الجنس”، وهو برأيها تعريفٌ يجب التمسّك به لأنه يبيّن بوضوح أنّ النسوية لا تمتّ إلى معاداة الذكور بصلة، ولأنه يُفصح عن أنّ المعضلة هي التمييز على أساس الجنس، طالما أننا، إناثاً وذكوراً، تلقّينا تربية اجتماعية اعتمدت على تقبّل الفكر والفعل القائمين على التمييز على أساس الجنس، ما أنتج تمييزاً يتقاسمه النساء والرجال على حدٍّ سواء. ولكي نتخلّص من النظام الأبوي (وهو تسميةٌ أخرى لمأسسة التمييز على أساس الجنس) علينا، بحسب هوكس، أن نعي بوضوح أننا نتقاسم جميعاً ترسيخ التمييز على أساس الجنس حتى نغيّر ما بعقولنا وقلوبنا ونترك الفكر والفعل القائمين على هذا التمييز، ونغيّره بفكرٍ وفعلٍ نسوي، وفي حال نمت معرفة المعتَرضين على النسوية، فإنهم سيتخلّصون من فزعهم منها، وسيجدون فيها أملاً في خلاصهم من عبودية النظام الأبوي. هذا التعريف هو برأيها نقطة انطلاق نحو نسويّة للجميع.

هوامش:

[1] نظرية نسوية صاغتها كيمبرلي كرينشو (1959) هدفت إلى تحليل تجارب النساء الملوّنات، وتقاطع التفرقة العرقية والجندرية التي تواجهها النساء الملونات على مستوى النظام القانوني والقضائي والحق في الخدمات العامة والقدرة على النفاذ إليها. برزت جذور هذا المفهوم مع بدء تشكيل الأفكار الأساسية للنسوية السوداء في الولايات المتحدة الأميركية، والتي نشأت كاستجابة للموجة النسوية الثانية، بعد تنامي شعور النساء السود والنساء الملونات بالاغتراب في صفوف حركة النساء في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين.

[2] الاسم المستعار لجلوريا جينز واتكينز، الكاتبة النسوية الأميركية التي اهتمت بقضايا النساء السوداوات، وركّزت على مسألة الهوية النسوية. راجع كتابها: “Feminism is for everybody: Passionate politics” , Pluto Press: 2000‏

مسيرتان للمطالبة بحقوق المرأة: لندن 1819 ونيويورك 2019

مسيرتان للمطالبة بحقوق المرأة: لندن 1819 ونيويورك 2019

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015