هكذا تحدّثت كوماري
كتاب (النسويّة والقومية في العالم الثالث)

آلاء نصّار/ ahewar- كثرت موجات المطالبة بحقوق المرأة و مساواتها والرجل، و تزامن ذلك مع تصاعد أحداثٍ كثيرة في منطقة الشرق الأوسط.. فما إن فتحت جوّالك صباحاً؛ حتى تتدفق أخبار الانتهاكات و الاغتيالات اللاإنسانية للنساء.

ووجود مثل هذه الحركات تنشط بالضرورة ردّاً على النساء اللواتي يُقَدَّمن يومياً قرابيناً على مسامط الذبح الذكوري. أمّا عن الغريب في قياس الرأي العام، فهو وجود أشخاصٍ لازالوا يدّعون بأن هذه الحركة غربية صِرفة؛ باعتبارها أيديولوجية أجنبية مستَوردة، بل و راحوا في وصفها (تقليعة جديدة) أو (هبّة.) و كأن للنسوية هويّة إثنية معيّنة! بل وكأن البنى البطريركية، خاصيّة منفردة بقطرٍ من العالم دون سواه.

و من هذا التفكير الضحل أتت فكرة نبذ النسوية، غير أنّ تاريخها يضرب في العالم الثالث منذ عقودٍ؛ حيث حظيت بدعمٍ من الاصلاحيين رجالاً و نساءً على حد سواء. و لكن جهلنا بتاريخ بلداننا التي اختزلها تعليمنا البدائي بأرطغرل والمجازر العثمانية و عدّة قصص متفرقة من هنا وهناك عن مواقع ومعارك بين العرب والفرس، جعلنا نتوهّم بأنها حركة حديثة صدَّرتها لنا نسويات الغرب عبر الانفتاح التكنولوجي الحاصل، و تمّ ضمّها إلى نظرية المؤامرة التي تقتات عليها العقول الرافضة للتغيير.

ولكني لا أنكر بأن الاحتكاك بالغرب قد أعطى لهذه الحركات زخماً، لكن هذا لا ينفي أصالتها في قطري الشرق الأدنى والأقصى، و النسوية في كليهما مرتبطة بالقومية و الوطنية، فلا تجد حركات اصلاح نادت بالحرية وحفظ الحقوق؛ إلا وجاءت مطالبةً بحقوق المرأة معها. وسأقتبس هنا من توفيق حكمت (كاتب و ناشط تركي) ما يلي : “عندما يُحَطُّ من مكانة المرأة، يُحَطُّ من قدر الإنسانية.”

قسّمت النسوية والكاتبة كوماري جياوارينا، صاحبة كتاب (النسوية و القومية في العالم الثالث) دول الشرق إلى قسمين حسب الأيديولوجية السائدة؛ فجمعت تركيا و مصر و إيران في حراكها النسوي لسيادة الديانة الإسلامية في هذه البلدان، ثم جمعت الهند و سيريلانكا ضمن البوذية والهندوسية بتقاطعاتهما مع كلّ ما يتعلّق بالمرأة، ثم انتقلت إلى الشرق الأقصى كالصين و اليابان و كوريا؛ باعتبار الكونفوشيوسية هي السائدة في ذلك الحين، أما فيتنام و الفلبين و إندونيسيا فقد تبعت الدول الأقوى من حيث التقسيم كالهند و الصين.

جياواردينا نسوية و أكاديمية، وُلِدَت في سيريلانكا عام 1931، و تنقّلت من لندن إلى باريس بعد إنهاء تعليمها الثانوي، حتى حصلت على الدكتوراة عن أطروحتها في الحركة العمّالية في (سيلان ) من كلية لندن للاقتصاد. و قد ركّزت في كتابها على تركيا و مصر و إيران، و تطرّقت قليلاً إلى أفغانستان و سيريلانكا بالطبع، وكذلك باقي دول الشرق الأقصى، معزّزةً بذلك فكرة ارتباط الحراك النسوي بالقومي ومؤكّدةً على فكرة أصالة هذا الحراك الذي عزّزه الاحتكاك بالغرب.

و هذا الربط في طرحها لم يأتِ من فراغ؛ فبقدوم الرأسمالية تغيّر نظام المرأة الاجتماعي، وصارت المرأة بذلك عمالةً أرخص من وجهة نظر الرأسماليين، وهذا الذي أدّى إلى الحراك النسوي المرتبط بالحركات الاجتماعية ككل.

وقد كان للأدب النسوي نشاطٌ قديم في هذه البلدان كلّها، فقد نُشِرَت إصداراتٌ كثيرة.. أبتدأُها بالكاتبة التركية (فاطمة توبوز) أو كما تُعرف بفاطمة علياء؛ حيث أنها كانت من أوائل النساء اللاتي كتبن دفاعاً عن حقوق المرأة، و أنا هنا أتحدّث عن عام 1988.. روائيةٌ تتحدّث في تلك الحقبة عن النسوية في منطقة إسلامية، منتقدةً التقاليد القديمة التي تتعارض مع التطوّر والحداثة والتي تهمّش دور المرأة في نهضة مجتمعها.

وأظن بأني لو تحدّثت بإسهابٍ عن الأعمال النسوية الأدبية المبكرة، سأحتاج كتاباً وربما كتباً لعرض هذه الأعمال ومناقشتها، إلا أنها في أغلبها ركّزت على مفهوم (المرأة الجديدة). وقد حمل كتاب قاسم أمين في مصر هذا العنوان، إضافةً إلى جمعية المرأة الجديدة التي تشكّلت على أيدي نساء مصريّات عام 1919. وإذا أردنا ذكر الأسماء على سبيل الأمثلة لا الحصر، من الشرق أقصاه وأدناه، وببحثٍ بسيط عبر المصادر الموثوقة، ستظهر لنا أسماءٌ كثيرة، إلا أنها لم تحظى بالاعترافات الكافية، ومع ذلك كان لها التأثير الكبير في وقتها؛ كخانم آزامودة في ايران، وجيوجين من الصين، وهدى الشعرواي من مصر، ولا ننسى مي زيادة ودفاعاتها عن حقوق المرأة. فالذات النسائية حاضرة منذ ما يقارب 60 إلى 80 عام سابقة، وهذه ليست موجة جديدة مستَحدَثة من نسويّات الغرب. أما عن تأثّرها بالغرب؛ فهذا ومما لا شك فيه طبيعي، فقد ناقشت كوماري موضوع الغرب والشرق في كتابها والارتباطات بينهما ومسألة الاستعمار.

وسنجد بالتالي بأنّ الأمور متشابكة، ولا يمكن الفصل بينها، ومن الطبيعي أنّ تأثير الغرب العقلاني والوضعي مع ظهور العلمانية قد أثّر في هذه المنطقة ككل، و لا يمكن فصل الكيان الغربي من ناحية الجذور عن هذا الكيان الشرقي؛ حتى أنّ اللغات الأوروبية كانت مرتبطة بالسنسكريتية. كما ذكرت كوماري في كتابها محاولة توضيح فكرة أنّ البناء المعرفي للأمم مرتبطٌ بشكلٍ و/أو بآخر، وأنّ هذا التشابك لا يمكن فصله بأي شكل من الأشكال، ولكن هذه الدول التي تقع في الشرق كانت فريسة الاعتداءات الأجنبية من أجل مواردها الضخمة، وكان يُنظر لها دائماً نظرةً دونية، وعندما تمّ استعمارها؛ نهضت الحركات القومية جنباً إلى جنب مع النسوية كردّة فعل طبيعية، إلا أنّ الاصلاحات السطحية لم تفي بالغرض. فقبل الاستعمار كانت هناك سلالات حاكمة ومعتقدات دينية تحكّمت في المرأة على مدى قرونٍ طويلة، وبذلك صارت الاصلاحات الداخلية لازمة، فإزدهار الليبرالية و العلمانية في القرن 19 أدّى إلى المطالبة بإعادة تفسير النصوص الدينية والحدّ من نفوذ رجال الدين.

وهذا الشيء يتكرّر في وقتنا الحالي مرةً أخرى؛ فما كان يُعتَبر مقبولاً كحرق الأرملة بعد وفات زوجها مثلاً، صار عملاً لا إنسانياً ومنافياً للأخلاق وللإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948. وأرى بأنّ النسوية يجب ألا تقتصر على مطالباتٍ بحقوق مساواة هنا و هناك، بل أعتقد بأننا في حاجة ماسّة لإصلاحات جذرية تعالج التمييز، وإلى تكثيف وعي مجتمعي حقيقي، فلطالما كان لمحو الأمية و للحراكات الأدبية التي تُعالج هذه القضية نتائج على المدى البعيد؛ فالاصلاحات الداخلية تعدّ من وجهة نظري أهم بكثير من القشور والمطالبة بالمساواة فقط، وكلّ الادعاءات التي تُعادي هذه الإصلاحات؛ كونها عملية تغريب للنساء عن دينهِنّ وعن عاداتهِنّ، ستبوء بالفشل أمام هذا الإنفتاح المعلوماتي الضخم والإحتكاك الكبير بالعالم من حولنا.

ومع ذلك؛ تبقى النساء حتى وقتنا هذا أهدافاً للعنف الجسدي ما إن حاولن تجاهل العادات والتقاليد والمطالبة بحقوقهِنّ الإنسانية. فقد شهِدنا قبل قرابة عامٍ من الآن مظاهرةً نسائية في هوليوود، تُطالب بها أهمّ الممثلات العالميات بحقوقهِنّ و يرفضن الابتزاز الجنسي و يطالبن بالمساواة في الأجور. وهذا يدلّ على شيءٍ واحد فقط؛ هو أنّ العقل الجمعي لازال يرى المرأة شيئاً منذ تحوّل المجتمعات من مرحلة الأمومة إلى المرحلة الأبويّة.

في النهاية نستطيع أن نتبع خطى من أعادوا تفسير حرق الأرملة ومن جعلوا النصوص تعمل عملاً جديداً، وهذا على أقل تقدير. فالجميع اليوم يتحدّث عن التمكين ويسلّط الضوء على بهرجةٍ إعلامية تُوحي للغرب –الذي يهمّنا رأيه بالدرجة الأولى _ بأن حال المرأة قد تغيّر، و لكننا نعلم يقيناً تاماً بأنها لا تزال أسيرة عادة ومجتمع، تحمل في جسدها شرف قبيلة وتُقَوَّض حريّتُها في التعليم إلى يومنا هذا بدافع (عيب) و (حرام).

ولأكن أقل تشاؤميّةً؛ فهناك بصيص أمل جيد وجديد عبر الحراك الإلكتروني، الذي يتزايد مع كلّ ضحية تعنيف وجريمة شرف وتزويج قاصرة في دول العالم الثالث.

ولكن هذا لا يكفي مادام القانون ينكمش أمام حكم العشيرة و سطوة العادات والتقاليد.. من عروض الجمباز عام 1929 في مصر، ومن لطيفة النادي كأول إمراة تطير منفردةً في عام 1934، إلى ضحايا (الشرف) عام 2019.

في النهاية؛ أودّ ذكر الدكتورة العظيمة نوال السعداوي، التي أشعلت أول شرارةٍ للنسوية في حياتي، والتي أعتزّ بها كامرأة شرقيّة واجهت رجال الدين والسلطة بكل جسارة واحترام، واجهتهم بعقلها وأدبها و كتبها، لا بالصراخ والهيمنة و (البلطجة)..
هي التي غيّرت مفهوم الشرف لديّ في وقتٍ مبكر جداً في حياتي؛ فعلّمتني أنّ كلمة المرأة شرف، وعملها شرف، واستقلالها المادي هو الشرف الحقيقي الذي ينبغي أن تسعى له، فقد عالجت السعداوي جيلاً كاملاً بالصدمة، وتمّ توجيه إتهاماتٍ تكفيرية كثيرة لها عندما تعارضت مصالح الذكورية الضاربة في مجتمعاتنا مع أفكارها النيّرة التي طالبت بالإصلاح الداخلي، وأتمنى أن نطالب جميعنا بذلك قبل المطالبة بالقشور.

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”. 

كتاب (النسويّة والقومية في العالم الثالث)

كتاب (النسويّة والقومية في العالم الثالث)

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015