نسرين علاء الدين/ جريدة الحياة- تتزاحم الوجوه على أسوار القصر العدلي وسط دمشق، آتية من كل حدب وصوب، لا أحد يدري ما بداخل الأضابير الملونة سوى الأيدي التي تتناقلها.
بين الزحام تجد فتيات في عمر الزهور بصحبة أولياء أمورهن. نظراتهن تائهة لا تعرف حقيقة ما ينتظرهن بعد تلك الزيارة إلى المحكمة مع الأهل والمحامين لتسجيل عقود زواجهن. وعادة ما تكافأ العروس بزيارة إلى سوق الحميدية المجاور للقصر العدلي لتناول البوظة… بعدها تذهب إلى مصيرها. الفرحة الحقيقية غائبة، أخلت مكانها لعلامات استفهام، ونظرات استسلام لما يريده الأهل. يتحولن إلى مجرد رقم جديد في ملف زواج القاصرات الذي تضخم كثيراً في سورية خلال سنوات الحرب حتى أصبح يضم أسماء نحو ثلث القاصرات في البلاد حسب دراسة للمركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية.
تثبت سارة (اسم مستعار) العاملة في صالون حلاقة في حي الميدان في دمشق نظرها على المعلمة صاحبة الصالون، وتحلم بيوم يمكنها فيه أن تتعلم فعلياً مهنة الكوافيرة. عملها حالياً يقتصر على تنظيف المحل ومناولة الأدوات للمعلمة ومتابعتها بالنظر. لم يعد للفتاة التي أصبحت أرملة في سن السابعة عشرة حلم سوى أن تتعلم المهنة لتعيل نفسها وطفلتها بعد زيجة لم تدم طويلة.
استعادت سارة حريتها بعد وفاة زوجها لكنها وجدت نفسها مكبلة بقيود المجتمع. فوالدها الذي زوجها عام 2014 لابن عمها، بات عليه أن يأتي إلى صالون الحلاقة في نهاية العمل كل يوم ليصحبها في عودتها للمنزل. السير وحيدة في الشوارع يمكن أن يعرض الأرملة الشابة للقيل والقال.
تركت سارة مدرستها بعدما قرر الأب تزويجها من ابن اخيه الذي يكبرها بستة عشر عاماً. وغادرت سورية إلى الأردن مع بدء أحداث الحرب. عاشت حبيسة المنزل تتحسر على حريتها المفقودة واستهزاء زوجها باحتياجاتها بل وضربها في بعض الأحيان. كان يذهب للعمل ويتركها رهينة لدى والدته التي تحاسبها على كل صغيرة وكبيرة. وزاد الطين بلة حين أنجبت طفلة، وكانت العائلة تريد صبياً. وبعد ستة أشهر من ولادة الطفلة توفي الزوج بمرض خبيث.
وعادت سارة مع طفلتها إلى سورية لتعيش في منزل أبيها. تقدم أكثر من شخص للزواج منها لكنهم يرفضون أن تصطحب معها طفلتها. وأهل زوجها يرفضون التكفل بنفقات الطفلة. عملها في صالون الحلاقة لم يوفر لها دخلاً يكفي احتياجاتها، لكنه على الأقل أعاد لها القدرة على الحلم بأن تكون لديها مهنة تكفيها لتعتمد على نفسها وتعول ابنتها.
زواج سارة كان بعقد محكمة سليم، على رغم أنها كانت في الرابعة عشرة من العمر.
وتقول المحامية والناشطة اعتدال محسن إن المادة 16 من قانون الأحوال الشخصية السوري الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 59 بتاريخ 7-9-1953 ينص على أن العمر المناسب للزواج هو (17سنة) للفتاة و(18 سنة) للفتى لكنه يسمح بزواج الفتاة في سن 13 عاما والفتى في سن 15 عاماً إذا احتمل جسداهما الزواج وكانت لديهما نية حقيقية لبناء أسرة، وفق تقدير القاضي.
وإذا كانت سلطة القاضي تتعلق بتحديد قدرة الجسد على احتمال الزواج، تثبت تجربة ياسمين أن أهوال ما بعد هذا القرار أكبر من أن تفطن إليها نظرة تركز على شكل وبنيان الجسد.
أصبحت ياسمين، وهي في الخامسة عشرة من العمر، زوجة ثالثة لرجل تخطى الأربعين بسنوات. تحمل طفلها على خصرها وهي تجوب أزقة حي المرجة في دمشق. ليس لديها ترف الاستراحة كثيراً، وهي تنتظر على الأرصفة مرور أي عابر لتلحق به وتطلب بعض النقود.
عم ياسمين زَوجها في 2016 بعد وفاة والدها كي لا تكون عبئاً عليه. الزوج لا يعمل بمهنة محددة ويعيش من التسول هو وزوجاته وأطفاله. تنام ياسمين مع نساء زوجها في الحديقة المجاورة لأحد فنادق المرجة، وتستحم مرة في الاسبوع في الحمامات العامة.
تقول ياسمين: «تضربني الزوجات الأكبر مني إذا لم أطبخ أو أغسل ثياب العائلة المؤلفة من 13 فرداً. حاولت الهرب مرتين، وفي إحدى المرات لجأت إلى مركز إيواء للنازحين في ضواحي دمشق، لكن زوجي عثر علي وأعادني وهدد بقتلي إذا أعدت الكرة».
وتضيف أنها تعرف مبادئ القراءة والكتابة، وكانت تتمنى أن تدرس وتصبح ممرضة ترتدي ثيابا بيضاء جميلة «أشاهد بعضهن في الصباح ينتظرن الحافلة». وتقول: «كثيراً ما استيقظ مرتعبة من حلم يتكرر أحاول فيه خنق زوجي».
ماكينات إنجاب
الحالات في عيادة طبيبة أمراض النساء رزان تكشف مدى التجاهل للمخاطر البدنية التي تلحق بفتيات في عمر الزهور وقعن في براثن زواج القاصرات.
تتكور دعاء ابنة الستة عشر ربيعاً على نفسها وتئن بصوت واهن في حين تنتظر دورها للدخول للطبيبة. قالت بشق الأنفس إن حملها أجهض للمرة الثانية لكن زوجها وأهله يصرون على تكرار الحمل، على رغم أن الجنين كان يموت في المرتين بعد ستة أشهر.
وتقول الطبيبة رزان نشاهد يوميا حالات لطفلات يلدن وتتراوح أعمارهن بين 13 و17 عاماً. وأضافت أنه في معظم الحالات تأتي الفتيات بعد فترة من الولادة يعانين من أمراض كتعفن في الرحم أو نزيف مستمر وأمراض أخرى نتيجة ولادتهن في المنازل. وتابعت أنه في إحدى المرات أتتنا فتاة تعاني من التصاقات شديدة وتعفن في الرحم حيث قام بعملية التوليد طبيب الأسنان في المنطقة التي كانت تقيم فيها.
الأخطار التي تواجهها الزوجات القاصرات لا تقف عند فقدان طفولتهن والمشكلات الصحية المتعلقة بالحمل المبكر.
تقول كلوديا غارسيا مورينو، خبيرة منظمة الصحة العالمية في مجال العنف ضد المرأة إن «زواج الأطفال يصادف في كثير من الأحيان مقدمة مفاجئة وعنيفة للعلاقات الجنسية.» وتضيف أن «الفتيات الصغيرات عاجزات عن رفض ممارسة الجنس ويفتقرن إلى الموارد أو الدعم القانوني والاجتماعي للابتعاد عن الإساءة الزوجية.»
وتقول دراسة نشرها المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية بموقعه على الانترنت في آب (أغسطس) 2017 إن نسبة تزويج القاصرات في البلاد قبل أحداث الحرب كانت تصل إلى نحو 7في المئة من مجموع القاصرات. أخذت هذه النسبة بالارتفاع سنة بعد أخرى مع اشتداد الحرب، حتى بلغت 15 في المئة عام 2012، وتجاوزت 30في المئة في 2015. ووفق إحصاءات وزارة العدل في سورية، فإن عقود زواج القاصرات بلغت 10 في المئة من الزيجات المسجلة في المحاكم الشرعية في دمشق في 2013، وتزيد النسبة كثيراً في مناطق الأرياف البعيدة عن العاصمة. وأما الزيجات غير المسجلة في المحاكم الشرعية فتمثل عقود زواج القاصرات 60 في المئة منها.
لقد تقدّمت مُعِدّة التحقيق بأكثر من طلب لوزارة العدل للحصول على احصائيات جديدة أو لقاء القاضي الشرعي الأول لدمشق، لكن الطلب لم تتم الموافقة عليه.
قانون الأحوال الشخصية في سورية الصادر عام 1953، والمعروف باسم القانون الشرعي، يفتح الباب أمام زواج القاصرات رغم تحديده سن أهلية العروسين للزواج. ويقول المحامي عبدو بربورة المختص بقانون الأحوال الشخصية للطوائف المسيحية إن زواج الفتيات دون سن الثامنة عشر أمر مستهجن ومرفوض لدى معظم الطوائف المسيحية لكن قانون الاحوال الشخصية لا يعاقب عليه، وتجيز بعض مواده زواج القاصر (فتاة أو فتى) دون سن الرشد.
وتقول المادة 16 من القانون الشرعي: تكتمل أهلية الزواج في الفتى بتمام الثامنة عشرة من عمره، والفتاة في السابعة عشرة من عمرها.
لكن في الوقت ذاته لم يمنع القانون ناقصي الأهلية من الزواج وفق ما جاء في المادة 18: 1، إذ يحق للقاضي السماح بزواج عروسين دون السن إذا تبين احتمال جسميهما. وإذا كان الولي هو الأب أو الجد، اشترطت موافقته. وفي غيابه يكون القاضي وليهما.
لا للمادة 18
يقول المحامي عارف الشعال إنه يرى ضرورة إلغاء المادة 18 من قانون الأحوال الشخصية رقم 59 لعام 1953 والتي تتساهل في الحد الأدنى لسن تزويج الفتاة لحد الثالثة عشر، والاكتفاء بالمادة 20 من القانون التي تسمح للفتاة التي بلغت السابعة عشر من العمر بالزواج، مع تعديل طفيف للنص بوضوح على أن هذا السن هو الحد الأدنى المسموح به قانوناً لزواج الفتاة.
ودعا إلى وجوب فرض عقوبة الحبس المناسبة على ولي أمر الفتاة التي يتم تزويجها خلافاً لذلك، بالإضافة لمعاقبة الزوج إن كان بالغاً ورجل الدين وشهود العقد، على ألا تقل عقوبة الزوج وولي الأمر في هذه الحال عن الحبس لمدة سنة.
نظرة المشرع السوري للمرأة ما زالت مائلة الكفة رغم توقيع الحكومة السورية عام 2002 على اتفاقية سيداو للقضاء على التمييز ضد المرأة إذ تحفظت على عدد من المواد، منها فقرات في البند الأول للمادة 16 تمنح المرأة حقوقاً مساوية للرجل في الزواج والطلاق والقوامة والوصاية وتحديد سن أدنى للزواج والتسجيل الإلزامي للزواج. ومنها أيضا المادة الثانية التي تقضي: بتجسيد المساواة بين المرأة والرجل في الدساتير الوطنية والتشريعات والقوانين والحماية القانونية للمرأة من أي فعل تمييزي والعمل على تغيير القوانين والأنظمة والأعراف بما يتناسب مع ذلك.
وفي تموز 2017، أصدرت الحكومة المرسوم التشريعي رقم 230 القاضي بإلغاء تحفظ الجمهورية العربية السورية على المادة الثانية من الاتفاقية، لكن «وفق قيد بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية.»
الدين لا يمنع تحديد السن
الشيخ عبد الأحد محمد فرج إمام جامع الأحمد في ريف دمشق خريج معهد الفتح الإسلامي وكلية الشريعة بدمشق، يقول إن الزواج من الصغيرات ليس سنة تتبع، ولا بدعة تجتنب، لأن الشرع لم يأمر به ولم ينه عنه، فبقي الأمر على الإباحة. والأمر المباح يجوز للحاكم أن يتدخل فيه إذا رأى في ذلك مصلحة للناس.
وقال إن القياس على زواج النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالسيدة عائشة هو قياس مع الفارق كما يقول علماء الأصول، لأن البيئة التي تعيش فيها الفتاة تلعب دوراً كبيراً في مسألة البلوغ والنضج الجسدي والفكري، إضافة إلى أن متطلبات الحياة الزوجية في ذلك الزمان تختلف عن متطلبات اليوم، فالحياة عندهم كانت بسيطة والمتطلبات محدودة، أما اليوم فالحياة تحتاج إلى جهد وعناء، والمسؤولية التي تلقى على عاتق الزوجة كبيرة جداً.
وأضاف أنه نظراً لتبدل الزمان والظروف الحياتية نرى من المصلحة أن تتبدل نظرة المشرع إلى السن المناسبة للزواج، وهذا التبدل جائز شرعاً، عملاً بالقاعدة القائلة :[لا ينكر تبدل الأحكام بتغير الأزمان].
وتابع أنه يرى أن يترك للقاضي الشرعي الرأي في بعض المسائل الاستثنائية من حالات الزواج ينظر فيها من خلال المصلحة فإما أن يوافق وإما أن يرفض.
تمّ تنفيذ هذا التحقيق ضمن مشروع «سورية بعمق» الإعلامي المدعوم من «غارديان» البريطانية و «آي إم إس» الدنماركية وشبكة «أريج».