موقع السيدة- لنأخذ بعين النقد أنّ الجهاد هو في الأصل لعبة طقوسية شعائرية، لا يمكن القبض على ميكانيزماتها سوى بالغوص في أبعادها المخيالية، وخصوصا بُعدي المدنس والمقدس.
كل ما يرتبط بهذه اللعبة بنيويا سيكتسي بأبعادها. فإذا كانت الغاية تدمير مدنس الآخر، فإنّ أقرب الطرق إلى ذلك هو جسد المرأة. اغتصابه يعني شكلا من الانتصار. الاعتداء الجنسي الجهادي، وجهاد النكاح صنف أو مرتبة من مراتبه، سيتلبس بمعالم كل ما تحمله حروب الجهاد والمقدس.
فإذا كان للجهاد من نظائم ضابطة تضبط حراكه السلوكي الأخلاقي والفقهي فإنّ الاعتداء الجنسي نظيمة قوية أو ركيزة بنيوية فيه. لكن لنتذكر أنه للوصول إلى النصر المقدس، فإنه يجب أنْ يسبقه تصوير تمثيلي يؤنث العدو من جهة، ويعيد تأنيث أنثاه، بأنْ يجعلها تنتمي إلى الآخر مرتين: آخر عنه هو، كجندر دوني، وآخر غريب، عدو من جندر العدو. هذا ما سيشرعن له فعل الاغتصاب.
فالموت جهاديا يكتسي بُعدا مقدسا بغية الوصول إلى مقدس مخيالي عصابي، فإشباعها كذلك لا يمكن أنْ يمرّ من دون تأكيد نظيمة تراثية قوامها “مقدس الفحولة”، “فحولة المقدس”، أي الفحولة التي غالبا ما يتم التدليل عليها في ميادين الجهاد. إشباع مقدس الموت يعني بالضرورة تأكيد فحولة الذّكر الأصولي. بالطبع، مقدس الفحولة سيعني، من وجه آخر، تهيكلا لـ“آخر”، أي “مدنس الأنوثة” و“أنوثة المدنس” (وهذا لا يمكن قراءته سوى من خلال تفكيك بنية العقل الثنوي الأصولي).
بالطبع كذلك، إشباع مقدس الفحولة لا يمكن أنْ يمرّ سوى بالتثبيت الدائم بما يخص الانتصار الأصولي الذكري المقدس على الحقل الأنثوي المدنس. بكلمات أخرى لا يمكن إثبات فحولة الذكر الأصولي المجاهد سوى من خلال بعدين: الأول الانتصار على العدو في ساحات الجهاد. الثاني الانتصار على جسد المرأة بكونه ساحة مدنسة: ساحة عليها ومن خلالها يُحتفى بالذكر الأصولي بلقب “مجاهد”.
هكذا، نجده قد تحول إلى جزء طائفي كبير من الفضاء الجهادي الإيراني في سوريا، والعصابات التي تقاتل معه كلها تقاتل تحت مظلة الطائفة الشيعية ضد الطائفة السنية. من هنا، ليس من العدل عدم القول إنه حينما ترتكب العصابات السنية الجهادية عمليات اغتصاب ضد النساء الشيعيات وبالعكس، العصابات الشيعية ضد السنية، فإنهم يمارسون اغتصابا لا تمكن قراءته سوى ضمن “الاغتصاب الطائفي”، والذي يتظلل بالنهاية ضمن خارطة الصراع المزمن السني الشيعي. فأي حديث وتحليل سينسحب على الطرفين.
ربما يصح نظر بعض الباحثات في تناولهن لقضايا الاغتصاب في سياقات الحروب، كما هو الحال في حروبنا، إعطاء الاعتداء الجنسي تفسيرا يتعلق بالعامل الإثني، حيث أن النساء اللواتي يحملن بأجنة من بعض رجال آخرين، سيحملن أيضا بدم غير نقي، وبالتالي سيتم بهذه الطريقة إفساد دم مجتمعهن. عماد هذا الطرح أنّ “اغتصاب النساء الإيزيديات يمثل استراتيجية لاختراق سلالة الأكراد”. يروي أحدهم أنّ “الأكراد والإيزيديين هم في الأصل آريون. ولكن لأنّ الإيزيديين مجتمع مغلق؛ فإنهم يحتفظون ببشرة فاتحة وشعر أشقر وعيون زرقاء. إنهم لا يتزاوجون من غير الإيزيديين. لقد أخذ تنظيم داعش حوالي 300 امرأة من سنجار ليتزوجوهن ولينجبوا منهنّ أطفالا مسلمين. فإذا لم يتمكنوا من قتل الإيزيديين، فإنهم سيحطمون السلالة الشقراء”.
“عرض العشيرة” المعلق بالمرأة في هذه الخارطة الذهنية، سيتحول بجرة قلم ضمن هذه الخارطة نفسها إلى “عرض الأمة”. لا فرق بين العشيرة والأمة في هذه البنى الأنثروبولوجية. لكن في كلتا الحالتين اغتصاب المرأة يعني اغتصاب الأمة أو اغتصاب العشيرة. ولو دققنا النظر أكثر واكتشفنا أنّ الأمة عند مجاهدي السنة ليست سوى “أمة أهل السنة والجماعة” لرأينا أنّ انتهاك امرأة منهم سيعني انتهاكا لأهل السنة. لقد أوضح حسن البنا رؤيته عن المرأة المسلمة وعلقه أيضا بالأمة “حذار فإن المرأة التي تصلح الأمة بصلاحها، هي المرأة التي تجلب على الأمة الفناء والاضمحلال بفساده”.
إشباع مقدس الموت يعني إشباعه بتدنيس مقدس الآخر، لكن أيضا هذا المقدس هو مدنس في مخياله في عمقه (يكفي لتوضيح هذا التناقض فهم أنه كما أن “المحرم” يكتسي بُعدين، فكذلك الأمر في فضاء جسد المرأة، فله بعدان في المدونة الإسلامية الجنسوية؛ فضاء مقدس مخادع، وفضاء مدنس). وفضلا عن ذلك، ففي حالات الحرب المقدسة سيتحول الاعتداء الجنسي إلى طقس شعائري لا تنحصر وظيفته بالإشباع الحسي، بمقدار تأكيد الطقوسية الذكورية، أي التشديد على السلطوية الذكورية للمقدس. بالطبع، لن يغير من هذه الصورة الاغتصابية لجسد المرأة أنْ يأخذ الاعتداء الجنسي أشكالا مختلفة في حالات الجهاد الإسلامي، كما هو الحال في أمثلة جهاد النكاح، والإماء التي تباع أو السبايا التي تسبى جراء الحرب.
خلاصة من بحث حمود حمود “الإشكالات الدلالية للاغتصاب في حروب المشرق”، ضمن الكتاب 121 (يناير 2017) “العبودية المعاصرة لدى التنظيمات الإرهابية” الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي.