لمى قنوت/ السوري الجديد- لا يقتصرُ السجلُ الحافل للنظامِ السوريِّ على جرائمِ الحربِ والجرائمِ ضدَّ الإنسانيةِ التي ارتكبها بحق المجتمعاتِ التي ثارتْ على حكمِه، بل يمتدُ ليشملَ بنيتهُ التسلطيةَ العنيفة التي تشعبتْ في كلِّ مناحي الحياة، فقد رسَّخَ الاستبداد العنيف الهيمنةَ الذكوريةَ في الحيزِ العامِّ والخاصّ؛ ففي الحيزِ العام استبدادٌ سياسيُّ، وفي الحيزِ الخاصِّ استبدادٌ دينيّ (ممثلاً بفقهٍ ذكوريٍّ، هو مرجعيةُ التشريعِ وفقَ المادةِ الثالثةِ من الدستور) إضافةً إلى العرفِ، وقد شكّلا معاً دوائرَ تمييزٍ وعنفٍ طالتْ الأقل حمايةً قانونيةً في المجتمعِ.
كما سمحت العلاقةُ الوثيقةُ بين السلطةِ السياسيةِ والسلطةِ الدينيةِ بجعلِ العنفِ القائمِ على النوعِ الاجتماعي مقبولاً ومسكوتاً عنه، وغالبيةُ ضحاياه يلتزمونَ الصمتَ كجزءٍ من منظومةِ ثقافةٍ راسخةٍ في انعدامِ العدلِ المعمّمةِ وسياسةِ الإفلاتِ من العقاب. تفاقمَ كلُّ ذلكَ بعدَ سيطرةِ ميلشياتٍ تحملُ أيديولوجيا قمعية تتنازعُ على السلطةِ والمواردِ.
ورغمَ تفاوتِ دينامياتِ العنفِ وتقاطعاتها وتداخلاتِ عواملَ مختلفة مثل الطبقةِ والمكانِ الجغرافي والجنسِ والعرقِ والنشاطِ السياسي والاقتصادِ والدين، إلا أنها جعلتْ العنفَ تجاه النساءِ في مرمى تركيزهم للتأكيدِ على سلطتهم ونفوذهم في الحيزينِ العامِّ والخاصّ.
سلطةُ مجتمعاتِ الرقابة
تتسمُ المجتمعات التقليدية التي تختفي فيها اسماء النساء من شجرة العائلة وفي النعوات (باستثناء إن كانت المتوفاةُ امرأة)، والتي ترزح تحت الاستبداد المديد بالانغلاق نتيجةَ الشكِّ والريبةِ من الآخر، التعصب، مقاومةُ التغييرِ، كرهُ الحرياتِ الفرديةِ، التمسكُ بعاداتٍ وأعرافٍ بالية، التماهي مع الخطابِ السائدِ تجاه علاقةِ الفردِ مع جسدهِ ومع أجسادِ الآخرين، وتلتفُّ منظومةُ العيبِ حولَ رقابِ الأفرادِ من الطفولةِ وحتى الموت، ويتحوّلُ المجتمعُ المقموعُ إلى مجتمعِ رقابةٍ، يُخْضِعُ أفرادهُ إلى عمليةِ انضباطٍ صارمة وقواعدَ للقبولِ الاجتماعي، وغالباً، تنتظمُ الأجسادُ مراقِبةً لذاتها ملتزمةً بالحدودِ والضوابطِ ليس خوفاً من العقابِ والتمييزِ والعنفِ فقط بل طمعاً في المكافأةِ والثناء، و يتقاطرُ الانتهازيون/ ات للانضواءِ تحتَ تلكَ القواعد، والتي تزيدُ حتماً من قوةِ الهيمنةِ الذكوريةِ المدعومةِ بعنفٍ قانونيٍّ، وتعليمٍ مؤدلجٍ تلقيني، وإعلامٍ يجذّرُ التنميطَ والتمييزَ ويرسّخهما.
تخترقُ الرقابةُ في هذهِ المجتمعات خصوصيةَ الفردِ وحريتهُ في أفكارهِ وضميرهِ وجسدهِ، وتصنفهُ، وتضعُ معاييرَ للجمالِ والعفةِ والانضباطِ والذكاءِ والزوجةِ/ج الصالحةِ/ح ومواصفاتٍ للولدِ البارِّ ذكر/أنثى، أما معاييرُ وسماتُ الرجولةِ والأنوثةِ فكثيرةٌ: الملبسُ وألوانهُ، الضحكةُ، طريقةُ الجلوسِ، التخصصُ الجامعيّ، العملُ، النظافةُ والترتيب…إلخ، بالمحصلةِ معاييرٌ جندريةٌ وجنسانيةٌ صارمةٌ.
مجتمعاتُ الرقابةِ تُملي على الفردِ، ذكراً كان أم أنثى، شكلَ وإطارَ العلاقةِ مع جسدهِ/ها، خجلاً أو/ و خوفاً- حباً أو كرهاً- قبولاً أو رفضاً ومن ثم قد يكون تصحيحاً (عملياتُ التجميلِ) خضوعاً لسلطةِ ثقافةِ الجسدِ النموذجِ المعولمِ، وتتدخلُ سلطةُ المجتمعِ في حدودِ ملكيتنا لأجسادنا، أو تلغيها تماماً، وتُصَنِّفُ الأجسادَ الشرعية، المغطاةَ بشكلٍ جزئيٍّ (الحجاب) أو كليٍّ، كشرطٍ ضروريٍّ ولازمٍ للقبولِ الاجتماعيِّ وترفعهُ للمراتبِ العليا.
ومن نافلِ القولِ، حقُّ الإنسانِ في اختيارِ ملبسهِ وحريةِ أفكارهِ وضميرهِ وجسدهِ، لكن أن تتحوّلَ منظومةُ الفرزِ هذهِ إلى وسيلةٍ وأداة، حرةٌ أم مجبرةٌ، إلى انصياعٍ لإعادةِ تشكيلِ الجسدِ ورسمِ حدودهِ وفهمِ وصياغةِ معانيهِ لقبولهِ أو نبذهِ اجتماعياً، مثلَ المصطلحاتِ التي تخرجُ من عباءةِ تلكَ المجتمعاتِ “علمت علي/ عليها” كوشمٍ أبديٍّ لوصمةِ عارٍ يلازمُ هذا الجسدَ ويضعهُ أسفلَ السلمِ الاجتماعيّ.
الجسدُ والسلطةُ:
أخضعتْ السلطُ الاستبداديةُ السياسيةُ والدينيةُ والاجتماعيةُ الجسدَ إلى منظومةِ إخضاعٍ ونفيٍ وقهرٍ، لكنَّ الأجسادَ المسيّجةَ صنعتْ تاريخاً جديداً بعدَ ثوراتِ الربيعِ العربيّ، وظهرتْ أجسادُ الثوارِ/ ئرات أثناء احتشادها جسداً واحداً متناغماً ينادي بالحريةِ وبإسقاطِ النظامِ، فكان مطلوباً إسكاتُ جلبتها وتحطيمها وتجويعها وتعذيبها لإعادةِ ضبطها، كانَ في تحويلها من أجسادٍ متمردةٍ إلى أجسادٍ مرقمةٍ في ثلاجةٍ أو في مرمى عدساتِ التصويرِ للتوثيقِ. المفارقةُ، أنه حتى في الموت؛ تراصفتْ الأجسادُ المعَذبةُ في صورِ “سيزر/القيصر”(1)؛ وعندما خُنقت بالكيماوي، على سبيلِ المثالِ في مجزرةِ الغوطة(2).
بالمقابل، قّدمتْ السلطةُ نفسها على أنها جسدٌ واحد، خطابٌ واحد، يتجسدُ رمزهُ برأسِ السلطةِ، بشار الأسد. الانتشارُ الكثيفُ والأحجامُ الكبيرةِ لصورِ ومنحوتاتِ رأسِ السلطةِ ورمزها، والموجودةُ في المؤسساتِ والشوارعِ والساحاتِ هي إحدى الأدواتِ لترسيخِ الحضورِ الدائمِ لجسدِ السلطةِ المهيمنةِ المُراقِبةِ، وكرّستْ أدواتهُ التشبيحيةُ الإجراميةُ فحولتها بأجسادٍ وعضلاتٍ ضخمةٍ ومدججةٍ بالسلاحٍ، ووجوهٍ قاسيةٍ ومرعبة(3)، حرصتْ في كلِّ مكانٍ تدمرهُ وتنهبهُ أن تكتبَ على جدرانهِ “من هنا مروا شبيحةُ الأسدِ”(4) وأدخلوا في سرديةِ خطابهم العنيف عباراتِ “سحق، تطهير”.
وحوّلتْ البراميلُ المتفجرةُ سورية إلى مسرحِ تعذيبٍ يشبهُ استعراضَ التعذيبِ قبلَ القرنِ الثامنِ عشر التي تباهت بمنصاتِ الإعدامِ والأجسادِ المصلوبةِ والمشانقِ المنصوبةِ في الساحاتِ، بما فيها منظرُ الجلادينَ لمزيدٍ من إضفاءِ الرعبِ مع تطورٍ جديدٍ للمشهد، أفرزتهُ التكنولوجيا، وهم يلتقطونَ الصورَ مع بقايا أجسادٍ قطعوها(5)، كما فعلَ “عصام زهر الدين” الذي كان يصرُّ على إظهارِ فحولتهِ بتصويرِ نفسهِ وهو يجرُّ جنزيرَ دبابةٍ(6)، كلُّ ذلك كانَ رداً على اهتزازِ صورةِ ومكانةِ السلطةِ ورمزها الذي أحدثتهُ الثورة.
لم يملكْ الأسدُ الابنُ أيَّ قدرةٍ أو إمكانياتٍ لصناعةِ نفسهِ كرمزٍ لسلطةِ الأبِ المركزيةِ كما صنعها والدهُ “الأبُ القائدُ، الأبُ المناضلُ، الأبُ الخالدُ” “رمزُ الأمةِ العربية”، وحافظَ فقط على استمراريةِ شعارِ خلودِ الأسديةِ الأبدي، وبضمنها التركيزُ على كنيتهِ “الأسد” كزعيمٍ وملكٍ أوحدَ لغابتهم.
بعدَ سحقِ حلب بدأ الترويجُ لصورةٍ أموميةٍ لجسدِ السلطةِ، عبرَ فيلمٍ دعائيٍّ لأسماءِ الأسد حملَ عنوان: “أمّ الكل”(7) في تلاعبٍ على المعاني، يدفعُ المتلقي للتساؤلِ: من هي أمّ الكل؟ أهيَ أسماء الأسد أم سورية؟!
تجسّدُ أسماء في الفيلمِ المذكورِ سطوةَ السلطةِ الحاكمةِ وغرورها وفوقيتها على النساءِ المستضعفاتِ الثكالى، التي استقبلتهنَّ واقفةً أعلى درجِ القصرِ، هنَّ في الأسفلِ، يحملنَ صورَ شهدائهن، يصعدنَ الدرجَ لتلقي عليهنَّ التحية. ثم تتتالى المشاهدُ وهي تلقي خطبةَ النصرِ، تقفُ وحدَها في منتصفِ الشاشةِ تارةً، وتارةً أخرى تظهرُ من خلفيةِ رؤوسِ الثكالى كمجاميع/ أرقام لا نسمعُ من أصواتهنَّ إلا همهماتٌ جماعيةٌ، أما حينَ ترصدُ الكاميرا صورهنَّ فلا تكونُ الصورةُ إلا جماعيةً… أجسادٌ لمجموعاتٍ يحركنَ رؤوسهنَّ إلى الأسفلِ بحركةٍ آليةٍ موافقاتٍ ومؤيداتٍ لخطبتها.
لم ينجحْ الأسدُ الابن في الترويجِ للبواتهِ “لبواتُ الأسدِ”(8)، كقناصاتٍ ومقاتلاتٍ، ولم يهتم الإعلامُ الغربيُّ بهنَّ كما احتفى بوحداتِ حمايةِ المرأة، المقاتلاتُ المنتصراتُ، اللواتي هنَّ أيضاً يخضعنَ لسلطةِ أبٍّ قائدٍ آخر، ويرددنَ: “حريةُ القائد الكردي عبد الله أوجلان تعني حريةِ المرأة”(9) و”لا حياة بدون القائد”(10) و “نحنُ لا نريدُ حريةَ المرأة بدونِ حريةِ القائدِ عبد الله أوجلان”(11)، اللواتي يضرمنَ النارَ بأجسادهنَّ كرمى لجسدِ السلطةِ في مناطقِ سيطرتهم “القائد آبو – أوجلان”، كما فعلت على سبيلِ المثالِ “هيفيدار سرحد” التي أضرمتْ النارَ في جسدها بتاريخ 15 شباط 2016 “استنكاراً للمؤامرةِ الدوليةِ على قائدِ الشعبِ الكردي عبد الله أوجلان”(12)، وتوفيت على إثرها في 6 نيسان، وأقامتْ لها وحداتُ حمايةِ الشعبِ والمرأة عرضٌ عسكريّ، وجاءَ في بيانهم الذي اعتبرَ أنَّ الشهيدةَ هيفيدار تحوّلت إلى شعلةٍ من نورٍ حولَ القائدِ آبو: “هذا القائدُ الذي سجنتهُ الدولةُ التركيةُ لإخمادِ نارِ الثورةِ في كردستان”، وأضافَ البيانُ أن هذا هو السببُ الذي “دفعَ الكثيرَ من الفتياتِ الكردياتِ إلى التمردِ بإضرامِ النيرانِ بأجسادهنَّ الطاهرة…”(13).
ثلاثيةُ الجسدِ المنضبط
تعيدنا صورُ التعذيبُ وأنماطهُ ومنهجيتهُ التي ارتكبها النظامُ السوريُّ تجاهَ محكوميهِ المتمردينَ/اتِ على “سلطتهِ الأبديةِ” أو التي يريدُ تأبيدها، إلى علاقةِ السلطةِ بالجسدِ، فالجسدُ يقعُ ضمنَ حيزِ السلطةِ السياسيةِ والدينيةِ، التي تخضِعُهُ بالعنفِ، سواء كان مادياً أو رمزياً أو نفسياً، لعقابهِ وتأديبهِ أو لتحييدهِ.
إنَّ ثلاثيةَ صناعةِ الجسدِ المنضبطِ والخاضعِ لبنى الهيمنةِ؛ يلزمهُ بالضرورة:
1- مجتمع يملكُ سلطةَ الرقابةِ ويصنفُ الناسَ؛ جيد/ سيئ، وطني /عميل، مؤمن/ كافر، فاضلة وعفيفة/ متمردة وعاهرة، كامل/ ناقص، متسلط/ راضخ، زعيم/ تابع …إلخ.
2- قوانين لقمعِ الأجسادِ والأفكارِ وحبسِ الأنفاسِ والحرياتِ وتغييبِ الحقوقِ.
3- سلطة متغولة متوحشة لها قطيعٌ من المراقبينَ/ المخبرينَ يتغلغلونَ في الحيزِ العامِّ، وفي كثيرٍ من الأحيانِ في الحيزِ الخاصّ، لتشعرَ برهبةِ السلطةِ الحاضرةِ والمحسوسةِ التي تراقبُ بشكلٍ مستمرٍ ومتواصلٍ.
حصيلةُ هذه الثلاثيةِ أفرادٌ/ مجتمعاتٌ تذوبُ في خطاباتِ الديكتاتورِ والفقهاءِ، ويغيبُ إعمالُ العقلِ والحوارُ، ويسودُ التحجّرُ والجمودُ، ويحضرُ الخواءُ والتخوينُ والتكفيرُ والتحريضُ والعنفُ في كلِّ مكانٍ، ويتسيّدُ شُطارٌ انتهازيون ونِّحَلٌ غوغائيةٌ، ويُنصّبُ السفيهُ والجاهلُ في مراكزِ القرارِ، وينزوي ذو المعرفةِ والعلمِ والخبرةِ في زوايا النسيان.
وكما يدفعُ الاستبدادُ السياسيُّ إلى صدارةِ منظومةِ القمعِ النساءَ والرجالَ الأكثرَ انضباطاً وولاءً للطبقةِ القامِعةِ، تُعلي مجتمعاتُ الرقابةِ من شأنِ الخاضعاتِ/ينَ لسماتها، أما المتمرداتُ/ونَ على منظومةِ القمعِ وغيرُ المصنفاتِ/ينَ ضمنَ معايير منظومةِ الفحولةِ، فيتمُّ تحويلهمْ إلى أقليةٍ؛ في أحسنِ الأحوالِ منبوذينَ وفي أسوأها مضطهدينَ و مُعنَفينَ ومصنفينَ في قاعِ السلمِ الاجتماعيِّ المتخيّل.
هتكُ حرمةِ الجسدِ عبرَ عنفِ القوانين:
تعكسُ الدساتيرُ والقوانينُ علاقات الهيمنةِ للسلطةِ، وما تحليلها إلا لكشفِ أبعادِ تلكَ الهيمنةِ ودلالاتها.
في سورية، كرّسَ الدستورُ والقوانينُ العنفَ المؤسسَ والمنظّمَ للتراتبيةِ والهرميةِ داخلَ المجتمعِ ولسلسلةِ الثنائياتِ التي تطوقُ كلَّ جنسٍ.
وبقدرِ ما أصرّت السلطةُ السياسيةُ الاستبداديةُ خلالَ الثورةِ على هتكِ الجسدِ والكرامةِ، للنساءِ والرجالِ، إلا أنَّها مع السلطة الدينية عملتا على دسترةِ الطاعةِ وقوننةِ الاضطهادِ واستباحتا جسدَ المرأةِ عبرَ إخضاعهِ لقوانينَ جذّرتْ أعرافاً وأحكاماً دينيةً تعتبرهُ شرفاً ذكورياً وملكاً لحراسِ الفضيلةِ والعفةِ، ذكور العائلة/ القبيلة، وجبَ إخضاعُه وضبطهُ، يتمثّلُ ذلكَ على سبيلِ المثالِ في قانونِ العقوبات: “للمحافظةِ على شرفِ إحدى فروعهِ أو قريباتهِ حتى الدرجةِ الثانية” (المادة 531)، أو في إفلاتِ المغتصبِ من العقابِ إذا تزوجَ الضحيةَ، كما يتجسّدُ أيضاً في قانونِ الأحوالِ الشخصيةِ العامِّ الذي أقرَّ انتهاكَ خصوصيتها وحرمةَ جسدها بمراقبةِ طمثها (المادة 121)، والحَجْرَ عليها من خلالِ مفهومِ “العدة” الذي أفردَ له القانونُ ذاتهُ أحكاماً وموادَّ متعددة.
يستندُ جوهرُ قوانينِ الأحوالِ الشخصيةِ إلى الهيمنةِ على الجسدِ لضبطهِ إن استعلى، من خلالِ معنى النشوز(14) وفقاً للمادة الخامسة والسبعين منه، وإن تمردَ وجبَ تأديبهُ “لوليّ الأنثى المحرم أن يضمّها إلى بيتهِ إن كانت دونَ الأربعينَ من العمرِ ولو كانت ثيباً، فإذا تمردت عن متابعتهِ بغيرِ حقٍّ فلا نفقةَ لها عليه” (المادة 151).
ثنائياتُ الأضدادِ التي تطوقُ كل جنسٍ، وجدتْ طريقها في معنى الوطء/ الجماع، أي الاستعلاء/الارتفاع مقابل الاستفال/الانخفاض، فمعنى الوطء هو: “وطئ الأرضَ إذا وضعَ رجلهُ عليها ووطئ الفرسُ إذا اعتلاها، ووطئ زوجتهُ إذا جامعها وإنما سمي بالوطء لأنَّ الجماعَ فيه استعلاء”(15).
وكلُّ تلكَ المعاني لها ما يماثلها في الثقافةِ المجتمعيةِ، فجسدُ المرأة هو الأرضُ/ الرحمُ التي يزرعُ الذكرُ فيها البذار، ويقودُ الفحلُ جسدها كما يقودُ الفرس، واستعلاؤهُ في الجماعِ لأنه ينسجمُ “مع النظامِ الاجتماعيِّ ومع البنى الذهنيةِ المتحكّمةِ في الجماعةِ التي كانت ترى أنَّ (المرأة هي الأرضُ المزروعةُ) وأنَّ الرجلَ (استأجرها بالمهرِ كما يستأجرُ الأرضَ) ليحرثَ فيها ويُلقي بذره. وبناءً على ذلك، اعتبرَ استلقاءُ المرأة وعلوّ الرجلِ عليها (من تمامِ قواميّة الرجلِ على المرأة)”(16).
تَرَسّخَ مفهومُ الوعاءِ المستأجرِ لجسدِ المرأة بالمهرِ الذي أفردَ له القانونُ أحكاماً متعددة، ومنها أنه إذا كانت البضاعةُ مغشوشةً –الجسدُ فاقدٌ عذريتَه –”إذا تزوجَ شخصٌ بنتاً على أنها باكر ثم ظهرَ أنها ثيبٌ فإن كان عالماً بذلكَ قبلَ دخولهِ بها فليسَ لهُ حقُّ المطالبةِ بشيءٍ من المهرِ أو الجهازِ، وإن لم يعلمْ ذلكَ إلا بعد الدخولِ بها فلهُ استرجاعُ نصف المهر…” (المادة 307/ د)، وحينَ استخدمَ المشرّع “أجرة الحضانة” (المادة 142) و”أجرة الرضاع” (المادة 102) وهي مهنةٌ تمَّ استحضارها من عصورٍ قديمةٍ، و لا أجدُ أقوى من رمزيةِ معنى حجبِ ولايةِ المرأةِ على أطفالها، فهي حكراً على الأبِ ثمَّ الجد العصبيّ ثمّ للعصباتِ من الذكورِ (المادة 170).
تحوي المنظومةُ القانونيةُ بحراً من الاضطهادِ للمرأةِ، وأجدُ أنَّ تجاهلها بذريعةِ أنها سرديةُ خطابِ موجةِ النسويةِ الأولى قد يحرمنا من تحليلها اجتماعياً وسياسياً كإطارٍ لحراسةِ الهيمنةِ الذكورية.
إنَّ حفرياتِ جذورِ العنفِ تجاه الجسدِ في ثقافتنا وتراثنا يجب أن يُسلّطُ الضوءُ عليها تفكيكاً ونقداً، كمفاتيحَ لفهمِ قعرِ العقليةِ الذكوريةِ المهيمنةِ، وبضمنها العقليةُ الفحوليةُ ودلالاتها وتمثلاتها ومخيالها؛ والثنائياتُ التي تفرزها وتتسيّد كلَّ المجالاتِ والطبقاتِ في الحيزِ العامِّ والخاصّ، وتغوصُ عميقاً وتجلبُ معها مفاهيمَ طاردةٍ لقيمِ المواطنة.
سيساهمُ هذا التفكيكُ والنقدُ في تحوّلِ مجتمعاتِ الانضباطِ والرقابةِ وأدواتها التأديبيةِ وما تنتجهُ من تراتبيةٍ وأدوارٍ اجتماعيةٍ وعنفٍ إلى مجتمعاتٍ تُعلي قيمَ حقوقِ الإنسانِ وحريتهِ في أفكارهِ وجسدهِ وضميرهِ، فالتغييرُ الاجتماعيُّ وتغييرُ العقلياتِ عادةً ما يتمُّ ببطءٍ وبالتدريجِ، ولكن بإمكانِ العقلِ النقديّ إحداثَ قفزاتٍ بإنتاجِ خطابٍ بديلٍ يتمُّ تداولهُ في الحقولِ الفكريةِ.
الهوامش:
1- هيومن رايتس ووتش، كشف النقاب عن مراكز التعذيب، 3 يوليو 2012: https://www.hrw.org/ar/news/2012/07/03/246821
2- هيوم رايتس ووتش “الهجمات على الغوطة” 10 سبتمبر 2013: https://www.hrw.org/ar/report/2013/09/10/256469
3- المصدر “وحوش بشرية: هكذا يعمل شبيحة الأسد” 26 نوفمبر 2014: http://www.al-masdar.net/%D9%88%D8%AD%D9%88%D8%B4-%D8%A8%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%87%D9%83%D8%B0%D8%A7-%D9%8A%D8%B9%D9%85%D9%84-%D8%B4%D8%A8%D9%8A%D8%AD%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%AF/
4- فيسبوك “شبكات أخبار سوريا المتحدة 19/ 5/ 2012.:
https://www.facebook.com/page.F.S.N.N/photos/basw.AbqsmObSgc0FhucFuKI7VX643Rx0TULDqapanAGSEz–YUe2VW1ZdEQw0wq8NB53at-HD9Ow5tzzsSVdOcO-1r1A626hC_22_Es0RCRlEOckSWan2omH03m-yBeU2d3dhPR3PDk3OJi-PzmAqGJzgpPWPZs72ZmduFkWSC4X3da1OEfb8ziO5zSqTW_SZ5MsKHPA7seAZUZn5WN0p9tL_6z6vk8dlXwONo-w6_j6Lt4_Xpwa4Y3xkeeGW8GBmYRtXGchOz9c8yaU8kqRu4MlAlVY2L1te4-3KdWyg18g_9L00A.381973735173010.487074284685901.553326694695547.1386613918243770.419843444748618.1424958410863137/381973735173010/?type=1&theater
5- أخبار السوريين “عصام زهر الدين يسابق (أبو عزرائيل) في حفلات تقطيع الجثث” 16 مايو 2016.
https://www.syriansnews.com/2016/05/%D8%B9%D8%B5%D8%A7%D9%85-%D8%B2%D9%87%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D9%8A%D8%B3%D8%A7%D8%A8%D9%82-%D8%A3%D8%A8%D9%88-%D8%B9%D8%B2%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84-%D9%81%D9%8A-%D8%AD%D9%81/#prettyPhoto/0/
6- يوتيوب “العميد عصام زهر الدين غريندايزر قوات النظام بديل جامع جامع يجر جنزير دبابة” نشر في 19/ 10/ 2013.
آخر مشاهدة 11/ 22/ 2017: https://www.youtube.com/watch?v=7YWYf7-5eTA
7- يوتيوب “أم الكل” 21/ 3/ 2017: https://www.youtube.com/watch?v=PMgim4wQrqE
8- صفحة عاجل الإلكترونية “لبوات الأسد قناصات سوريات لحماية النظام في ضواحي دمشق” 6 مارس 2015: http://www.ajel.sa/international/1544961
9- زلال جكر: حرية القائد الكردي عبد الله أوجلان تعني حرية المرأة، 17 حزيران 2014: http://www.kjk-online.org/arabic-%D8%B2%D9%84%D8%A7%D9%84-%D8%AC%D9%83%D8%B1-%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A7%D8%A6%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D8%AF%D9%8A-%D8%B9%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87/?lang=ar
10- وكالة أنباء هاوار “مظاهرات حاشدة في الجزيرة تطالب الحرية لأوجلان” 17/ 5/2017.
http://hawarnews.com/%D9%85%D8%B8%D8%A7%D9%87%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%AD%D… /
11- حرية القائد آبو هي حرية البشرية جمعاء، 9/ 8/ 2017. أثناء تنظيم مؤتمر ستار في عفرين، قالت ثريا مصطفى “…نحن كنساء نقول لا نريد حرية المرأة بدون حرية القائد عبد الله أوجلان”.
https://www.gazetesujin.net/ar/2017/08/%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A7%D8%A6%D8%AF-%D8%A2%D8%A8%D9%88-%D9%87%D9%8A-%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%AC%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%A1/
12- وكالة أنباء هاوار “أهالي كوباني يشيعون جثمان المناضلة هيفيدار سرحد” 26/ 4/ 2016.
http://www.hawarnews.com/%D8%A7%D9%87%D8%A7%D9%84%D9%8A-%D9%83%D9%88%D8%A8%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D9%8A%D8%B4%D9%8A%D8%B9%D9%88%D9%86-%D8%AC%D8%AB%D9%85%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%A7%D8%B6%D9%84%D8%A9-%D9%87%D9%8A/
13- مركز إعلام وحدات حماية المرأة “الشهيدة هيفدار تحولت إلى شعلة من النور حول القائد آبو” 20 نيسان 2016: http://ypjrojava.com/ypj/ar/category/pakrewan/page/2/
14- وضح قانون الأحوال الشخصية العام معنى النشوز في المادة 75 “الناشز هي التي تترك دار الزوجية بلا مسوغ شرعي أو تمنع زوجها من الدخول إلى بيتها قبل طلبها النقل إلى بيت آخر”.
15- المعاني: https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D9%88%D8%B7%D8%A1/
16- كتاب “الاختلاف في الثقافة العربية الإسلامية – دراسة جندرية” لآمال قرامي، المدار الاسلامي – صفحة 685.