ميكروسيريا- لا شك في أن أي فعل إنساني يُجبر الآخر إجبارًا متعمدًا على اتخاذ سلوك، أو تصرف غير راض عنه، إنما ينتج عن ترهيب من خلال القوة البدنية، أو قوة السلطة المعنوية التي يتمتع بها الفرد أو المجتمع، هو عنف يمارس إما ممارسة روتينية ومقصودة، أو ممارسة استثنائية وطارئة، وعلى هذا بعض العنف قد تكون آثاره دائمة أو موقتة.
المرأة في مجتمعنا السوري، بوصفها الحلقة الأضعف لأسباب مُختلفة، هي الأكثر عُرضة للعنف، والأكثر تحملًا له وصمتًا على أوجاعه، والأكثر تأقلمًا مع حالاته العديدة، إن كان داخل الأسرة، أو في المجتمع عامة، وهنا قد تندرج أنواع عدة من العنف، بحسب نوع الأذى (الأذى الجسدي، الأذى الجنسي، والأذى النفسي).
تتعرض المرأة في مجتمعنا للأذى الجسدي المباشر، من خلال استعمال القوة البدنية ضدها، سواء أكان بالضرب البسيط لغاية (التأنيب)، كما يظن من يمارسه، أو الضرب المبرح الذي يترك آثارًا مديدة على جسدها، وهذا تبدأ ممارسته بحقها في سن مبكرة من الأب أو الأخ أو الأم قبل الزواج؛ ليأتي بعد الزواج نوع آخر من العنف، يُمارس عليها من الزوج، وفي بعض الأحيان من بعض أفراد أسرة ذلك الزوج، وعامة، فإن تعرّض الفتاة للضرب، قد يكون خطوة في طريق تعرضها لدرجة أكبر من العنف، وهو القتل وإزهاق الروح.
ترى الأمم المتحدة أن العنف ضد المرأة هو “أي فعل عنيف تدفع إليه عصبية الجنس، ويترتب عليه، أو يُرجّح أن يترتب عليه، أذى أو معاناة للمرأة، سواء من الناحية الجسمانية أو الجنسية أو النفسية، بما في ذلك التهديد بأفعال من هذا القبيل، أو القسر أو الحرمان التعسفي من الحرية، سواء حدث ذلك في الحياة العامة أم الخاصة”.
العنف الجسماني الذي يُمارسه -عامة- الرجل، مستعملًا قوته البدنية وسطوته التي منحها له المجتمع، هو أحد أهم أسباب تبعية المرأة له واستكانتها لما يجري بحقها، وهي التي يعدّها الرجل في العديد من البيئات، مكسبًا وتميزًا، بل حقًا له، وتقول الأمم المتحدة في إعلانها الخاص حول القضاء على العنف ضد المرأة، والذي اعتمدته الجمعية العامة في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1999، بأن “العنف ضد المرأة هو مظهر لعلاقات قوى غير متكافئة بين الرجل والمرأة عبر التاريخ، أدّت إلى هيمنة الرجل على المرأة، وممارسته التمييز ضدّها، والحيلولة دون نهوضها الكامل، وأن العنف ضد المرأة هو من الآليات الاجتماعية الحاسمة، التي تفرض بها على المرأة وضعية التبعية للرجل”.
إن طريقة تبعية المرأة للرجل، هو المؤشر الذي يقود إلى فهم أسباب العنف الممارس وغاياته، ولأن الأعراف الاجتماعية هي قانون غير مكتوب، فهي الغطاء الذي يتلحّف به الرجل في ممارسة هذا السلوك العنيف، ويبدأ من مفهوم الحلال والحرام، والعيب الذي يتخطى حاجز العادات والتقاليد المرعية، وما إلى ذلك، وغالبًا ما تكون التفسيرات لهذه المسائل شخصية وليست دقيقة، وتتبع ثقافة البيئة، وليس الإدراك القانوني والإنساني، وتستعمل لغايات ذاتية تتعلق برغبة الأنا لدى من يمارسها.
فالعنف الجسماني داخل العائلة أو الأسرة، يبدأ بمحاولة فرض تربية على الأنثى، مختلفة -غالبًا- عن التربية التي ينالها الذكر، وتختلف أيضًا مدى حدّتها من بيئة إلى أخرى، إن كان بين الريف والمدينة، أو بين الأحياء الفقيرة والغنية.
عمومًا؛ فإن البيئات المتعلّمة، أقل حدة في ممارسة العنف، وفي بلد مثل سورية، لا يمكن الاستناد إلى أي دراسة، أو الأخذ بنتائجها، وذلك؛ كون إحصاءات النظام، تحاول إظهاره صاحب مشروع حضاري، يسعى لتطوير الدولة والمجتمع، وهو الحريص -كأي نظام أيديولوجي مبني على القمع- على تزوير الأرقام؛ لإظهار مستوى جيد من النمو في المجتمع.
إن دور المرأة الخدمي داخل بعض المنازل، المصوَّر على أنه واجب من واجباتها، هي ما تتعلمه منذ الطفولة، بتلبية طلبات الأب والأخ والمنزل عامة، وتكريس مفهوم أن الذكر ليس له علاقة بتلك الخدمات، وتُعنّف بطرق شتى لتتقن هذه المهمة، وتكون مؤهلة للزواج، وأي خطأ في سلوكها العام يمسّ الشرف قبل الزواج؛ حتى وإن لم يكن حقيقة، ومبني على الوشاية الكاذبة، قد يؤدي إلى قتلها.
يبدأ التعنيف بامتهان الكرامة وتوجيه الشتائم، إلى عقوبات وموانع غايتها التأنيب، وهذا قد يتطور إلى تعذيب جسدي ومعنوي كبير، مبني على علاقات غير متكافئة بين الطرفين في الأسرة، ومرجعه اجتماعي واقتصادي، وهي تنطلق من مفهوم السلطة الأبوية، فالذكور في البيت بغياب الأب، لهم أن يمارسوا السلطة الأبوية، بكل معطياتها المادية والمعنوية في البيئات التي تُعنّف فيها المرأة.
تعاني المرأة في بيت الزوجية من القوانين ذاتها التي فرضتها السلطة الأبوية في المجتمع الذكوري، وهي عُرضة للعنف اللفظي والجسماني، يضاف إليه العنف الجنسي الذي قد تناله من زوجها بحجة حقوق المعاشرة الجنسية، وهو حق له، وهي الأداة لحدوثه، وتُعرّف منظمة الصحة العالمية العنف الجنسي بأنه “أي علاقة جنسية، أو محاولة للحصول على علاقة جنسية، أو أيّ تعليقات أو تمهيدات جنسية، أو أيّ أعمال ترمي إلى الاتجار بجنس الشخص، أو أعمال موجّهة ضدّ جنسه باستخدام الإكراه، يقترفها شخص آخر، مهما كانت العلاقة القائمة بينهما، وفي أيّ مكان”.
وتُضيف منظمة الصحة العالمية في هذا السياق: “إن من عوامل الخطر المؤدية إلى اقتراف العنف الجنسي، المعتقدات الخاصة بشرف الأسرة والعفاف، والدعوات إلى تلبية استحقاقات الذكور الجنسية، وضعف العقوبات على مقترفي العنف الجنسي”، كذلك تُشير إلى وجود علاقة قوية “بين تدنّي مركز المرأة، مقارنة بمركز الرجل، واللجوء المنهجي للعنف؛ من أجل تسوية النزاعات، وبين العنف الممارس من الشريك المعاشر، والعنف الجنسي الممارس من أيّ شخص آخر”.
بين العنف الجنسي والعنف الجسدي والعنف اللفظي، يقع ارتداد العنف النفسي الممارس عليها، وهو عمليًا يعدّ عنفًا غير مرئي، تتعرض له النفس البشرية، يقودها إلى آلامها الداخلية الخاصة، بكل ما يشمله ذلك من أمراض نفسية، لها علاقة بالاكتئاب والإحباط والقلق، والتوتر والانفعال، أو حتى سلوك ارتدادي آخر يدفع إلى اللامبالاة وعدم الاكتراث، لكن بعض العنف النفسي قد يقود -ربما- إلى الانتحار. وممارسة العنف النفسي، يتم من خلال سلوك موجه نحو المرأة، غايته التقليل من قيمتها وعدم الاكتراث لها ولمشاعرها، أو محاولة تخويفها واستغلالها، والتعاطي معها بنظرة دونية. يشمل هذا رأيها وحضورها وقيمة عملها وغيره، عدا عن الآثار النفسية الناتجة عن العنف الجسدي والجنسي.
هنالك عنف عام تتعرض له المرأة من المجتمع الذكوري المحيط، يرتبط بمحاصرتها المعنوية أينما تحرّكت، وهو مرتبط بثقافة المجتمع، كذلك عنف آخر ترتكبه الدولة بحقها إما من خلال القوانين، أو من خلال تغاضيها عما يقع بحقها من عسف واضطهاد، ويدعو بيان منظمة الأمم المتحدة الدول إلى أن “تدين العنف ضد المرأة، وألا تتذرع بأي عرف أو تقليد أو حسابات دينية، بالتنصل من التزامها بالقضاء به، وينبغي لها أن تتبع، بجميع الوسائل الممكنة، ودون تأخير، سياسة تستهدف القضاء على العنف ضد المرأة”.