جيرون- أن ترتدي المرأة الزي العسكري المرقط “المبرقع” أو “المموَه”، وتقف خلف المايكروفون لتذيع بيان عمليات قتالية، أو توَزع صورًا لها وهي بين صخور الجبال تنبطح وتأخذ وضعية التسديد على أهداف العدو، مشهدٌ فيه ما يبهر المشاهد، وبعض من يرى تلك الصور أو الفيديوهات -من المُنادين بحرية المرأة ومساواتها بالرجل- يمكن أن يبني عليها اعتزازًا وافتخارًا بولوج المرأة الطريق المُوصلة إلى مكانتها الطبيعية الإنسانية، في هذا الوجود البشري الذي نزع عنها منذ آلاف السنين إنسانيتها، وحوّلها إلى دمية بيد الرجل الذكر.
تشتهر الحركات الكردية بتقديم المرأة المقاتلة والمناضلة في مساحة كبيرة من الـ (ميديا)، والأكثر اعتمادًا على إبراز المرأة الكردية المقاتلة هو حزب عبد الله أوجلان في تركيا، وفرعه السوري “حزب الاتحاد الديمقراطي” الذي ظهر نشيطًا من خلال استفادته من انطلاق ثورة الحرية في سورية، واستغلاله الفرص التي أتاحها المنتفضون السوريون، ليقطف ثمارها لمصلحته الخاصة بمعزل عن الأهداف الشاملة لنضال ملايين السوريين، بل بتناقض معها.
سأضع جانبًا مسألة البرنامج السياسي للحزب، كما الملاحظات النقدية الجذرية على ممارساته في السنوات الست الأخيرة. أما ادعاءاته الفكرية “اليسارية التقدمية” فهي تتصل بجوهر موضوع المرأة الذي أتناول زاويةً منه في هذا المقال. الرسالة التي يريدها الحزب من وراء “مرآته الدعائية المحدَبة”، في تقديمه للنساء في صفوفه، في كل مناسبة، بما يوحي وكأن المرأة الكردية قد نالت حريتها في ظل سلطته القائمة على الاستبداد داخل مناطق سيطرته، هي رسالة موجهة للمجتمع الغربي ومؤسساته السياسية والحقوقية بلعبة “ذكية” -أو لنقلْ متذاكية- هدفها تمييز نفسه، “وقضية الكورد” من بقية شرائح المجتمع السوري، خاصة عمّا يصطلح عليه اسم “الأكثرية”. فهذه الأخيرة، تتعرض حقيقتها للتزييف بإلحاقها بالإرهاب، وبإحالة كل تهافت الإسلام السياسي إلى مسؤوليتها عنه، لمراكمة بروباغندا، مؤداها أن هذه الأكثرية نقيض الحرية والديمقراطية.
يعرف المنتمون إلى الحركات السياسية في بلادنا، وفي بلاد العالم، أن إشهار حرية المرأة من طرف ما، وتقديم نفسه حاملًا لقضيتها، يغري مؤسسات الغرب الحاكمة ومنظماته الحقوقية والإنسانية والثقافية، خاصة عندما تقدّم وسائل الاتصال والفضائيات المرأةَ ناطقةً رسميةً أو “جنرالًا” يقود معركة تحرير وحرية. ويُوظَف هذا الاستحضار المتواصل لصورة المرأة ليضيف رصيدًا لبرنامج هذه الأطراف، ولا يخدم رصيد حرية المرأة، إن لم أقل يتعيّش منه، حين ينتحل صفة النضال للتقدم والديمقراطية.
بعد كل معركة يخوضها “حزب الاتحاد الديمقراطي”، وأحيانًا من دون مناسبة مهمة، يطرح صورًا وفيديوهات، فيها نساء كرديات يرتدين الزي العسكري ويتنكبن البنادق، ويتحدثن كناطقات باسم الحزب، ومنظمته العسكرية “وحدات حماية الشعب” رأس حربة ما بسمى “قوات سورية الديمقراطية”. وهنا لا يختلف مشهد الإعلان بالزي العسكري الذي ترتديه المرأة، ومعه تمتشق السلاح، عن الميديا الرأسمالية التجارية التي توظف صورة المرأة في الدعاية لأفضل أنواع السيارات، ومعاجين الأسنان، والعطور الرجالية وشفرات الحلاقة وسوى ذلك.
في الميديا التجارية الرأسمالية يأتي الربح من توظيف صورة المرأة، بترويج السلعة وترغيب الجمهور بأنواع المنتجات المختلفة، وغالبًا ما يكون الافتراق بين طبيعة المنتج وبين تركيب المشهد الإعلاني الترويجي، فيصبح زجّ صورة جسد المرأة وصوتها وحركاتها إغراءً للمستهلك، ليستحسن السلعة وينبهر بها، وهكذا تتحول المرأة إلى شيء “تتشيأ” لتخدم احتكارات الصناعة والتجارة. ولا تختلف النتيجة في الميديا السياسية، حين يُقدم حزب أو دولة على الدعاية لسياسته، من خلال جعل صورة المرأة والفيديوهات مادة دعائية لفكر وسياسة ذلك الحزب؛ لتأكيد ادعائه بالتقدم والتحرر الاجتماعي والديمقراطية. إنها دعاية لترويج الغش؛ إذ إن الديمقراطية والحرية لا تُختزلان بمشاركة المرأة في حمل السلاح وارتداء “المبرقع”. فنساء “حزب الاتحاد الديمقراطي”، في فيديوهات الحزب عن “تحرير” (كوباني) ومنبج والطبقة، هن النساء نفسهن اللواتي قمن، في بداية النضال المدني السلمي من أجل الحرية للسوريين، بقمع تظاهرات عفرين والشيخ مقصود وأحياء أخرى في حلب، ومطاردة المتظاهرين، جنبًا إلى جنب مع قوات النظام، وأحيانًا بالنيابة عنه. وهن -بصفتهن عضوات في ما يسمى “قوات سورية الديمقراطية”- من شاركن في عمليات التهجير العنصري من المناطق التي سيطروا عليها. فكيف يمكن تمرير خديعة “التحرر والتقدم والديمقراطية” بمجرد أن تقدم الميديا التي يصنعها هذا الحزب صورًا لنساء، أمام الكاميرا يقرأن بيانات عن المعارك. وهنا يجب التذكير بأن وجود نساء في أحزاب شمولية، سواء كنّ مقاتلات أو ناشطات، لا يجعل من تلك الأحزاب أدوات تقدم وتحرر، ولا يعطيها الحق في ادعاء الديمقراطية وتحرير المرأة، بل على العكس تمامًا فهذا السلوك يكرس تبعية المرأة لمؤسسة أو نظام يسعى للاستبداد وخنق الحريات، وفي ظل الاستبداد وقمع الحريات تكون المرأة الضحية الأبرز في المجتمع.
سلطة بشار كانت قد أدلت بدلوها منذ بداية الثورة، حين أعلنت عن “قوات الدفاع الوطني” وانضم إليها مئات وربما آلاف النساء، وظهرت صورهن بالسلاح والمبرقع، لكنهن انخرطن في قمع الشعب، بمن فيه النساء الناشطات؛ فهل يقبل العقل أن تُعدّ هذه النساء “مناضلات” لتحرير المرأة؟ وقبل ذلك، في مرحلة الثمانينيات أسس رفعت الأسد كتائب نسائية مسلحة، ومنها “فرقة مظليات”، وكنّ يتبخترن في شوارع المدن لزرع الخوف في نفوس المواطنين. وفي العالم تجارب كثيرة، كانت “المرأة المسلحة” مرتدية المبرقع، وليس هذا أكثر من تسليع المرأة مرتين: مرةً باستخدام طاقتها للدفاع عن الاستبداد، ومرة أخرى بتوظيف صورتها لتكون قناعًا للتقدم المزيف. وبالنسبة إلى قوات “وحدات حماية الشعب” التي يقودها “حزب الاتحاد الديمقراطي” فلا يموِّه على طبيعتها الشمولية القمعية إبرازُ المرأة المسلحة تقاتل تحت رايتهم؛ إنه تسليح للمرأة بغرض تسليعها.