علاء يونس/ مركز المواطنة المتساوية- الزمان، والمكان، والأشخاص، ثالوثُ تثبيت المعلومة، وأساس استقرارها المستدام الذي يركزها معرفة ثابتة، ونظرية مبرهنة يمشي على نهجها البشر، وتصلح للتطبيق أينما كان.
«إنك تتنبأ لي بأن أخطائي مُعرّضة من بعدي لأن تُصبح محلّ عبادة، شأنها شأن رفات القديسين. هذا يضحكني للغاية، لكنّي لا أظنه سوف يحدث. على العكس، أظن أنّ خلفائي سيسارعون إلى هدم كلّ ما ليس مسنداً ممّا سأتركُ ورائي .. »، ( من رسائل فرويد لصديقه).
إنّ فرويد، ونيتشه، وأرسطو، وشوبنهاور، وكونفوشيوس، والأنبياء، والرسل، وأئمة الفقه واللغة والدّين، وعظماء الفلسفة البشرية، ليسوا مجرّد أشخاص عابرين على الحالة الفكرية والتاريخ الحضاري التراتبي الذي عايشه الإنسان، فأغلبهم كانوا منارات فلسفية وفكرية، ومشاعل معرفية دينية، اعتنق وتبنّى زبدها غالبية البشر. لذلك، حين نصطدم برأي أو موقف مخالف لما نحن عليه مُتّخذ من قبل إحدى هذه الشخصيات، لا نستطيع أن نتجاوزه، أو الاكتفاء بانتقاده وإظهار مدى سلبيته ومخالفته للمنطق الواقعي الذي نعيشه حالياً.
إنّ التاريخ، وكما هو متعارف عليه، يكتبه الأقوياء. أمّا الضعفاء المقموعين فغالباً ما يكونوا طيّ النسيان. فنحن دائماً ما نقول رجالات الفكر، ورجالات السّياسة، ورجالات الدين. ولا نقول أناس الفكر، والسياسة، والدين، في مصطلح قد يشير ويجمع بين احتمالية وجود نساء عظيمات ساهمن في بناء التاريخ والحضارة البشرية. وهذا المصطلح لا يمكن تقزيمه ورميه في خانة اللّغة، ولعبة التّفخيم اللّغوي، أو إسناده إلى الاختلاف بين اللّغات وحسّاسية الترجمات والنقل من لغة إلى أخرى. فليس هناك في أي لغة، مصطلح أو مفهوم دارج ومتداول يشير إلى تأثير أو وجود المرأة في البنية الفكرية التى أسسها الإنسان، وبالتالي لا يختلف اثنان على أنّ التاريخ، بما أرخى من ظلال إيجابية وسلبية على الحضارة الإنسانية، هو صنيعة الرّجال. الرّجال، والرّجال فقط. والنّظرة التفاؤلية التي نتغنى بها حالياً عن وجود نساء عظيمات في التاريخ، ما هي إلاّ مسكنات لتخدير المرأة، ولعبٌ على المشاعر الحسّاسة، التي تُحبط أحياناً، وتشحذ الهمم أحياناً أخرى.
إذاً، وقبل الخوض في تداول وبحث الأفكار المناهضة للمرأة على مرّ التاريخ، لا بدّ أنْ نقف وقفةً جريئة، لنقول أنّ المرأة في التّاريخ، منذ النّشأة وحتّى وقت قريب، هي في أسوأ حالاتها من قمعٍ، وتبعية، وتطرّف، وتعامل دونيّ لا يرْقى إلى أبسط الحقوق الإنسانية. وفي أفضل الحالات، عند بعض الحضارات القديمة، كان التّقديس مُقتبسٌ من الخصوبة، والأمومة، والجنس فقط. لا من جهة الفكر والأفكار، والتّعاطي معها على أنها إنسان كامل، بحقوق وواجبات مساوية للرّجل، كندّ وشريك.
وبمرور سريع على تاريخ التعاطي مع المرأة في الحضارات المتعاقبة، لن يكون من الصعب قراءة كلّ هذا الكمّ الكبير من القمع، والإقصاء، والدونية. ففي شريعة حمورابي، كان للزّوج الحقّ في أنْ يُخرج زوجته من بيته ويعاملها معاملة الجارية إنْ لمْ تُطعه. ويُعدّ الآشوريون من أقدم الشعوب التي فرضت الحجاب على المرأة، بما في ذلك من انعكاسات عن الوسط البيئي التي عاشت فيه المرأة حينها. وكذلك الحضارة الإغريقية، وبرغم عراقتها، فقد حرمت المرأة من حق القراءة والكتابة، وكانت ملكاً لأبيها، ثم لزوجها. وكذلك الحال في الحضارة الرومانية، فقد كانت الأنوثة من أهم أسباب عدم ممارسة الأهلية المقننة في قانون الألواح الاثني عشر، إضافةً إلى السّن والحالة العقلية. أي أنّ الأنوثة تساوت كشرط لسقوط أهلية الشخص مع الجنون، والعته، والقصر !. وحتّى في الحضارة الفرعونية، والتي كرّست إلى حدّ ما بعض الحقوق للمرأة، كانت النمطية هي الرائجة. فالمرأة مهما كانت، فهي مجرد رمز للخصب والجمال، وإن اتخذت كإله فإنها ستكون كإيزيس آلهة للجمال. وقس على ذلك في الحضارات الشرق أوسطية، وحضارات الشرق الأقصى كالهندية، وشرائع مانو، والحضارة الصينية في فلسفة كونفوشيوس، أو الفارسية الزرادشتية، وغيرها من الحضارات التي بنيت وتأسست على الثقافة الدّينية السّماوية. ففي البدء كان هناك تفاحة التي ما إن سقطت بيد حواء حتّى تلونت بالخطيئة والكيد، ضلعٌ قاصر مجزوء يحنّ إلى الأصل ومشاركة الخطأ معه. أغوت آدم على خطيئة أكل التفاحة، والاستمرار على قيد الوجود، ومناكفة الآلهة على فكرة الأبدية، فأهبط الاله آدم وحواء إلى الأرض بعد أن ابتلاها بمشقة الحمل، والولادة، والمخاض.
ما سبق ليس نصاً أسطورياً، أو قصّة من نسج الخيال في قصيدة شعر قديمة لا تؤثر على الواقع ومجريات التعامل مع المرأة، بلْ هو بمثابة نصّ واقتباس يُحدّد ويؤسّس لطبيعة العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة، فغالبية البشر الموجودين حالياً، من كافة الأديان والمعتقدات، وإن لم يتبنوا هذه الفكرة بحرفيتها، فقد تأثروا بها في مرحلة ما، أو تربوا على قصص من وحيها، وتقمصوا مفهوم الخطيئة البشرية في هيكل تفاحة صغيرة عُلّقت في حلقهم بسبب حواء، وحرمتهم بالتالي من لذة الأبدية.
وبغضّ النّظر عن فرضية النّشأة، إنْ كانت هبوطاً أم انفجاراً، فالدّراسات ماقبل التاريخية تُشير إلى التواجد النمطي للمرأة في المخدع الآمن، تواجدٌ يُحاكي ضرورات الفيزولوجيا للإنسان البدائيّ، الذي وبحكم طبيعة الرّجل فيه، وعدم مشاركته الفاعلة في الحمل والإرضاع، دفع به للخروج من المغارة أو الكوخ بحثاً عن الطعام لزوجته وأولاده، ممّا وطد تدريجياً النّمط التقليديّ لنموذج المرأة المتعارف عليه حالياً (الأم، الولاّدة، المُرضعة، الحنون، المتفرّغة للعمل داخل مغارتها، ومع أولادها، بعيداً عن الزراعة، والصّيد، وقيادة الأسرة في الخارج)، ومع التّطور التّدريجيّ لبنية المجتمع، وبدء ظهور بوادر السّلطة المتمثلة بالتعاليم الدينية البدائية التي ركزت سلطة الفرد الأب القائد للأسرة أو العشيرة، حُشرت المرأة أكثر وأكثر ضمن المفهوم النمطي للأم، غير القادر بحكم الطبيعة والإمكانات الجسدية المتاحة على القيام بأيّ عمل خارج دائرة الأمومة والتربية الضيقة.
ومع تشابك العلاقات البشرية، وبدء فكرة التّنافس والصراع، وحلول الفكر الدّيني كأداة تُسيّر حياة عموم البشر، بدأت حالة المرأة تخرج من قالب النمطية الاعتيادية المستند إلى فكرة الأمومة، متحولةً إلى جوهر قائم بحدّ ذاته على فكرة استعباد المرأة بحجة التبعية للرّجل، ولتأتي الأديان السّماوية الرّئيسة وتكون الضربة القاصمة للمرأة كإنسان مستقل قائم بحدّ كيانه وذاته، وبمعزل عن الرّجل الذي تبوأ سدّة الألوهة والزّعامة الدينية وفق نصوص الدّيانات المسيحية واليهودية والإسلامية، والتي رسّخت أفكار ما قبلها من الحضارات والمجتمعات.
وفي معرض كلّ ذلك وقفت المرأة المعاصرة التي تسعى إلى ترويج وإشاعة الفكر التحرّريّ، وتعمل جاهدة على كسب حقوقها كإنسان طبيعي، وقفت بين أنياب ثالوث تثبيت المعلومة، فهي في زمان يفرض معطيات ملحة تئن داخلها وتحثّها على فكرة الاستقلال، وبنفس الوقت الساعة البيولوجية التي بداخلها غير مقرونة أو مضبوطة بشكل دقيق، وتتجاذب عقاربها الأفكار الدّينية المقصية لها، إضافة إلى الكمّ الهائل من الأفكار الفلسفية التي أطلقها جهابذة علم النفس والاجتماع، أمثال فرويد، ونيتشه، وأرسطو. أشخاصٌ كانوا بحكم تجربتهم وأثرهم الإيجابي، والذي لا يمكن إنكار فضله على تطوّر مسيرة الحالة الفكرية البشرية، كانوا المكان والجغرافيا، أو بمعنى السّاحة التي لا يُمكن اللّعب إلاّ ضمن حدودها، لتقع المرأة المعاصرة في صراع تفترض فيه حكماً أنها الأضعف، وأنها ستخسر في معركة تخوضها أمام عمالقة علم النفس، المنفتحين والمتحررين أصلاً من سطوة الدّين المباشرة شكلاً، والذين يعتمدون على قداسة بعض الأفكار لفرض رؤيتهم بطريقة غير مباشرة على العامة من البشر الذين تبعوا، واستفادوا، وتنوروا بفعل أفكارهم ومعتقداتهم.
فالتّراكم الزّمني التّاريخي المؤسَّس على حالة النّمط المتكرّر للمرأة الأم، والمدعوم بالنصّ الدّينيّ والفلسفيّ، إضافةً إلى بنية جسد الأنثى المربكة بين اللّين أحياناً، والقوّة الخارقة أحياناً أخرى، كلّ هذا أفرز قناعة ترقى إلى درجة النظريات المسلم بها من الرّجال والنّساء، والنّقد السّطحي لهذه القناعة، والمبني في غالبه على شخصنة الأسباب المفرزة لها، ما خلق هامشاً عريضاً تضيع فيه كل الأفكار الصحيحة واجبة البحث والتقصي، فمفهوم حسد القضيب الذي أطلقه فرويد،وصاغه لوصف ظاهرة لاحظها عند النساء لا يمكن تسطيحه وإغلاقه ضمن خانة الحالة الفردية، أو حالة الشريحة غير العامة. ومن الظّلم لفرويد ولنتاجه الفكري أن يضيق مجال بحثه هذا في وصف معاناة أو خلل كانت تعاني منه نساء من المجتمع الحضري في القرن التاسع عشر،بالاستناد إلى أن المفهوم قد أسّسه فرويد من بحثه وعلاجه المقدم كاستشارات لتلك النساء في عيادته في فينا.
فنحن بذلك نكون قد حيّدنا الأثر التراكميّ لتركيز الصّورة النّمطية للمرأة، وسيطرة الفكر الدينيّ التقليديّ، وشيوعه في أساليب التّعليم والتّربية ضمن الأسرة، ونسفنا قرون وأعوام من الاضطهاد الذكوري للأنثى، والتّغني بفكرة الفحولة ذات المستند القضيبي الذي كان فيه القضيب رمز القوة والاستقلال والتفوق الذكوري على المرأة، بالتالي فإن وضع الأصبع أمام العين لا يخفي الشمس، ولا بدّ من الاعتراف بأن في خفايا هذا المفهوم شيء ملموس وموجود في واقع الحال، والمرأة بحلتها التقليدية أو المنفتحة، ونتيجة لعوامل التربية والضغط الديني، والامتيازات الممنوحة للرجل، ستجد نفسها أمام حالة استسلام تبعي للرجل، أو حالة منافسة تؤمن مسبقاً -نتيجة لعوامل كثيرة- أنها خاسرة بها ، ممّا يدفعها في العمق اللاشعوري إلى تبني فكرة الحسد، لا من أجل امتلاك قضيب والمبادرة في العمل الجنسي بالمفهوم الشائع، بل من أجل التمتع بالامتيازات والمفضلات التي اكتسبها الرجل لمجرد أنه يمتلك قضيب، فالخلل هنا ليس فيزولوجياً يعود إلى نقص في تركيب ما، بل هو خلل اجتماعي تربوي معمم بفكرة التقادم الطويل، ومعزز بالحال التفردي الاستقلالي الذي يعيشه الرّجل.
وهنا لسنا في معرض الدفاع عن مفهوم فرويد في حسد القضيب، بل نحن بحاجة إلى الإشارة للمكان الصحيح الذي يُخرج المرأة من دائرة احتمال رغبتها بتبني أفعال وأفكار تلبي حاجة الفرويديين في تثبيت صحة هذه النظرية، والتي إلى حدّ ما تُنافي العلم التشريحيّ الوظيفيّ الذي لم يكن فرويد على دراية تامة به، لذلك استبق وقال «إن خلفائي سيسارعون إلى هدم كل ما ليس مسنداً ..».
وانطلاقاً من كلّ ما سبق، نلاحظ أنّ وراء كلّ رجل ذكوريّ امرأة عظيمة في الذكورية، لا بل عدد من النساء الذكوريات اللواتي يدافعن بشراسة عن متابعة الطريق القديم المريح في مناحي عديدة للمرأة، حيث تستغل المرأة دورها النمطي من ناحية، وتستسلم أمام وطأة التعاليم الدينية والقيم الاجتماعية. وبالمقابل، يجد الرّجل نفسه أمام طريقيْن، طريقٌ شاقٌّ ومتعب يتحمل خلال السير به مغبّة معاندة المجتمع والدّين ومواجهة النّساء الذكوريات اللواتي لا يجدن التعامل مع الرجل النّسوي. وغالباً ما يُسئن الظنّ فيه، ويطعنن برجولته التقليدية الواجب عليه تقمصها، فعندما يتخلّى الرّجل النّسوي عن المميزات الاجتماعية التي يتحلّى بها كذكر، يُحارب حتّى من الكثير من النساء. كلّ ذلك مقابل طريق اعتيادي تربى عليه وأجداده يكون فيه الملك المسيطر والأمير المدلّل، محط الرّعاية والاهتمام والسّلطة المطلقة، لذلك يصعب الخيار، ويكون الاستسهال هو الحلّ في الغالب، خصوصاً حين يكون هناك جيش من النّساء والرّجال الذكوريين، بالإضافة إلى القيم والعادات التي تقف في مجابهته ومجابهة كل امرأة تريد الخروج عن القالب النمطي المرسوم.
إذاً، حين نريد الوصول إلى حلّ المشكلة، لا بدّ من الاعتراف أولاً بوجودها، ويجب أن يكون الاعتراف واضحٌ وصريحٌ ممن يُعاني المشكلة أولاً، على المرأة أن تقف وتصرخ قائلةً أنّها تُعاني من تراكم إشكاليّ تاريخيّ ليس منشئه الرّجل المقابل فقط، بلْ مردّه إلى التاريخ والحضارات والأديان. ولحلّ هذه المشكلة لا بدّ من إعادة النّظر بكلّ ما سبق من أحداث وأفكار، ولا بدّ من مداولة ومناقشة الأفكار التي حملها أشخاصٌ متنورين سبق واتخذوا موقفاً مناهضاً للمرأة. والأهم من كلّ ذلك، لا بدّ من صياغة قانون مدني حرّ ومنفصل عن الأفكار والمقدّسات الدّينية، قانونٌ يُحيّد الفكر الدّيني الإقصائيّ، ويخلق حالة من التمكين المساعد للمرأة الراغبة في العيش كإنسان، قانونٌ لا ينتظر أن يخلق بواسطة جماهير بعيون معصوبة تخاف الضوء. إضافةً إلى كلّ ذلك، التركيز على الجانب الاجتماعي والتربوي من خلال لغة الخطاب الجندريّ الواجب تضمينها في المناهج والأسس التعليمية، بما يُشعر الفرد بقيمته كنوع اجتماعي بمعزل عن جنسه. والأهم من كلّ ذلك، حرية الإنسان وشعوره الخالص بامتلاك ناصية حقوقه، فتحرّر المرأة يقتضي لزماً تحرّر جلاديها من الذّكور. واكتساب حقوقها يقتضي أن يكون الإنسان كنوع اجتماعي متمتع بكامل حقوقه. ففي المجتمعات التي تفتقر للعدالة الاجتماعية، وإلى أدنى حقوق الإنسان، من الصّعب جداً العمل فيها على واقع المرأة، حيث أنّ مفهوم الحرية لا يمكن تطبيقه في ظلّ قمع فكري واقع على الرجل والمرأة، فالحرّية مفهوم لا يتجزأ، يبدأ من الفكرة، مروراً بالكلمة، ويُكلّل ختاماً بالتطبيق.