المرأة السورية في سنوات المحنة
مشروع "ملكات سوريا" المسرحي السينمائي - صوت لاجئة سورية

خلود العيد/ دار الهلال- من يقلب صفحات التاريخ بحثا عن كلمات تصف كفاح المرأة السورية من أجل حقوقها، يبحر في عوالم من الصور والكلمات والمفردات، وتزداد الحاجة لهذا الإبحار في التاريخ في محاولة للوقوف على أصالة وعمق القِدم الذي يفسر صمود المرأة السورية اليوم في وجه تحديات تفوق الوصف. ومهما تكن الكلمات التي تصف معاناة وصمود المرأة السورية فإنها تفي حفيدات زنوبيا ـ ملكة تدمر التي ولدت عام 240 ميلادي وعرفت عند العرب باسم زينب أو الزَّبَّاء ـ حقهن.

يصف كثير من التقارير والمقالات مدى معاناة المرأة السورية في الصراع الدامي الذي أعقب الانتفاضات السلمية المطالبة بالتغيير في مارس 2011. وتعين على النساء في سوريا الانخراط في أدوار جديدة، ولكن أيضا لأن الثورة السورية قد قلبت الكثير من العادات والتقاليد الاجتماعية. فعلى مدار أكثر من خمس سنوات من الحرب، تحملت المرأة السورية قدرا وافرا من الأعباء تمثلت في الانتهاكات، الاعتقال والتشرد في مخيمات النازحين، إضافة إلى عبء فقدان الزوج أو الابن. ووثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقرير أصدرته في 20 مارس 2013 أن ما لا يقل عن 54 ألف سيدة فقدن أزواجهن، وأن 19 ألف امرأة اختفى أزواجهن قسرا ولا تعلم أي منهن إن كان زوجها سيعود أم لا.

ولم يقتصر الأمر على الداخل السوري، ففي تركيا التي تبلغ فيها نسبة النساء السوريات اللاجئات 68% من المجموع الكلي لللاجئين، تعتبر المرأة مسؤولة عن إعالة ثلث الأسر الموجودة هناك. ولا بد من معرفة أن نسبة كبيرة من النساء اللاجئات أتين من مجتمعات ريفية وعشائرية منسية لم تصلها التحولات التي مرت بها المرأة في مجتمع المدينة. كانت الحرب بمثابة اختبار للمرأة في مدى قدرتها على العيش باستقلالية، سواء كانت مرغمة على ممارسة هذا الدور الجديد أو برغبة منها، لكي يبرهن لأنفسهن أنهن لسن أقل كفاءة وقدرة من الرجل على الانخراط في الحياة المهنية، وبأنها تستطيع أن تتكيف مع كل الظروف الجديدة بوجود الرجل أو بمعزل عنه، وفي ظل وجود أطفال وسيكون من الصعب على أحد أن ينتزع منها الأدوار التي اكتسبتها وسيدرك المجتمع مستقبلا أهمية عدم تعطيل نصفه.

 على الرغم من الضغوط النفسية وموجات النزوح المستمرة في الداخل السوري، ما زالت المرأة السورية قادرة على خلق تغيير إيجابي في مجتمعها من خلال تفاصيل حياتها اليومية. ولعل مراكز مثل “النساء الآن” و”حراس”، و“مزايا” و”مركز توثيق الانتهاكات” و”شبكة الصحفيات السوريات” وغيرها من المؤسسات العاملة في الشأن النسوي والشأن السوري العام. وتلعب المرأة السورية دورا خاصا في بناء السلام في سوريا خصوصا من خلال مؤسسة “بدائل” التي تأسست عام 2013.

 وراء هذه الأرقام والمعطيات تقف شخصيات من لحم ودم شاهدات على ما جرى. سأسلط هنا الضوء على بعض من هذه الشخصيات من واقع الخبرة المباشرة كمثال لمئات آلاف الحالات التي لم تسمع قصصهن في الإعلام المحلي أو العالمي. من هذه الشخصيات نهى وجهينة وآمنة وسهام وليلى وخلود، ست مدرسات، تعملن معا في مدرسة الرضوانية الابتدائية والإعدادية، يمثلن التنوع الاجتماعي والثقافي في سوريا. نهى فلسطينية مسلمة من مخيم النيرب في حلب لديها أخ شهيد، وغير محجبة. وجهينة سورية والدها علوي ووالدتها سنية، والدها ضابط متقاعد، ومحجبة. وآمنة سورية من حلب وسنية حتى النخاع وترتدي “الباجاي” (النقاب السوري)، تسكن في أقدم الأحياء في حلب ووالدها يعمل جزارا. وسهام سورية شيعية مغتربة في حلب وهي غير محجبة. وليلى سورية كردية تسكن في منطقة الشيخ مقصود العامرة بالأكراد وهي غير محجبة. وخلود سورية مسيحية، تسكن في حي مسيحي في حلب، وبالطبع غير محجبة.

تجمعت الفتيات الست في مدرسة واحدة لا أسوار لها، حدود باحتها حدود القرية كلها عندما كان الوطن نسيجا من العرقيات والانتماءات المختلفة. وفي طابور الصباح صبية وبنات، يقفون معا كلهم أقارب أو إخوة من عائلة واحدة. وفي الصف المشترك بين ليلى وآمنة، ترى هاتين الصديقتين تتعاونان معا في تعليم الصفين الثالث والرابع الابتدائي، في غرفة واحدة تجمعهما، بسبب قلة حجرات المدرسة. تعلمان، تتعاونان، وتتقاسمان رغيف الخبز معا وقت الاستراحة. مضت سنة ونصف كوميض البرق في السماء، نُقلنا كلنا من بعدها إلى مدينة حلب، وتم تعيين كل واحدة منا في مدرسة مختلفة وحي مختلف، وأما صديقتنا سهام فقد عادت إلى جبلة مدينتها الواقعة على ساحل البحر المتوسط.

ونجاة التي عادت مع زوجها إلى حلب من العراق في ربيع عام 2003 هربا من الحرب وقد ربطت حول خصرها حزاما مليئا بالدولارات وارتدت القليل من ذهبها وملأت بعض الحقائب الصغيرة أوراقا مهمة وأشياء قيمة، لتواجه بعد سنوات طويلة الحرب التي تنثر الدمار والموت على بيوت الأبرياء والعُزل. وتجلس في منزلها مع زوجها على ضوء شمعة يتيمة، بينما يقطع صمتهما أصوات المدافع والقنابل، ولم يعد لديهما من الطاقة والعمر والمال شيئا ليرحلا إلى مكان آخر لكن زوجها رحل عن العالم ليدفن ليلا في جنح الظلام دون أن يُصلى عليه. كانت المقبرة على حدود حي الشيخ مقصود المسيطر عليه من قبل جبهة النصرة حيث لم يكن سهلا الاقتراب منه. من على السور رمى الحانوتي جثة أبو عمر فسقطت فوق جثث أخرى كان ذووها قد رموها قبلا. ثم ما لبثت أن هطلت أمطار نيسان “أبريل” على تلك الجثث. تحت الأمطار سارت نجاة وأختها هدى كطيفين غلفهما الظلام نحو بيت المسنين، حيث كانت هدى تعيش.

وفي منزل عائلة “ساكو” في مدينة الرقة في شمال سوريا في ربيع عام 2013، لم تكن أم “ساكو” قلقة في حياتها، مثلما هي قلقة في هذه اللحظات. كانت تنهب الأرض بقدميها جيئة وذهابا، والعشاء قد برد أمام زوجها أبي “ساكو” الذي قبع في بطانيته الصوفية، يراقب الطريق من وراء زجاج النافذة التي غسلته مياه الأمطار. بلغة عربية تشوبها لكنة أرمنية، بدأ أبو ساكو يطمئن زوجته لعلها تهدأ وتستكين، قطع كلماته رنين هاتف المنزل. وكان الخبر أن ساكو ابنهما الوحيد ذا السابعة عشرة اختطفه رجال أمير داعشي مسؤول عن الحي الذي يقيمون فيه.

    ومن أمام كنيسة الشهداء الأرمن في الرقة، التي حولها “داعش” إلى مركز للدعوة الإسلامية، وقفت سيارة أجرة، وبهدوء قال السائق: سامحيني يا أمي لن أستطيع النزول معك. جاءت أم “ساكو” وحيدة لتطلب مقابلة أمير داعش وبدون زوجها لأنها لا تريد أن تخسر زوجها بعد أن خسرت ولدها. نزلت أم “ساكو” من السيارة، وسارت بخطى هادئة، ثابته ومتزنة، كانت قد غطت وجهها بالنقاب وارتدت عباءة سوداء. رفعت أم “ساكو” النقاب عن وجهها كي يراه الأمير، ومع أنها كانت قد قاربت الستين من العمر لكنها كانت لا تزال محتفظة بملامحها الأرمنية الجميلة. ابتسمت أم ساكو للأمير الداعشي ابتسامة خاطفة، انحنت أمامه ثم بدأت بتقبيل قدميه، ثم عباءته، ثم ركبتيه، صعودا حتى يديه ومن يديه قبلت كتفه ورأسه، باكية، راجية أن يعيد إليها وحيدها “ساكو” واعدة إياه بأنها لن تريه وجهها هي وابنها وزوجها إلى أبد الآبدين.

وفي اليوم التالي، نظر سائق السيارة التي كانت تقل أبناء العائلة وهي تمضي في شوارع الرقة في المرآة، تلاقت عيناه بعيني أم “ساكو” التي كانت تضم ابنها إلى صدرها والفرحة لا تسعها، ابتسم السائق، فبادلته الابتسامة. سارت السيارة في شوارع الرقة، مغادرة إياها إلى الأبد. من بعيد ظهر مبنى كنيسة الشهداء الأرمن، الذي حوله داعش إلى مركز للدعوة الإسلامية. مرت في ذهن أم “ساكو” صور كثيرة وأخيلة عن طفولتها وزفافها ومعمودية ابنها في تلك الكنيسة، سالت دموعها على وجهها حتى التقت بشفتيها المبتسمتين. استدارت تماما موجهة نظرها إلى الأمام. ضمت ابنها إلى صدرها أكثر. وربتت بيدها على كتف زوجها أبي “ساكو” المنهمك بالحديث مع السائق. ولم تعد إلى الرقة بعد ذلك اليوم.

نساء سوريا، في كل الأوقات وتحت أي ظرف، تراهن قويات بطلات، يزرعن الشجاعة في قلوب المحيطين، لا يهبن شيئا، يضعن الهدف نصب أعينهن وينطلقن لتحقيقه، يُسقطن العوائق أمامهن حتى يصلن إلى خط النهاية.

وهذه قصة أخرى وليست أخيرة جرت منذ عامين، قصة منحت السوريين قبسا من الأمل وسط ظلام الظروف القاسية. بطلة هذه القصة فتاة صغيرة السن، قوية الإرادة، تدعى يسرى مارديني من مواليد دمشق عام 1998. بعد الحرب الدائرة في سوريا، قررت السفر إلى ألمانيا وطلب تأشيرة اللجوء الإنساني مع أختها الأكبر سارة. بالطبع ليس من السهل لهما الحصول على تأشيرة سفر إلى ألمانيا، الطريق الوحيدة كانت الهجرة غير المشروعة “التهريب” لذا سافرت يسرى مع أختها سارة من دمشق إلى بيروت ثم إلى أزمير بتركيا، ومن بعدها باتجاه اليونان عبر البحر. وهنا تبدأ القصة!

وصفت منظمة الهجرة العالمية، كيف تمكنت السباحة السورية يسرى وشقيقتها سارة من إنقاذ عشرين شخصا من اللاجئين، بعد أن كاد قاربهم يغرق بسبب الوزن الزائد أثناء عبورهم من تركيا إلى اليونان، ضمن رحلات البحر المتوسط الخطرة في نوفمبر 2015. وذكرت المنظمة أن الشقيقتين، اتفقتا قبل ركوبهما القارب ليلا من تركيا على أن تقفزا إلى البحر وتعملا على النجاة بحياتهما في حال حدوث مكروه للقارب. لم تكن يسرى وشقيقتها قد قررتا مساعدة الآخرين، لأن عدد المسافرين في القارب كان كبيرا وقد تفقدان حياتهما دون أن تحققا شيئا.

 ولكن بعد أن تعطل القارب بالفعل، وبدأ يغرق بسبب الوزن الزائد، قررتا تخفيف الوزن وقفزتا إلى الماء ولم تستطع الشقيقتان ترك الآخرين يغرقون إذ لم يكن بينهم من يعرف السباحة سوى رجل واحد كان صديقا لوالديهما. نزل الرجل إلى الماء ليساعدهما، ترافق الثلاثة في سحب القارب سابحين ثلاث ساعات متواصلة، محاولين الحفاظ على توازنه في الماء، حتى وصلوا به إلى بر الأمان إلى جزيرة لسبوس اليونانية.

 وهذا جانب من مئات، بل آلاف القصص التي تكشف تفاصيل كل منها حكايات وروايات، ليست سوى أمثلة تقدمها سيدات سوريا العظيمات، اللاتي يؤكدن في كل منها أن المرأة السورية كانت ولا تزال وستبقى.

مشروع "ملكات سوريا" المسرحي السينمائي - صوت لاجئة سورية

مشروع “ملكات سوريا” المسرحي السينمائي – صوت لاجئة سورية

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015