سناء عبد العزيز/ ضفة ثالثة- ظلّت قضية التحرّش الجنسي القضية الأكثر جدلاً في ما يتعلّق بردود الفعل تجاهها. فما بين معارضة وتأييد واستهجان وتجاهل تام، تضيع بين الأرجل، فتبهت معالمها، وتخفت جذوتها تدريجياً، إلى أن يطويها النسيان بالنسبة للجميع، عدا ضحيتها التي تختزنها في صندوق أسود، لا تفتحه إلا في حجرةٍ مظلمة خلف بابٍ مغلق، وإلى جوارها سلة قمامة وحفنة من المناديل المبلّلة!
وفي الفترة الأخيرة، وتحديداً مع حركة #MeToo، أُثيرت قضية التحرّش الجنسي بشكلٍ علني، وتفاجأ الجميع بصوت الأنثى حادّاً وممزّقاً في الآن ذاته، وهي تُدلي بأدقّ التفاصيل على مواقع التواصل الاجتماعي من كلّ بلاد العالم، ناميّها ومتقدّمها على حدّ سواء، كاشفةً عن قشرة الحضارة الواهية فضلاً عن ضراوة التجربة التي لا تسقط من رصيد المرأة بالتقادم حسبما يقرّ القانون.
ربما كان لتورّط شخصياتٍ لها وزنها أبلغ الأثر على تداولها في وسائل الإعلام وعلى نطاقٍ واسع، وفضح عورات عالم ذكوري بامتياز، لم يبرأ منه حتى هؤلاء غير المتورّطين بالفعل، إذ اتخذ التورّط هنا سمتاً جديداً، كالمواربة والمداراة، واقتصار السعي على المرأة وحدها دون دعمٍ أو تضامن حقيقي حتى من الرجال المتعاطفين!
أن تكون رجلاً صالحاً؛
في مقالٍ نشرته صحيفة الغارديان البريطانية مؤخراً يتناول كارل سيدرستروم، الأستاذ في جامعة استوكهولم، فكرة التضامن كما يليق بمجتمع يدين التحرّش ما دام يدّعي هذا، من خلال فهمٍ حقيقي لقضية مزمنة كتلك، وهو الفهم الذي لا يتأتى إلا من خلال قراءة الكلاسيكيات النسوية كما اقترح في مقاله الذي استهله بتلك الفقرة الصادمة: “غطّى فمي بيده وأولج عضوه.. اعتقدت أن ساعتي الأخيرة قد حانت وخامرني شعورٌ بتقلّص معدتي”.
ويسترسل كارل: “هذه الكلمات ليست كلمات امرأةٍ تدلي بشهادتها ضمن حركة #MeToo، كما أنها ليست كلمات كريستين بلاسي فورد، التي أدلت بشهادتها أمام مُرَشّح المحكمة العليا الأميركية بريت كافانو الأسبوع الماضي، بل هي تجربة امرأةٍ شابة روتها الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار في كلاسيكيتها التي صدرت عام 1949 بعنوان: الجنس الآخر”.
لقد ظلّ كتاب دي بوفوار لسنواتٍ على رفّ الأستاذ الجامعي من دون أن يُمَسّ، كما يقرّ بنفسه، “كم مرةً تظاهرتُ بأنني قرأته، أومأت بالمعرفة حين كان يذكره أحدهم في حفل عشاء، أو في ندوةٍ في الجامعة السويدية حيث أعمل”.
لكن بعد مرور عامٍ على فضيحة منتج هوليوود هارفي وينستاين، يقرّر الجلوس وقراءة تجارب المرأة، “كان من المؤلم الاستماع إلى قصص الاعتداءات الجنسية المنهجيّة التي ظهرت نتيجة حركة #MeToo، لقد أجبرتني على رؤية أشياءٍ كنت قد فشلت في رؤيتها في الماضي. قبل ذلك كنت أعرف أن الاعتداءات الجنسية مرضٌ مزمن، لكنني لم أدرك أنها بمثل هذا. لقد فهمت أيضاً أنّ اللوم يقع على الضحية. لكنني لم أرَ هذا الأمر أبداً، ليس بهذه الطريقة الملموسة والمروّعة بشكلٍ مثيرٍ للصدمة”.
يعترف كارل بأنّ هذه صحوةٌ متأخّرة، وأن هناك بضعة أسئلة برزت من جرّاء ما حدث ولا بدّ من الإجابة عنها الآن:
ماذا ينبغي أن يفعل الرجال لإظهار تضامنهم مع المرأة؟ وماذا علينا أن نفعل لمعالجة ثقافة الذكورة السامّة والبدء في تدارس أنفسنا؟ .. من الواضح أن هناك أكثر من طريقة للقيام بذلك.
“اخترت اتباع نهجٍ أكثر هدوءاً، بعد النصيحة التي تقول إنه لإظهار التضامن مع الحركة يمكنك البدء بالاستماع بجدّية إلى النساء. لذلك، قررت أن أقضي الشهر الذي يسبق الذكرى السنوية الأولى على قضية وينستاين في قراءة بعض الكلاسيكيات النسوية، وهو ما لم أتطرّق إليه، لأسبابٍ لا يمكن تفسيرها. أنا متأكّدٌ من أنّ هناك أسباباً محيّرة لهذا الإهمال، لكني لست متأكّداً ما هي. ربما كان هذا بمثل التبسيط المضحك بشأن حقيقة أن أعمال المؤلّفين الذكور (البيض) كانت دائماً أقرب إلى اليد – من خلال قوائم القراءة ومراجعات الكتب وتوصياتها – أكثر من الكتابات النسوية (للسود). وبمساعدة اثنين من المحررين من هذه الصحيفة، تمّ تجميع قائمةٍ تضمّ 13 كتاباً وبصرف النظر عن شموليتها، فهي تضمّ بعض أهمّ الأعمال النسائية تأثيراً في القرون القليلة الماضية”.
قراءة في الكلاسيكيات النسوية
في أوائل سبتمبر، بدأ كارل بكتاب الجنس الآخر وهو من الكتب المهمة في نشأة الحركات النسوية الغربية وأفضل كتب دي بوفوار المعروفة، وفيه تطرح معاملة النساء على مرّ التاريخ، ويعتبر هذا الكتاب العمل الرئيسي للفلسفة النسوية، ونقطة انطلاق لموجةٍ ثانية من النسوية.
وعند منتصف كتاب بوفوار الجنس الآخر، يقول كارل: “صادفت فقرةً يبدو أنها تلخّص الرؤية الصادمة لـ #MeToo. كتبت دي بوفوار أن معظم الشابات تقريباً، بمن في ذلك من يُطلَقُ عليهنّ “محمياتٍ بشكلٍ جيد”، تعرّضن “لحوادث مؤسفة”، والتي “في دوائر تقليدية”، “يتم التوصّل فيها إلى اتفاقٍ مشترك”. ذكّرني ذلك بالخريف الماضي، حين بدأتُ في مشاهدة الأخبار المسائية مع زوجتي وابنتي البالغة من العمر ثماني سنوات، في الوقت الذي بدأت بوادر #MeToo. قرأ مذيع الأخبار بعض الشهادات التي تمّت مشاركتها على وسائل الإعلام الاجتماعية. عادةً، عندما تتمّ معرفة أشياء فظيعة، يمكننا كعائلة محميّة جيداً عاشت سابقاً في ويلز، والآن في السويد، أن نهدّئ ابنتنا بالقول إن هذه الأشياء بالكاد تحدث في الجوار. لكننا لم نستطع قول ذلك الآن. هذه الحوادث المؤسفة لا يمكن تجاهلها باتفاقٍ مشترك. تحكي دي بوفوار في كتابها عن فتاةٍ صغيرة، لا تزيد عن 10 سنوات، تحرّش بها جدُّها، ولا تجد الشجاعة الكافية لإخبار والديها. كتبت دي بوفوار: مثل هذه الحوادث عادةً ما تتحمّلها الفتاة الصغيرة في صمتٍ بسبب الخجل الذي تسبّبه. علاوةً على ذلك، إذا كشفتها لوالديها، فإن ردّ الفعل غالباً ما يكون توبيخها: لا تقولي مثل هذه الأشياء الغبية … لديك أفكار شريرة”.
يُكمل كارل: “أتذكّر أنني قرأت الادّعاءات التفصيلية ضد جان كلود أرنو، الشخصية الثقافية المؤثّرة المتزوّجة من أحد أعضاء الأكاديمية السويدية، التي تمنح جائزة نوبل. لقد اعتاد أن يُطلق على نفسه اسم العضو التاسع عشر في الأكاديمية. وفي مقالٍ نُشر في صحيفة “داجنز نيهتر” السويدية، تقدّمت 18 امرأة لإخبار قصصهن. ووصفن حالات سوء المعاملة والاغتصاب، ومثل وينستاين اتُّهِمَ أرنو باستغلال سلطته في تهديد النساء وابتزازهن. وزُعِمَ أنه استهدَفَ، على وجه الخصوص، النساء الضعيفات والمهزومات. وأُدِينَ أرنو بتهمةٍ واحدة للاغتصاب، وحُكِمَ عليه بالسجن لمدّة عامين، وتمّ إسقاط التهم الأخرى لعدم وجود أدلة، أو لأنها سقطت بالتقادم!”
الخزي.. كفكرة غامضة
في قضية أرنو كشفت أربع نساء فقط وجوههن على الملأ. كنّ من هؤلاء اللائي رفضنه صراحةً عندما حاول مغازلتهن في الحانات وفي أماكن أخرى.
يقول كارل: “لم أكن أدرك من قبل الخجل من كوني الضحية كما أدركت عند قراءة هذا السطر، لإحدى النساء اللائي تعرّضن للاغتصاب ولم تجرؤ على كشف وجهها: “كنت أشعر بالخجل من أن أكون واحدةً من أولئك اللائي اختارهن كضحية له”، فالأسوأ من كونها مجرد ضحية ببساطة، أنه اختارها ضحيةً له، لأنها “مهزومة” وأضعف من أن تقول لا!”
وهنا يسرد كارل القصة التالية، من كتاب روكسان غاي “النسوية السيئة”، لنفكّر بعمقٍ في مسألة الخزي كفكرةٍ غامضة. غاي تكتب عن فتاة تبلغ من العمر 11 عاماً، اغتصبتها مجموعةٌ من الفتيان والرجال في تكساس، وحقيقة أن صحيفة نيويورك تايمز اختارت أن تصدر عناوين قصصها: “اعتداء وحشي” يزلزل مدينة تكساس – كما لو كان ينبغي أن نشعر بالأسف على المدينة والأولاد، كتبت غاي. “كانت حياة فتاة تبلغ من العمر 11 عاماً التي تمزّقت، وليست حياة المدينة أو الرجال الذين اغتصبوها”.
بعد أسابيع قليلة من بدء الادّعاءات ضد وينستاين، كتب كاتب عمودٍ ليبرالي في السويد أننا نحتاج إلى التمييز بين الضحايا الحقيقيين والضحايا المزيَّفين، مدّعياً أنه إذا كانت كلّ النساء ذوات جلدٍ ثخين مثل ابنته البالغة من العمر 19 عاماً، فلن يكون هناك #MeToo. المشكلة، كما كتب، كانت أنّ الكثير من النساء يرغبن في تولّي دور الضحايا. مشكلتهن أنهن لا يعرفن كيف يقلن لا وكيف يواجهن.
وهنا تقول غاي: “لم يخطر ببالي أبداً أن أقول لا أو أنني يجب أن أقول لا، يمكنني أن أقول لا”. عندما كانت في الثانية عشرة من عمرها، بدأ صديقها الصبي يضغط عليها لممارسة الجنس، وفي أحد الأيام كانا يركبان دراجتيهما في الغابة. لم تكن تعرف أن أصدقاءه ينتظرانهم قرب كابينة صيدٍ مهجورة. دفعها الصبي إلى الأرض وخلع ملابسها. اغتصبتها المجموعة التي احتجزتها هناك لساعات. “شعرت بالخوف لكنني لم أكن أعرف كيف أقول لا”. بعد اغتصابها، لم تقل غاي كلمةً لأحد. لم تكن تريد الدخول في المشاكل. “كنت فتاةً جيدة، وهذا ما فعلته”. في اليوم التالي في الصف، توجه أحد الأولاد نحوها وقال: “أنت مومس!”.
بعد بضعة أيامٍ من قول الكاتب الليبرالي إن المرأة يجب أن تكون مثل ابنته البالغة من العمر 19 عامًا، فإن المئات من السويديات، جميع الممثلين، اجتمعوا تحت عنوان #SilenceAction، ونشروا سلسلةً طويلة من التقارير التفصيلية عن الاعتداء الجنسي الوحشي. هنا واحد منها: في فندق، بعد حفلة، كانت امرأةٌ في طريقها إلى غرفتها، فتبعها رجلٌ – ممثل عالمي شهير – ودفعها إلى الأرض وألقى نفسه فوقها. “الآن سوف يغتصبني”، تتذكّر. أردت أن أسأل الكاتب الليبرالي: كيف ستتعامل ابنتك ذات الجلد الثخين البالغة من العمر 19 عامًا مع ذلك؟!
“الرجال الموتى لا يغتصبون”
هذا الملصق اعتادت الناشطة والكاتبة الراديكالية النسوية الأميركية أندريا دوركين تعليقه على مكتبها. وكان كتاب دوركين “كراهية النساء” هو الثالث في قائمة كارل، وفيه تتحدّث عن السيدات المكروهات في الثقافة والتاريخ، وتجادل من أجل “تطوير نوع جديد من الإنسان، ونوع جديد من المجتمع الإنساني” خالٍ من الجنس والقواعد الجنسية.
يقول كارل: “في الوقت الذي قرأت كتاب دوركين، لم ألمها على أسلوبها اللاذع. كتبت دوركين أنه عليك أن تسألي نفسك كأمرأة عددًا من الأسئلة الملحّة: لماذا يوجد في كلّ مكان اضطهاد للمرأة عبر التاريخ المدون؟ كيف يمكن للمحققين تعذيب النساء وحرقهن كسحرة؟ كيف يمكن للرجال أن يثقّلوا أقدام النساء المُقَيَّدة؟ كيف ولماذا؟”.
وأضاف: على قائمتي كانت هناك كتبٌ ليست بالوحشية نفسها؛ كتبٌ لم تهتم بالاغتصاب والقمع الجنسي بقدر ما ركّزت على الضغط الثقافي على المرأة وتبعات أن تكون امرأة. ففي نهاية كتابها “دفاعٌ عن حقوق المرأة” (1792)، تعرض البريطانية النسوية ماري وولستونكرافت “تجربةً” مستقبلية، تتشارك فيها النساء مع الرجال “مزايا التعليم والحكومة”. ويعتبر كتاب وولستونكرافت من أوائل الأطروحات في الفلسفة النسوية، وفيه تردّ على المنظّرين والمفكّرين السياسيين والاجتماعيين في القرن الثامن عشر والذين لم يكونوا يؤمنون بحقّ المرأة في التعليم، وبعكس النظرة السائدة في المجتمع آنذاك للمرأة تصرّ وولستونكرافت في كتابها على أنّ المرأة إنسان، تستحق نفس الحقوق الأساسية التي يمتلكها الرجل.
اللغز الأنثوي.. أهذا كل شيء!
“لكن هذا لم يكن مجرد عملٍ خيالي. كان يعني أنني وكل امرأة أخرى عرفتها نعيش كذبةً، وكان كلّ الأطباء الذين عالجونا والخبراء الذين درسونا يرتكبون الكذبة ذاتها، وقد بنيت منازلنا ومدارسنا وكنائسنا وسياستنا ومهننا حول تلك الكذبة”.
الفقرة السابقة من كتاب “اللغز الأنثوي”، وهو كتاب فلسفي، من تأليف الكاتبة النسوية بيتي فريدان نُشِرَ باللغة الإنكليزية عام 1963، وترجمه عبد الله بديع فاضل إلى اللغة العربية، ونشرته “دار الرحبة” بدمشق عام 2014.
ويعتبر الكتاب من أهم كتب الموجة النسوية الثانية في الولايات المتحدة. وتدور قضيته الأساسية حول فكرة أن دور المرأة كربّة منزل وزوجة لا يكفيها نفسياً ولا يغنيها عن باقي أدوارها، ونتيجةً لفرض المجتمع هذا الدور المحدود على المرأة، تصبح المرأة عرضةً لفقد هويّاتها وسعادتها، بالرغم من امتلاكها بيتاً وأسرة.
كما تجادل جيرمين جرير، في كتابها “المرأة المخصِيَّة”، بأن النساء يجب أن يتوقّفن عن رؤية أنفسهن كزوجات وأمهات؛ لأنهن بحصرهن في هذه الأدوار، يتقلّص “أفقهن في المنزل، ومركز التسوق، والتلفزيون”.
وتعتبر جرير أحد أبرز الأصوات النسوية في أواخر القرن العشرين، ويصنّفها البعض بالمرأة الثانية بعد الفرنسية سيمون دي بوفوار.
بحلول عام 2013، كانت ساندبرغ، المسؤول التشغيلي الرئيسي في فيسبوك، تكتب من منظورٍ تجاري عن الحاجة إلى المزيد من النساء في الأدوار القيادية. نصيحتها للنساء، التي تمّ التعبير عنها في عنوان كتابها، “تقدّمي إلى الأمام” أن تفعلي ما تودّين فعله لو لم تكوني خائفة!
وعلى النقيض، فإذا كانت هذه الكتب المعروفة كُتِبَت من منظور الأغلبية البيضاء، فإنّ العناوين التالية لم تكن كذلك. ديفيس مثلاً تبدأ كتابها “النساء والعرق والطبقة” بوصف حياة المرأة الأَمَة، مشيرةً إلى أنه في حين أنّ النساء البيض تحدّثن عن إلغاء العبودية نيابةً عن النساء السود، إلا أنهن لم يستطعن فهم حال المرأة العبدة، لأن المرأة السوداء، من خلال خبرتها في العمل الشاق والاغتصاب والجلد والمقاومة، تطوّرت لديها سماتٌ ميّزتها عن المرأة البيضاء. لقد عملت المرأة السوداء، مثل نساء الطبقة العاملة، حتى لم يعد بإمكانهن العمل. بوسعهن فقط الحلم بحياة ربّات البيوت البيض.
إحدى المشاكل مع الحركة النسائية، كما كتبت لورد في “الأخت الغريبة”، هي أنّ “النساء البيضاوات يركّزن على اضطهادهن كنساء ويتجاهلن الاختلافات في العرق والتفضيل الجنسي والطبقة والعمر”. ونتيجةً لذلك، تصبح “المرأة الملوّنة” هي الأخرى “غريبة”.
النسوية للجميع
عندما أنهيتُ الكتاب الأخير، كنت أفكّر في كلّ الرجال – وكثيرٍ من النساء – الذين يرفضون تسمية أنفسهم بأنصار المرأة. تقول الكاتبة بيل هوكس إنه كلما قدّمت نفسها كداعية نسوية، يكون رد الناس أن النسويات مثليات يكرهن الرجال ويردن جعل حياة الرجل الأبيض بائسة. وعندما تسألهم عن الكتب النسوية التي قرأوها، يصمتون. نحن بحاجة إلى “إنشاء حركة تربوية جماعية لتثقيف الجميع بشأن النسوية”.
فوفقًا لمسح جمعية Fawcett لعام 2016، فإن 7% فقط من البريطانيين يعتبرون أنفسهم نسويين، وهو ما يبدو غريباً بالنسبة لي بعد قراءة هذه الكتب، لأنّ التعريفات التي صادفتها مفتوحةٌ وبسيطة وواضحة – مثل الرغبة في إنهاء التحيّز الجنسي أو دعم “المساواة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بين الجنسين”.
في كتاب “يجب أن نكون جميعاً نسويين”، كتبت الروائية النيجيرية تشيماماندا نجوزي أديشي أنها عندما بدأت تصف نفسها بأنها نسوية، قيل لها إن النسويات غاضبات، لذا فقد أطلقت على نفسها اسم “نسوية سعيدة”. ثم قيل لها إن الحركة النسوية كانت غير أفريقية، لذلك دعت نفسها بأنها نسوية أفريقية سعيدة. وواصلت إدخال التعديلات حتى كانت في وقتٍ ما، “النسوية الأفريقية السعيدة التي لا تكره الرجال والتي يروق لها وضع ملمّع شفاه وارتداء الكعب العالي لنفسها وليس للرجال”.
إننا نثقل الحركة النسوية بمعايير غير معقولة، كما تقول غاي، كما لو أنّ كلّ نسوية يجب ألا يشوبها شائبة. تقول أيضاً إنها ليست على درايةٍ جيدة بالتاريخ النسوي. فلديها خزانةٌ كاملة من الأحذية والحقائب، وتستمع إلى موسيقى الراب الجنسية وتقرأ عن الموضة، لكن ماذا في ذلك؟ إنها مليئة بالتناقضات، مثل أيّ شخصٍ آخر.
“أفضل أن أكون نسوية سيئة على ألا أكون نسوية على الإطلاق” تكتب غاي، ومن هذا السطر، يخلص كارل خاتماً مقاله “أرى مدخلاً، دعوة لي ولجميع الرجال الآخرين الذين يرغبون في أن يكونوا داعمين حقيقيين”.
صحوةٌ متأخّرة
لكننا جميعاً لسنا بحاجةٍ لقراءة الكلاسيكيات النسوية كما فعل كارل سيدرستروم عبر شهرٍ كامل في صحوته المتأخّرة، وتكفي نظرةٌ في تفاصيل وجه مراهِقةٍ في إثر تعرّضها لتجربة تحرّش جنسي، لندرك هول ما نفعله بالمرأة وهي ما زالت على أعتاب الأنوثة، وكيف تَشْتَمُّ في محاولات استنطاقها رائحة الخزي والإدانة!
وبشكلٍ شخصي، لم أكن من المتحمّسين لتلك الفضفضة الجماعية التي نجمت عن حركة “أنا أيضاً”، إذ شابها بعض الأخطاء الفادحة واختلط الحابل بالنابل، وبخاصة حين قام الرجال بحركةٍ مضادة تحت الاسم نفسه، ولكن حين كتبت ابنتي على صفحتها الشخصية #MeToo أحسست بقبضةٍ مفاجئة، قبضةٌ راحت تعتصر بأصابعها الباردة تاريخ الأنثى بأكمله، إذ لم يعد التواطؤ كما كنت أظن على بعض التجارب السيئة التي ارتكبها بعض المرضى ومن المستحسن تمريرها، بل كنّا جميعاً نساءً ورجالاً، سلفاً وخلفاً، نصطفّ معاً مشوّهين ومطأطئين رؤوسنا أمام تاريخٍ مقزّز من التحرّش الجماعي!