تجمع نورا أمين في جوهر عاطفتها القدرة على التعبير عن ذاتها بكل أشكال الفنون. في التسعينات من القرن العشرين، كانت تعد كاتبة راسخة لها روايات ومجموعات قصصية، لكنّ الكتابة لم تشبع قدرتها الكاملة على التعبير، أو بالأحرى لم تكفِ، لكونها لا تستوعب قدرة الجسد على التعبير والتحليق في مستويات أعلى. هكذا صار المسرح بجانبيه، التمثيل والرقص الحديث، وجهتها، وغدا الجسد هو المتحدث الرسمي باسم الأنا في كل تعقيداتها وتلويناتها.
من شبكة العلاقات بين الأنا والجسد ينطلق كتاب «تهجير المؤنث»، ليوضح أن ثمة تداخلاً بمقدار الاختلاف بين تواجد الجسد في المجال الخاص مقابل المجال العام، أو ما تسميه أمين الفضاء العمومي.
نورا أمّ تقف في مكتب جوازات العام 2015 لتستلم جواز سفر ابنتها، وحدها غير المحجبة، يختارها الضابط دون كل الواقفات ليعطل أوراقها، بل يقول صراحة إنها لن تتسلم شيئاً، يصرخ ويهدد ويحرك يديه بطريقة أنثوية مشينة. فجأة تتذكره نورا كما تذكرها، إنه هو نفسه الذي كان مسؤولا عن جواز سفرها، هو نفسه الذي رفض أن يكتب مهنتها كفنانة استعراضية وأصر على وضع “ليسانس آداب قسم لغة فرنسية”. تجاهل كل ما درسته وكل سنين عملها في المسرح والرقص والأدب وكأستاذ زائر ومحاضر في جامعات عديدة، وأصرّ على “تربيتها” مجدداً.
ثلاث حوادث فارقه تحدث لشخص واحد، كان نتاجها كل ما كتبته نوار أمين حتى الآن في الرواية والقصة، لكنها مؤخراً قررت طرحة مركّزاً ومعمقاً في شكل دراسة ثقافية عن التعديات على الجسد الأنثوي في المجال العمومي. لتقول إن وجود النساء في الفضاء العام اليوم هو نتاج لمعركة قديمة جدا، وأن ذلك الحضور أصبح ملتقى طرق للصراع والنضال، وأنه مرتبط عضويا بكل مظاهر الحياة وبرحلة الحضارة، وبالسياسة بطبيعة الحال.
تبدأ بالتفرقة بين حركة الجسد في وحدته وبين الحركة نحو مقابلة بشر آخرين، تقول إن الجسد المتاح للوسط العمومي والمفتوح، هو جسد في حالة حرب، لا تتعلق فحسب بتحديد هوية الجسد، بل بالكيفية التي يعدل المجتمع بها من وضعه تجاه هذا الجسد كي يكتسب معنى وكي يتملك الحيز العام وهويته الجمعية عبر تأثيره على ذلك الجسد المفرد.
في حين إنه عندما يكون الجسد وحده فلا صراعات من أجل المعنى ولا عراك للدلالات بين ذلك الجسد وجاره “الجسد في وحدته يتخلص من صورته ومن صلاته بالقيم والأحكام المسبقة إلا في ذاكرته الشعورية الفردية. عندما نخرج إلى الآخرين، إلى المجال العمومي، نكف عن أن نكون أنفسنا، نصبح الصورة التي يفرضها الآخرون علينا”.
يمكن وصف الكتاب بأنه شهادة بحثية، بحيث يرتكز على التجربة الشخصية للكاتبة في ما يتعلق بتواجد الجسد الأنثوي في سياقات مختلفة مكانياً وثقافياً، من دون أن يغفل الصورة الأكبر وهو ما يتضح في الأمثلة والتأملات التي تُدعم بها الكاتبة متن الشهادة. ولا يُمكن القارئ المتخصص أن يغفل عن القراءات السابقة التي تظهر في ثنايا السطور عن الهوية وتشكلها وتقاطع عوامل عدة على عتبتها.
«المؤنث» المهجّر
يقوم «تهجير المؤنث» (آفاق للنشر، 2016) على مفارقة شديدة الغرابة تنطلق من تواجد الجسد الأنثوي في المجال العام – الشارع مثلاً – وتواجده علي خشبة المسرح، التي تنتمي إلى المجال العام أيضاً، ولا تخلو من علاقات معقدة أيضاً. وعلى تلك الخشبة يمكن أن تجد الذات نفسها، تعبّر عن وجودها عبر الجسد، تتلقى من الجمهور التجاوب والدعم النفسي والقبول، على رغم أن النظرة المجتمعية السائدة إلى مهنة «ممثلة» سلبية ونمطية، وهو ما يتضح في رفض إدارة الجوازات مثلاً إدراج هذه المهنة على جواز السفر.
على الجانب الآخر، يبدو هذا الجسد الذي يتألق على خشبة المسرح ويشعر بتحققه منتهَكاً في المجال العام أو معرضاً للانتهاك أو مترقباً له. في كل الأحوال، إذا لم يقع الانتهاك أو التعدي الفعلي فهناك النظرة التي تُشعر الجسد بالرفض أو النبذ أو الغرابة أو عدم الانتماء. كلّ جسد يُظهر اختلافه عبر طريقة المشي أو الملبس أو السلوك ستكون له النظرة الذكورية (التي لا تقتصر على الرجال) بالمرصاد. في المسافة بين الناظر والمنظور إليه يستشعر الجسد فوراً عدم انتمائه، اختلافه، واستحقاقه للعقاب بسبب خروجه عن الشكل الجمعي، على رغم «فرديته» الواضحة على خشبة المسرح. ويبدو الربط بين هذه الثنائية في منتهي الذكاء، لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه على تلك التأملات يتعلق بالطبقة الاجتماعية. فالتمييز الجنسي لا يظهر بمفرده في المطلق، بل تتداخل معه العديد من العوامل الأخرى كالطبقة والدين واللون والخلفية الثقافية. وهي العوامل التي تسمح بظهور التمييز في سياق ما وتحجبه في سياق آخر، وهي تتحكم أيضاً في أشكال التمييز وحدته.
لا تغفل هذه الشهادة البحثية ما طرأ من تغيير جذري في التعامل مع جسد المرأة أثناء الثورة المصرية، بحيث وقعت حوادث اعتداء واغتصاب في وسط الميدان وعلى أطرافه، لتواجه المجتمع بأكمله بهشاشة هذا الجسد، وبكونه مباحاً لأنه قرر أن يختلف، أن يتواجد، أن يخدش تماسك الجسد السياسي الذكوري. مرة أخرى نعيد التفكير في ما وقع في تلك الفترة، فنجد أن كل ما وقع هو أحد أشكال العقاب من أجل الترويع والتخويف، عقاب سياسي بحت يعتمد على تجييش النفوس عبر خطاب شعبوي.
تعذيب وانتهاكات
ومثلما كان يتم تعذيب الرجال، كان في المقابل يتم اغتصاب النساء. وما نشهد عليه أيضاً أن هذه الاعتداءات والانتهاكات الصارخة قد دفعت الخطاب النسوي إلى طرح المسألة مجتمعياً عبر شهادات الناجيات، وعبر الإصرار على وصف ما حدث بأنه جريمة وليس أمراً متعلقاً بالشرف – على رغم الالتباسات حول مسألة الشرف بسبب إصرار المجتمع على تحويل المرأة إلى رمز للوطن – وعليه لا يصح إخفاؤه أو التستر عليه.
لم نصل بعد إلى مرحلة مثالية طبعاً، لكنّ مجرد طرح المسألة للنقاش داخل حلبة الصراع يُعد خطوة إلى الأمام، وإن لا ننكر بأن ثمنها كان غالياً. تستمر المفارقات في تواجد المرأة في المجال العام، وكأننا ندور في الدائرة ذاتها. تؤكد الكاتبة أن حلمها بتأسيس مسرح المقهورين لم يكن ممكناً قبل الثورة، لأن المجال العام كان واقعاً بأكمله تحت سلطة النظام، وهي سيطرة تسعى إليها كل أشكال القوى، كما يعبّر ميشال فوكو، بمعنى أن إتاحة المجال العام للأفراد يؤدي إلى كسر العزلة ويُسرع في عملية التواصل وهي نتائج لا ترغب فيها أي سلطة.
في تأسيسها «المشروع المصري لمسرح المقهورين» تعود نورا أمين لتُمسك بمقادير الأمور كي تكون القائدة، المتحكمة في جسدها وفي تفاعله مع المجتمع من خلال المسرح، في حين يعود الجسد إلى المجال العام ليواجه النظرة العقابية. ولم تغفل نورا أمين في هذه الشهادة العميقة أن تسلط الضوء على التمييز الجنسي ضد الغريب، الذي يتستر تحت عباءة العنصرية، ليصبح التمييز مضاعفاً. وهو موقف صحيح سياسياً، فالكتاب نُشر في الأصل بالإنكليزية في برلين، وقامت الكاتبة بترجمته إلى العربية. ومن هنا تتعدد عوامل التمييز وتُعيد ترتيب أولوياتها، فيصبح المختلف في بيئته هو غريب أو أجنبي في بيئة أخرى. وعلى رغم ذلك الاختلاف الجغرافي والثقافي، تتشابه السلطة. فلا تختلف كثيراً نظرة ضابط إدارة الجوازات المصري عن نظرة ضابط المطار الألماني، التي تُعيد الكاتبة دائماً إلى النظرة الأولى التي عانت منها في طفولتها.
لم يظهر الرقص الحديث في مصر بشكل رسمي إلا في العام 1993 قبل ذلك كانت هناك أنواع كثيرة من الرقص: “الفالس” و”التانغو” في الحفلات عند الطبقات الاجتماعية العليا، والرقص الشعبي الذي جمعته فرقة رضا، ثم الرقص الشرقي الذي يعد أكثر أشكال الرقص شيوعا في مصر، والذي اعتبرته الدراسة مكوناً محورياً في تشكيل الوعي الجمعي بالجسد الأنثوي من حيث كونه فضاء للرغبة والحسية والاحتفالية، ومن حيث كونه أيضا فضاء للعار والنبذ في الوقت نفسه! ففي مصر يعشق الجميع، رجالاً ونساء، الفرجة على الرقص الشرقي، وعادة ما تجرب غالبية النساء الرقص في منازلهن أو بصحبة صديقاتهن المقربات، إلا أن الجميع لن يتورع عن إدانة من يمارسنه في المجال العمومي أو كمهنة. تلك هي الازدواجية الواضحة “سوف تظل النساء منبوذات اجتماعيا ومقترنات بالعار، ومع ذلك سوف تظل صورتهن في أذهان الجميع كخيال مرتبط بالموضوع المثالي للرغبة”.
لكن سيظل التحرش الجنسي أحد أبرز أشكال انتهاك الأنثى، لأنه يحوّل الأنوثة إلى مصدر إزعاج، إلى عار، وللأسف لم يتوقف أحد ليسأل كما سألت نورا عما يفعله التحرش الجنسي الممتد والممنهج بوعي الأنثى، ماذا يفعل بإدراكها لنفسها وللعالم، وللرجال وللمجال العمومي؟ ترى نورا إن ربط التحرش بالجسد فقط، تصور ينطوي على سذاجة، لأن ما يحدث في الحقيقة يتجاوز الجسد بكثير، فهو اختراق للجسد، وتعدٍّ على الحدود الشخصية، وكسر للجدار الفاصل بين ما هو حميمي وبين ما هو غريب، وما يترتب عليه من آثار نفسيه مركب ومعقد للغاية، بل وينتهي بنا الأمر إلى اكتشاف أن نصف الشعب المصري من الإناث يعيش في صدمه ممتدة، إن لم تكن فجيعة “لقد أنتج الاعتداء الجنسي تجاه النساء والبنات أثراً ممتداً من الصدمة الجماعية إلى الدرجة التي لم تعد معها غالبية النساء تتعرف على الصدمة أو تميزها، وتتصور نساء كثيرات أن ذلك الإحساس بالفزع والقلق المستمر والتوتر ما هو إلا جزء من الحالة العادية لجميع النساء”.
النتيجة أن النساء يسرن في القاهرة ويتحركن وأجسادهن “مغلقة”، بحيث لا يصدّرن أجسادهن كموضوع للرؤية أو كعلامة مفضلة على الهوية، بل ينبغي أن تظل أجسادهن تتحرك على استحياء في خلفية خطابهن عن الحضور، وبشكل عام أصبح التوتر ملازماً لكل تحركات المرأة في مصر.
الثورة كانت الاستثناء الوحيد، كانت نقطة تحول كما ترصد الدراسة، حدث وثاق جمعي نادر الوجود، كسر الحواجز بين الطرفين، كان الاثنان –الرجل والمرأة- يعيدان اكتشاف مساواتهما الإنسانية ورفقتهما. لكن تلك الحالة لم تستمر طويلاً للأسف، إذ حدث في نوفمبر 2012 الاغتصاب الجماعي الأول في ميدان التحرير، تلته اغتصابات عديدة ومتنوعة، امتدت الحالة إلى الشوارع والميادين الجانبية ووصلت في بعض الحالات أن كان هناك حوالى 70 رجلاً يغتصبون امرأة واحدة. تفسر نورا ذلك بأن حضور الجسد الأنثوي في حد ذاته في الفضاء العام هو فعل سياسي، إنه حضور يزعج النظام الذكوري ويعيد تعريف الحيز العام، يتحدى الحضور الأنثوي، أنماط السلطة، ويستفز أفعالاً ترويضية لمواجهة الخطر المحدق بالمجال العمومي. وعندما يتخلل جسد أنثوي أجنبي ذلك المجال العمومي، فإنه يصبح أخطر من الجسد الأنثوي المحلي، لأنه لا يلتزم بالضرورة بالشفرة السلوكية العامة للأنثى المحلية.
بشكل عام لا تزعم نورا أنها توصلت إلى حلول أو أن دراستها تسعي لفرض رؤية نهائية، بل يكاد يكون ذلك هو المرعب في الأمر، أن ما خلصت إليه الدراسة يمكن اختصاره في فقرة تقول فيها “إنها دائرة مفرغة، دائرة جهنمية بلا مخرج حيث لا يمكن الانتصار على آليات بقاء النظام على قيد الحياة، لا سيما لو كانت بعض النساء تسهم بنفسها في إطالة حياته”.
ثمة وصف على ظهر الغلاف يقول إنه «دراسة ثقافية عن التعديات على الجسد الأنثوي في المجال العمومي»، وقد آثرت أن أصفه بأنه شهادة بحثية لأنه قائم على الفكرة النسوية الراسخة التي تنادي بأن الشخصي هو السياسي ولا انفصال بينهما. فالتعدي على الجسد الأنثوي يدخل في صلب الممارسة السياسية، ويعبر عن رؤية النظام إلى ما يعنيه جسد المرأة.