زينب حسني عزالدين – باحثة ماجستير في العلوم السياسية/ المركز الديمقراطي العربي-
يعتبر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي شكل في القرن الماضي أفضل نص من ناحية قوة تأثيره في هذا المجال، وتعد حقوق المرأة أكبر تحد في هذا المجال؛ فلا يمكن إنكار إنجازات الحركة النسوية على المستوى العالمي والتي حققت تقدماً بحقوق المرأة على الرغم من كل الإخفاقات والواقع المرير الذي تعاني منه المرأة في العالم. ومن الضروري أن تكافح الحركة النسوية بشكل خاص والمرأة بشكل عام من أجل الاعتراف بالمرأة كإنسانة كاملة وبحقوقها الإنسانية الأساسية وكمواطنة كاملة الأهلية. وعلى الرغم من تحسن أوضاع المرأة في نواح كثيرة إلا أن البنية المجتمعية والثقافية والقانونية والاجتماعية السائدة والأحكام المسبقة التي غالباً تأخذ شكل القداسة ما زالت تمييز ضدهن.
من الجدير بالذكر أن حقوق المرأة تطورت بشكل كبير في العديد من الاتفاقيات الدولية؛ فتطورت من مفهوم “المساواة بين الجنسين” مرورا بـ”إلغاء التمييز ضد المرأة” وصولا لـ “مناهضة العنف المسلط على المرأة”. إن التمييز ضد المرأة يعاد إنتاجه من خلال المنظومة القيمية السائدة في المجتمع والتي تشمل الثقافة والفكر الديني السائد فضلا عن الخطاب الذكوري والذي يعتبر أبشع أنواع العنف المادي والرمزي ضد المرأة، وبالتالي يؤدي التمييز ضد المرأة إلى تهميش دورها وتنامي ظاهرة العنف الجندري ومن ثم لا تعتبر هذه القضية نسوية فقط بل مجتمعية أيضا نظرا لارتباطها بنهوض وتقدم المجتمع في كافة المجالات بالإضافة إلى كونها إحدى أهداف الإنمائية للألفية. [1]
وانطلاقا مما سبق سيتم التركيز في هذه الورقة البحثية على حقوق المرأة عند المفكر المصري “قاسم أمين”، وذلك من خلال عرض أهم أفكاره الذي تناولها في كتابي “تحرير المرأة” و”المرأة الجديدة”، وبالنسبة لأهم القضايا التي تطرق إليها قاسم أمين هي: توضيح أسباب انحطاط الأمة والمرأة، كما قارن بين وضع المرأة المصرية والمرأة الغربية في تلك الفترة، فضلا عن تناوله لقضايا أخرى مثل: الحجاب، والزواج والطلاق وتعدد الزوجات، وحق المرأة في العمل. وسنتناول في نهاية هذه الورقة العلاقة بين ما طالب به قاسم أمين وبين ما جاء في اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة “السيداو” (1979).
أولا: التعريف بالمفكر والسياق الاجتماعي الذي نشأ فيه:
ولد المفكر المصري “قاسم أمين” في الأسكندرية عام 1863 وتوفي عام 1908، وكانت شخصيته وأفكاره نتاجاً لتأثره بالبيئة المصرية سواء كانت الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية، وكذلك تأثر بالبيئة الفرنسية الذي عاش فيها لمدة 4 سنوات، والجدير بالذكر أنه حاول التوفيق بين البيئتين. نشأ قاسم أمين في فترة كانت تعاني فيها مصر من آثار هزيمتها السياسية على يد الاحتلال البريطاني عام 1882 وبالتالي زيادة النفوذ البريطاني بشكل كبير في الشؤون السياسية الداخلية للبلاد، كما تم إعلان الحماية البريطانية على مصر في عام 1914. ولقد شهدت البلاد في تلك الفترة نهضة معنوية وحركات تطالب بالتجديد سواء على المستوى الديني أو السياسي أو الثقافي، ومن رواد تلك الحركات جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده وسعد زغلول…إلخ. [2]
عندما درس قاسم أمين في كلية الحقوق اقترب من مدرسة جمال الدين الأفغاني الفكرية والتي ازدهرت في مصر. وكان شعار مشروع الأفغانى الإصلاحي يتمحور حول ” الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل” و”مصر للمصريين” ؛ لذلك كان الأب الروحي للحزب الوطني المصري. كذلك التقى قاسم أمين بالشيخ محمد عبده وأصبح مترجمه الخاص حين نُفي إلى باريس. هكذا، توجه قاسم أمين إلى أوروبا وهو متأثر بهذه البنية الفكرية المصرية ورموزها ودعوتها الإصلاحية الاجتماعية والدينية. وفي فرنسا كان لا بد لقاسم أمين من أن يتأثر بفكر ثورتها الكبرى، وكذلك بثورات 1830 – 1848 – 1870 ومبادئها خاصة مبدأ الحرية.[3]
تعتبر أفكار قاسم أمين الذي تناولها في كتابي “تحرير المرأة” -الذي نشر عام 1899 – و”المرأة الجديدة” -الذي نشر عام 1900 – مصدر إلهام الحركة النسوية في العالم العربي؛ لذلك يطلق عليه “أبو الحركة النسوية العربية”، وكانت أفكاره سابقة على الحركة النسوية التي ظهرت في عشرينات القرن الماضي. كما تعرضت أفكاره في بعض الأحيان إلى الانتقادات من قبل علماء الدين والصحفيون والكتاب داخل مصر وخارجها. [4]
ثانياً: واقع المرأة المصرية في عصره ومقارنتها بحال المرأة الغربية:
في البداية تحدث قاسم أمين عن حال المرأة عبر التاريخ؛ فكانت تعامل المرأة في بداية تكوين المجتمع الإنساني معاملة الرقيق، وفي عهد الرومان واليونان كانت تحت سلطة أبيها ثم زوجها ثم من بعده أكبر أولادها بالإضافة إلى أن رئيس العائلة كان لديه حق الملكية المطلقة بمعنى أن يتصرف فيها –المرأة- كيفما يشاء بالبيع أو الهبة أو الموت، وبالعودة إلى عصر ما قبل الإسلام كان العرب لهم الحق في قتل بناتهم فضلا عن أن الرجل كان له الحق في أن يستمتع بالنساء دون أي قيود شرعية.
ثم تطرق قاسم أمين إلى وضع المرأة في الدول الغربية وقال: “أن الدول حققت قدرا كبيرا من التمدن عندما قاموا برفع الانحطاط السابق التي تعرضت له المرأة مما أدى إلى تحقيق التقدم في كافة الميادين. فالمرأة الغربية شعرت بأنها تستحق أن تكون مستقلة وأن تنال حريتها، ونظرا لكونها إنسان طالبت بكل حق من حقوق الإنسان”. [5]
ويضيف المفكر أن الغرب كان يرى المرأة مثلما نراها في مجتمعتنا العربية ناقصات عقل ودين فضلا عن أن علماءهم وفلاسفتهم وشعرائهم رأوا أنه من العبث تعليمهن وتربيتهن، ولكن عندما انتقد الباحثين هذا الانحطاط في دور المرأة أدركوا أن طبيعتها العقلية والأدبية تترقى مثلما الرجل وشعروا بأنها إنسان ولها الحق في التمتع بحريتها. ومنذ ذلك الحين والمرأة الغربية دخلت مرحلة جديدة نالت فيها حق تلو الآخر وعملت على تثقيف عقلها وتهذيب أخلاقها، كما شاركت الرجل في كافة المجالات مثل: ( سماع الوعاظ في الكنيسة، حضور منتديات الأدب، مشاركتها لطلب العلم…إلخ)، وبالتالي أصبحت المرأة شقيقة الرجل وشريكة للزوج ومربية للأولاد ومهذبة النوع. ويكمن هدف قاسم أمين في وصول المرأة المصرية إلى ما وصلت إليه المرأة الغربية لكي تعيش حياة سعيدة.[6]
ويؤكد قاسم أمين على وجود تلازم بين الحالة السياسية والحالة الأسرية في كل دولة، فعلى سبيل المثال في بلاد الشرق نجد أن الرجل يحط من منزلة المرأة ويعاملها معاملة الرقيق؛ فذلك – من وجهة نظر المفكر- نابع من الحالة السياسية المستبدة السائدة في البلاد والتي تجعل الرجل في رق الحاكم، على العكس من ذلك في البلاد الغربية نجد أن حكومتها قائمة على مبادئ الحرية واحترام حقوق الإنسان مما أدى إلى ارتفاع شأن المرأة .[7]
ففي العصر الذي عاش فيه قاسم أمين، كان وضع المرأة مؤسفا للغاية سواء كانت كزوجة أو أم أو ابنة، فلم تكن لديها أي اعتبار أو رأي فهي خاضعة للرجل لأنه رجل ولأنها امرأة؛ فالرجل له الحرية والعلم والعقل والأمر والنهي في حين أن المرأة لها الرق والجهل والبله والطاعة والصبر، إذاً الرجل له كل شيء في الوجود. ويوضح قاسم أمين أبرز مظاهر احتقار الرجل بالمرأة وهي: حق الرجل في أن يملأ بيته بالجواري والزوجات المتعددات، وحقه في أن يطلق زوجته بلا سبب، وأن يجلس بمفرده على مائدة الطعام ثم تأتي المرأة سواء كانت زوجة أو أم أو أخت وتأكل من ما فضل منه، أن يعين لها محافظا على عرضها يصاحبها أينما توجهت، أن يسجنها في المنزل ويفتخر بأنها لا تخرج من البيت إلا وهي محمولة على النعش وإعلان الرجل أن النساء لسن محلا للثقة والأمانة. [8]
واستطرد قاسم أمين قائلا أن كل الأديان السماوية أكدت على المساواة بين الرجل والمرأة، ومنحوا للمرأة حريتها واستقلالها فضلا عن حقوقها، كما أكدوا على أن كفاءة المرأة مساوية لكفاءة الرجل في جميع الأحوال المدنية (بيع وشراء وهبة ووصية) دون أن يتوقف تصرفها على إذن أبيها أو زوجها. وبالتركيز على الشريعة الإسلامية نجد أنها أكدت على المساواة بين الرجل والمرأة حتى في مسألة التحلل من عقدة الزواج ولكنها ميزت الرجل عن المرأة في مسألة تعدد الزوجات. وينتقد قاسم أمين ما يتردد حول انحطاط وضع المرأة المسلمة وعلاقة ذلك بالإسلام، مؤكدا أن الشريعة الإسلامية أكسبت المرأة مقاما رفيعا في الهيئة الاجتماعية. ويرجع سبب انحطاط المرأة إلى انتشار وتغلب الأخلاق السيئة التي ورثناها من الأمم الموجودة قبل الإسلام فضلا عن وجود الحكومات المستبدة؛ فلقد مضت قرون على الدول الإسلامية وهي خاضعة للحكم الاستبدادي وإساءة تعامل الحكومات لشعوبها والتلاعب بالدين في أغلب الأزمنة. [9]
ثالثا: تحرير المرأة وتكوين المرأة الجديدة عند قاسم أمين:
يطرح قاسم أمين قضية تحرير المرأة والذي يقصد بها إصلاح الوضع الذي نعيش فيه أي إحداث تغيير في العادات والتقاليد السائدة، وإعادة النظر في فهم الشريعة الإسلامية خاصة النصوص التي تتعلق بالنساء، فضلا عن رفع يد الجهل عنهم وإنهاء عصر استبداد الرجل بهن وذلك من خلال الربط بين صلاح وضع الأمة وصلاح المجتمع. كما طرح أيضا فكرة تكوين المرأة الجديدة والتي يمكن الوصول إليها من خلال تحرير المرأة من الجهل والاستعباد والذي سيؤدي إلى تحقيق المساواه بين الرجل والمرأة وتمتعها بكافة حقوقها مقابل التزامها ببعض الواجبات.[10] ومن أبرز الحقوق والواجبات التي أكد عليها قاسم أمين:
- حق المرأة في العمل والتعليم:
يحث قاسم أمين على ضرورة أن تعمل المرأة المصرية مثل الغربية بالعلوم والآداب والتجارة والصناعة، ويرى أن المرأة المصرية لا يعوقها من فعل ذلك سوى جهلها وإهمال تربيتها. كما أن المرأة تحتاج إلى التعليم لتكون إنسانا يعقل ويدبر فكان سائدا أن ولي المرأة هو الذي يقوم بحاجتها ويدير شؤنها ولكن هذا الولي لم يكن مضمونا في كثير من الحالات فضلا عن احتمال فقد المرأة زوجها أو لم يكن لديها أخا أو ابنا، وبالتالي تحتاج المرأة للتعليم لكي تسد حاجتها وحاجات أولادها، وإذا لم تتعلم ستتجه إلى طلب الرزق بطرق غير مشروعة. وينتقد قاسم أمين ما يتردد حول أن المرأة مكانها البيت قائلا: “أن إعفاء المرأة من أول واجب عليها هو الذي أدى إلى ضياع حقوقها؛ فالرجل عندما يمتلك كل شيء في يده يستأثر الحق في التمتع بكل الحقوق”.
يؤكد قاسم أمين على ضرورة تربية البنات على حرفتين أساسيتين وهما:
- صناعة تربية الأطفال وتعليمهم: حيث كان المجتمع المصري بحاجة إلى نساء قادرات على تربية أولادهن؛ فلقد اجتاح عدد كبير من المربيات الأجانب في المجتمع بالإضافة إلى عدم وجود مصريات في المدارس المصرية تتولى إدارة مدارس البنات وتعليمهن حيث يضطر الجميع إلى تعليمهن في المدارس الأجنبية.
- مهنة الطب: وهي من الوظائف التي يوجد لدى المرأة استعداد طبيعي لممارستها، بالإضافة إلى أنه في ذلك العصر كانت هناك مشكلة في ذهاب المرأة إلى طبيب رجل ومن ثم وجود النساء في هذا المجال سيرفع عنهن الحرج.
- حق تربية المرأة:
يؤكد قاسم أمين على ضرورة تربية المرأة جسمانيا وعقلانيا؛ فالتربية الجسمانية لازمة لاستكمال صحتها وحفظ جمالها من خلال ممارسة التمارين الرياضية فالجسم الضعيف لا يسكنه إلا عقل ضعيف. أما التربية العقلية فهي بدونها تفقد المرأة قيمتها؛ فهي تلد وتحافظ على بقاء النوع الإنساني ولكنها في ذلك تؤدي وظيفة كل أنثى من سائر الحيوانات. كما لا يوجد رجل ناجح إلا وكانت أمه قادرة على تهيئته للنجاح.[11]
وفي كتاب المرأة الجديدة، يقدم قاسم أمين بعض النصائح للمرأة في هذه المسألة منها: [12]
- ضرورة أن تكون المرأة لنفسها أولا وألا تكون متاعا للرجل تقضي معه حياتها.
- ضرورة أن يتم تربيتها على أن تدخل في المجتمع الإنساني وهي ذات كاملة ليست كمادة يشكلها الرجل كيفما يشاء.
- ضرورة أن يتم تربية المرأة على أن تجدد أسباب سعادتها وشقائها في نفسها لا في غيرها.
- واجب المرأة تجاه عائلتها:
إن تماسك العائلة يعتمد بشكل أساسي على المرأة، فالمرأة المتعلمة يكون لها نفوذ عظيم داخل عائلتها، أما المرأة الجاهلة المستعبدة فلا يمكن أن يكون لها نفوذ عظيم في عائلتها أكثر مما يكون لرئيسة الخدم في البيت. وإن ما يردده البعض فيما يتعلق بأن تمتع المرأة بالحرية يجعلها تهمل في شؤون أسرتها سواء تجاه زوجها أو أولادها غير صحيح. [13]
- واجب المرأة تجاه أولادها:
يرى قاسم أمين أن تربية الأولاد تقع على عاتق الوالدين. والتربية -من وجهة نظره- تعني تعويد الطفل على حسن الفعل وتحلية نفسه بالصفات الجميلة. ولكي تستطيع المرأة تربية أولادها عقليا وبدنيا فلابد من أن تكون هي بالأساس لديها قدر من التعليم والثقافة يسمح لها بذلك. وبالتالي إذا كانت الأم جاهلة فلن تستطيع تربية أولادها كما يجب، فالتعليم يتيح لها معرفة أفضل الطرق لتربية أبنائها بطريقة صحيحة.[14]
تناول المفكر قضيتين أخريتين وهما الحجاب والزواج وستقوم الباحثة بتوضيحهما:
- الزواج: [15]
تحدث قاسم أمين في هذه القضية وقال إن الانجذاب المادي وحده غير كاف في العلاقة بين الرجل والمرأة عند الزواج، ولكن يلزم أن يكون هناك توافق بين نفوس الزوجين بمعنى أن يكون هناك توافق بين ملكتهما وعقلهما وأخلاقهما. وعندما يحدث هذا التوافق فإنه من الصعب انحلال هذا العقد.
ويؤكد على ضرورة أن يكون للمرأة الحق في اختيار زوجها مثلما يكون للرجل الحق في اختيار زوجته حيث كان سائدا أنه لا يؤخذ برأي المرأة في اختيار زوجها ولا من حقها أن تسأل عنه أو أن يصل إليها أخبارا عن صفاته أو أخلاقه.
ويضيف قاسم أمين في هذه المسألة أنه في حالة استمرار المرأة في الجهل فإن الزواج لا يكون إلا شكل من الأشكال العديدة التي يستبد بها الرجل بالمرأة. أما إذا عرفت المرأة حقوقها وشعرت بقيمة نفسها فسيحقق الزواج السعادة للرجل والمرأة معاً. ويفسر قاسم أمين ظاهرة عزوف الرجل عن الزواج في عصره قائلا أنه ناتج عن حاجة الرجل إلى امرأة تكون أم أولاده على قدر كاف من العلم والخبرة تسمح لها بتربية أولادها على مبادئ الأخلاق وقواعد الصحة.
- الحجاب: [16]
يدافع قاسم أمين عن الحجاب ويعتبره أصلا من أصول الأدب التي يجب التمسك بها، ولكن يطالب بأن يكون منطبق لما جاءت به الشريعة الإسلامية. ويرى أن الإسلام لم يأتي بما يتصل بقضية الحجاب وهو يرى أنه من قبيل العادة التي لبست لباس الدين وتمكنت من الناس باسم الدين. وأن الحجاب يمنع المرأة من التقدم كما يعيق تقدم المجتمع أيضا لأنه سيعيقها عن أداء عملها واستكمال تربيتها.
يرد قاسم أمين على من يروا أن المرأة “فتنة” ومن ثم لا يجوز أن تخرج من بيتها ولا تختلط بالرجال بقوله أن الفتنة هي أمر يتعلق بقلوب الخائفين من الرجال، وليس على النساء تقديره ولا هن مطالبات بمعرفته، من يخاف الفتنة من الرجال عليه أن يغض بصره، وأن الأوامر الواردة في القرآن الكريم بغض البصر هي موجهة للنساء وللرجال على حد سواء.
ومن الجدير بالذكر أن قاسم أمين لم يطالب برفع الحجاب دفعة واحدة عن النساء لأن ذلك الانقلاب قد ينتج عنه مفاسد كثيرة، وبالتالي لا نستطيع الوصول للهدف المنشود، وإنما يطالب بإعداد الفتيات منذ الصبا إلى هذا التغيير، وأن يتعودن على الاستقلال ويدركن أن احترام المرأة لا يكمن في الحجاب وإنما في أخلاقها وذاتها.
رابعا: العلاقة بين ما طالب به قاسم أمين واتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة: [17]
تتأسس هذه الاتفاقية على مبدأ المساواة التامة في الحقوق بين الرجل والمرأة في كافة المجالات، وضرورة العمل على سن تشريعات وطنية لحظر التمييز ضد المرأة، كما توصي باتخاذ التدابير اللازمة لتحقيق تلك المساواة. وتتكون هذه الاتفاقية من ديباجة و 30 مادة. تؤكد الديباجة على أن تحقيق التنمية التامة والتطور الكامل لبلد ما وتحقيق السلام العالمي يتطلب مشاركة المرأة إلى أقصى الحدود في كافة الميادين. ولتحقيق تلك المساواة لابد من إصدرات تغييرات في السلوك وفي الدور التقليدي للرجل والمرأة، وينبغي تقاسم المسؤولية بين الرجل والمرأة والمجتمع ككل للنهوض بتنشئة الأطفال وتنمية المجتمع. كما تلزم هذه الاتفاقية الدول الأطراف انتهاج سياسة القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة بل والعمل على اتخاذ عدد من التدابير الأساسية لضمان المساواة بين الجنسين.
يؤسس قاسم أمين فكره على أن المرأة والرجل كلاهما إنسان لكل منهما حقوق وعليه واجبات؛ فالمرأة مثل الرجل لا تختلف عنه في المشاعر أو الفكر أو في أي شيء يتعلق بالإنسان لكونه إنسانا. ونلاحظ أن مفهوم قاسم أمين عن طبيعة المرأة يكاد لا يختلف جوهريا عن المفهوم الذي تبنته هذه الاتفاقية والتي اعتمدتها منظمة الأمم المتحدة بعد ثماني عقود من صدور كتابي قاسم أمين.
- كيف يتم القضاء على التمييز من وجهة نظر قاسم أمين؟
كما أوضحنا سابقا، أن القضاء على التمييز من وجهة نظر قاسم أمين يأتي من خلال القضاء على الانحطاط الذي تردت إليه أوضاع المرأة المصرية والعربية والمسلمة وهو إنهاء لما تتعرض له من احتقار وتهميش. وعندما نربط ما قاله قاسم أمين في هذا الصدد بالمادة الثانية من الاتفاقية نلاحظ أنه من حيث المبدأ يتطلع إلى منح المرأة جميع الحقوق والواجبات وإلغاء كافة أشكال التمييز، ولكنه يدرك أن ذلك لن يتم دفعة واحدة وإنما على تدرج منتظم.
- تعديل الأنماط السلوكية والقضاء على التمييز الجنسي:
تدعو المادة (5) من الاتفاقية إلى تعديل الأنماط الاجتماعية والثقافية لسلوك الرجل والمرأة بهدف القضاء على فكرة دونية أحد الجنسين وكفالة التفهم السليم للأمومة بوصفها وظيفة اجتماعية والاعتراف بالمسؤلية المشتركة للوالدين في تنشئتة أطفالهم.
ونجد صدى ذلك في أفكار قاسم أمين الذي يرى أن التقدم نحو المساواة يتطلب إحداث تغييرات اجتماعية واقتصادية وثقافية والتصدي لأفكار والممارسات التي تفضي إلى إقصاء المرأة وتهميشها ومكافحة التوزيع النمطي للأدوار بين الرجل والمرأة في الحياة الداخلية والخارجية. وإلغاء فكرة تفوق الرجل وتميزه وغير ذلك من تصنيفات نمطية وأحكام تقوم على أساس جندري.
أما بالنسبة إلى المادة (6) من هذه الاتفاقية والتي تنص على ” أن تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير اللازمة بما في ذلك والتشريعي فيها المكافحة لجميع أشكال الاتجار بالمرأة واستغلالها”. ونلاحظ أن قاسم أمين حدد ثلاثة أنواع من الأعمال التي يقوم بها أي إنسان وهي: الأعمال التي يحفظ المرء بها حياته، والأعمال التي تفيد العائلة، والأعمال التي تفيد الوجود الاجتماعي. ويرى أنه من خلال التربية الصحيحة يستطيع الفرد سواء كان رجلا أو امرأة أن يقوم بتلك الأعمال ومراعاة التراتب الطبيعي. ولكي يتم الحفاظ على المرأة وحمايتها من الاتجار بها أو استغلالها فلابد من تربية عقلها وتهذيب أخلاقها.
ومن الجدير بالذكر أن قاسم أمين عمل على توسيع مفهوم “الاستغلال والاتجار والاسترقاق”؛ فالرق يعني “ليس هو الإنسان الذي يباح الاتجار به فقط وإنما هو كل من لم يملك قيادة فكره وإرادته وعمله ملكا تاماً. كما أن أشكال الاستعباد متنوعة ومختلفة باختلاف الطبقات الاجتماعية ومن مظاهر ذلك على سبيل المثال: تقبيل المرأة يد الرجل، عدم جلوس النساء مع الرجال لمشاركتهم تناول الطعام، حبس المرأة في البيت، وتزويجها من رجل لا تعرفه ومن غير أن يكون لها رأي فيه. وبالتالي نلاحظ أن المرأة لا تعيش بنفسها ولنفسها وإنما تعيش بالرجل وللرجل. ولكي يتم القضاء على هذا النوع من الاستعباد فلابد من تمزيق الحجاب ومحو آثاره.
ومن العوامل الأساسية التي تؤدي إلى تعرض المرأة لكافة أشكال الاستبداد – من وجهة نظر قاسم أمين- هي الجهل والفقر والاستبداد. فلابد من خلع الحجاب حتى تستطيع المرأة أن تؤدي عملها وتشبع احتياجتها، فكثير من النساء لا يجدن من يعولهن.
ويطالب قاسم أمين في إطار مطالبته بتحرير المرأة بأن يتم توسيع القاعدة الفقهية والتي مؤداها “الضرورات تبيح المحظورات” ومن ثم إباحة كشف الوجه والخروج من البيت ومزاولة أعمال الرجال والاختلاط بهم والحصول على تعليم يؤهلها إلى العمل.
الخاتمة:
لقد عرضنا في هذه الورقة أهم الأفكار التي تناولها قاسم أمين عن حقوق المرأة في كتابيه “تحرير المرأة” و”المرأة الجديدة”. ونلاحظ أنه لم يتطرق إلى تحرير المرأة فقط بل نادى بتحرير العقول أيضا، كما أنه وصف الداء والدواء في وقت واحد، وذلك عندما وضح أن السبب الرئيسي في انحطاط حال الأمة هو واقع المرأة المؤسف التي كانت تعيشه، حيث كان يتم التعامل معها باحتقار شديد على اعتبار أنها ليست إنسانة وإنما هي مجرد شيء ملحق بالرجل ووجودها مرتبط بوجود الرجل، وبالتالي طالب قاسم أمين بضرورة المساواة بين الرجل والمرأة في كافة المجالات. من الجدير بالذكر أن قاسم أمين تعرض للكثير من الانتقادات فيما يتعلق بمسألة الحجاب وأنه يدعو إلى الفجور، ولكن من خلال قرأتنا الدقيقة لكتابيه نلاحظ أنه يتحدث عن الحجاب بمعناه الواسع “ستر المرأة عن المجتمع كله” وأن تبقى محبوسة في البيت.
وفي هذا السياق نلاحظ أن قاسم أمين عند حديثه عن حقوق المرأة ربط بين الحقوق والواجبات، فلكي تحصل المرأة على كامل حقوقها لابد أن تؤدي ما عليها من الالتزامات ومسؤوليات تجاه عائلتها ومجتمعها. كما قمنا بالربط بين ما طالب به قاسم أمين وما جاء باتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز والتي صدقت عليها بموجب قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد ثمان عقود من إصدار كتابي قاسم أمين.
وأخيرا، على الرغم من مرور أكثر من قرن على إصدار كتابي قاسم أمين وإصدار العديد من الاتفاقيات التي تؤكد على حقوق المرأة القضاء على كافة أشكال التمييز ضدها فمازالت هناك العديد من الانتهاكات ضد حقوق المرأة في كثير من الدول المتقدمة والنامية على حد سواء، حيث تتعرض النساء للاغتصاب والزواج القسري والتحرش فضلا عن العنف والتمييز السلبي.
[1] تطور حقوق النساء ضمن حقوق الإنسان، الموقع الرسمي للتجمع النسائي الديمقراطي اللبناني، متاح على https://bit.ly/2WvP2UN
[2] Nadia sonneveld, From the liberation of women to the liberation of men century of family law reform in Egypt, Religion and Gender, vol.7, no1, (2017), p17.
[3] السيد أمين شلبي، قاسم أمين بين المصريين وتحرير المرأة، جريدة الحياة، متاح على https://bit.ly/2Ouksrv
[4] Nadia sonneveld, p92
[5] قاسم أمين، تحرير المرأة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012،ص
[6] قاسم أمين، المرأة الجديدة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012، ص 9-10
[7] المرجع السابق، ص15.
قاسم أين، تحرير المرأة، مرجع سبق ذكره، ص15. [8]
[9] المرجع السابق، ص
[10] حسين سعد، تحرير المرأة وعلمنة المجتمع عند قاسم أمين، مجلة الحوار المتمدن، العدد 925، متاح على https://bit.ly/2U837Kv
[11] قاسم أمين، تحرير المرأة، مرجع سبق ذكره، ص68-69.
[12] قاسم أمين، المرأة الجديدة، مرجع سبق ذكره، ص58.
[13] قاسم أمين، المرأة الجديدة، ص59.
[14] قاسم أمين، تحرير المرأة، مرجع سبق ذكره، ص74.
[15] قاسم أمين، المرجع السابق، ص 75-77-78
[16] قاسم أمين، المرأة الجديدة، مرجع سبق ذكره، ص79
[17] عبدالرحمن بيسيو، قاسم أمين وطاهر الحداد مفكران تنويريان في مرايا حقوق المرأة، موقع مجلة الجديد اللندنية، تاريخ النشر 1-12-2015، متاح على https://bit.ly/2TGQZvP
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبتها/كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.