feministconsciousnessrevolution- لا أستطيع تذكّر كم كان عمري حين تعرضت للتحرش الجسدي لأول مرة، هل كنت في التاسعة من عمري؟ أو في العاشرة؟ لا أعرف، أتوقّف عن الكتابة، أشرد، أعود بالذّكريات، أرى صوراً من الماضي، أحاول التركيز، وأقول لنفسي ما الفائدة من كل هذا؟
أعود لأعرض حبل الذكريات في ذهني، أعود للسنوات التي لا أتذكّر منها سوى هذا الإنتهاك وكيف بدى لي في صغري والإنطباع والشعور الذي لا أزال أحمله تجاهه. لا شكّ أن ثقل ما حدث يهلك ذاكرتي ويوجع روحي، لكنّني أتذكّر السياق، أتذكّر الأشخاص الموجودين، أتذكّر أيضاً الظروف التي خلقت هذا السياق وأتذكّر المكان. أجل، أتذكّر كل التفاصيل، أعلم جيّدا ماذا حدث وكم مرّة مرّر يده على صدري ولكم من الوقت. ثوان نعم، بالتّأكيد، لكنّني أتذكّرها للآن وأتذكّر كيف بدت لي حينها.
نعم، أتذكّر. لعلّني أتذكّر الصدمة، لكنها خارج زمانها، لا أستطيع تذكّر عمري، ولست قادرة على تصفّح أرشيفي الذهني، خارج زمان هذه التجربة لأنّها تعيش داخلي أثرها منحوت داخلي وخارج زمانها، لأنها لا تنتمي لزمن.
لا أتذكر عمري، رغم أنني أتذكّر ملابسي، التيشرت الأبيض المريح الذي ترتسم عليه، بشكل شجرة، خطوط بلون الأزرق السماوي وجينز كانت قد أهدتهما لي قريبتي. كلا، أعتقد أنّني تذكّرت للتو، ياللهول، ذاك التيشرت الأبيض الآخر والمكتوب عليه باللون الأزرق السماوي أهدته لي قريبتي الثانية عند رجوعها من سفرها من البرازيل. أي أنني كنت في الثامنة من عمري… لكن هل أنا متأكّدة من ذلك؟ أيعقل أن هذا التشابه بين الملابس هو الذي يشوّش ذاكرتي؟
كل هذه الحيرة، والذاكرة المشوشة، والبحث عن اجابات، لم تغير من لحظة الإدراك، إدراك الاعتداء وتمييزه، في تلك اللحظة عندما تحرّش بي عرفت ماهو التحرّش.
فتاة في الثامنة أو التاسعة أو العاشرة من عمرها لم تنتظر تعريف أوكسفورد للتحرش لتدرك أن ما قد حدث للتو كان انتهاك لجسدها الصغير. أدركت ما فعله، فهمت، رغم أنني تظاهرت بعدم فهمه أمامه، لكنّني أخذت مسافتي منه لحماية مساحتي.
هؤلاء المعتوهين يعتدون لسبب. يقدمون على هكذا فعل، فلنسمّيه، يقدمون على التحرش. فلنسمّيهم إذاً، هؤلاء المتحرّشون متحرّشون معتوهون لسبب. لأنّهم وبكل بساطة، يتخطّون الشباك الشائك ويجتازونه بعيونهم، أيديهم، فمهم، أصابعهم، أعضائهم المقززة، غازين مساحة من يحسبونهن غير مدركات لما يحدث على أجسادهن.
تجربتي هي واحدة من تلك الجروح التي تنحت فينا، وتنتصر على الزمن في ذاكرتنا وذواتنا. هي لكل زمان. أجل، هذا ما أكّدته لي تجربة التحرّش الثانية كنت في الثانية أو الثالثة عشر من عمري، والمرة الثالثة التي تعرّضت فيها للتحرش والمرة الرابعة، أتذكّرهما بوضوح حادثتان متباعدتين زمنيا وعند حدوثهما كنت أكبر سناً، وبالتالي أصبحت أعي كيف أوقف بطريقة أو بأخرى هذا الهجوم على جسدي.
أنا مدينة لذاتي بإنصاف نفسي وجسدي معاً. وأعي جيّدا أهمية تجربة التحرّش الثانية لما كان لها من أثر خفي مسيطر علي. لم أعرف كيف أعبّر عنها، لم أشعر أنني معنية بالأمر. ربّما لأنني حينها انفصلت عن جسدي الذي كان يتلقى كل حركة من ذاك المعتوه، والانفصال أيضا عن ما أيقظته هذه المرّات المتكرّرة بداخلي.
لست أكيدة كيف سأكتب عن المرّات الثانية التي تحرّش بي فيها المعتوه الآخر. المرات الثانية مختلفة. أوّلا لأنّني قد دفنتها عميقا. وثانيا، لأنّها حدثت على مرّات متوالية. ببساطة كانت حادثة التحرّش الثانية التي تكرّرت وتكرّرت ولم تعرف التوقف إلّا عندما ابتعدت وأصبحت أتجنّبه. هي الحادثة الوحيدة، التي وبالرغم من تكرارها، أجد صعوبة في تذكّر حدوثها وتفاصيلها حتى أنني، ولفترة طويلة، تناسيتها.
لم أعي وقتها ما كان يحدث واخترت تجاهله لأنه قد ايقظ فيّ شيئا أحاول حتى الساعة أن أجد طريقي له. هي رحلة بحث عن ذاتي بدأت خوضها منذ سنوات، سأقول أيضا أنني أخوضها بوعي وحب أو بالأحرى بدفئ وعاطفة تغمرني عندما استرجع تلك التجارب المؤلمة ومايصحبها من مشاعر البرد أو الاضطراب، أو الاثنين معاً.
أذكر أنّ عيناي نظرتا بعيدا كنت ولم أكن. تجمدت لكنّني واصلت الحركة. داخلي يغلي وأنا أطفئه. أذكر شعوري بالاختناق ومحاولتي حبس هذا الاحساس. هذه التفاصيل أشعر بها داخلي بينما جسدي يتلقّى كل حركة من المعتدي ويرد على كل منها بشعور مختلف يتلقّها وأنا شاردة الذهن وعقلي منفصل عن حاضري، أرغمت نفسي على الصمت خوفاً مما أحاول نسيانه أفكار الخجل والخوف والتقليل من شأن الاعتداء.
أفسح اليوم المجال لأن “أكون”، أكشف وأعبّر عن ذاتي بمشاركة ما في داخلي. دون خوف وتردّد دون التشكيك المستمر، وأسترد الثقة التي فقدتها.
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.