د. عروب المصري/ قاسيون- ترزح قرابة أربعة آلاف عام أو أقل من ذلك، في ذاكرة النساء في تراكم لحالة القهر والضغط المستمر والمتفاوت في شدته، عبر عصور من الوضع الناجم عن المنطق الاقتصادي للإنتاج، غير القادر في الوقت ذاته على إفقاد العقل الباطن والذاكرة الجمعية ملامح تلك الأيام التي لم تكن فيها المرأة إلا كائناً متوازياً، لا يعتبر اختلافه نقيصة.
نكتب عن الحب
إن كانت أكثر مواضيع الأدب والفن تشويقاً وقرباً إلى قلب الإنسان هي الحب، وكل ما تتضمنه العلاقات العاطفية من تفاصيل ترتبط ارتباطاً وثيقاً بوضع النمط الاقتصادي الذي يشمل المرأة كما يشمل الرجل في المكان والزمان، وكل العلاقات التي يفرزها ويحددها هذا النمط، والتغيرات الناجمة عن محاولات كسره؛ فإن الانعكاس المباشر لها يكون فيما يكتب عن المرأة، وفيما تكتبه المرأة مباشرة في تجسيد لعلاقات الحب وتأثرها بالوسط الاجتماعي الاقتصادي المحيط بها في مختلف الأزمان.
رفض المنظومة الحالية
وتبقى ذكريات ما قبل القهر الاجتماعي والطبقي، الذي زامن الآلاف الأولى من الجنس البشري، موجودة في الذاكرة القديمة التي تندرج تحت مسميات متعددة كالذاكرة الجمعية واللاوعي والشعور جزءاً من أحد طرفي المنظومتين المتصارعتين، وتقف على الضفة الأخرى منظومة القيم التي تفرضها الطبقات السائدة والتي تمجد حتى اليوم تلك السيطرة الذكورية التي فرضتها المجتمعات الطبقية من خلال تقسيم العمل؛ ويظهر الصراع بين هاتين المنظومتين في الأدب، في خط بياني متعرج صاعد في محصلته العامة نحو رفض المنظومة الحالية، في بحث عن منظومة جديدة، تكون في بعدها العميق أقرب إلى المنظومة غير الطبقية وفي ظاهرها معبرة عن حصيلة تطور أصبح واقعاً ينبغي الارتقاء إلى مرحلة أكثر رقياً وتطوراً.
العبدات المزدوجات
حينما كتبت الأديبات في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين فيما سمي لاحقاً بالأدب النسوي (وكأن للأدب جنساً) كان الصراع الداخلي لمن تكتب متجلياً في التعبير عن سقف طموحات تلك المرحلة (وخاصة أن من تكتبن كن غالباً بنات الطبقات الأرستقراطية المتهالكة والبورجوازية الصاعدة) المتمثلة في الحقوق الأساسية المتعلقة بالتعليم والعمل والتعبير عما يجول في الصدور؛ وبين الأحكام القاسية لمجتمعات لم تعتد على أن تتكلم تلك العبدات المزدوجات (عبوديتين- 2 في 1، لذلك سمح للعبدات الإفراديات بالتعبير، أي: لم يسمح للعاملات بذلك، بل وفي بعض الأحيان يكون ثلاثياً مع إضافة أنواع التمييز العرقي والديني وغيره).
نسويات
لكن الأدب المدوّن، استمر امتيازاً ذكورياً، ومع تطور نموذج جديد وقوة مثل لا يمكن إخفاؤها بالغربال، مع ظهور حياة جديدة للنساء في الدول الاشتراكية، لم يعد من الممكن إخفاء إمكانية وجود طريقة مختلفة للحياة، أمل أكبر في العودة إلى الطبيعة الإنسانية التي فرضتها التشكيلات الطبقية.
وظهرت مع تلك المرحلة في الغرب الحركات النسوية وداعياتها المتطرفات اللواتي وبتحريك متعمد من حارفي البوصلة الطبقة، وجهن سهامهن إلى «العدو» الرجل.
عصر الحريم
ظهر نمط مرافق من الأدب (الدعاري) الذي يعكس صورة المرأة المرتبطة بنمط الاستهلاك الغربي المناقض لنمط الدول الاشتراكية، معيداً إلى الأذهان مرحلة العبودية الأولى حيث بدأ بيع النساء، والأدب المنحرف في الاتجاهات كلها، المتوافق مع معايير جوائز الآداب العالمية، التي تشترط توفر مجموعة القيم التي تريد ترويجها، البعيدة عن آمال الإنسان الحقيقية في مجتمع خال من الاستغلال.
مع نهاية الألفية الثانية وبداية الثالثة، تمكن أدب الحنين إلى عصر الحريم من التسلل إلى الأدب العالمي في هيئة أدب صوفي (وهو أبعد ما يكون عن قيم الصوفية، لكنه قادر على تمثل الشكل) يحمل الكثير من الروحانيات التي تفتقدها المجتمعات الرأسمالية القاسية، محملاً بجرعة من الرومانسية البعيدة عن قسوة اليوم الخانقة، في نوع من الهروب من الواقع إلى الوراء ألف سنة خلت، والتسليم بالمقسوم الطبقي.
أسيرات أم مغيّرات
على اعتبار أن من تكتبن من النساء ما زلن أسيرات منظومة الإنتاج والنشر الحالية، والمنظمات الأخلاقية السائدة، فمن النادر أن تفلت إحداهن من هذا الإطار لتكتب عما يجول حقيقة في عقلها وقلبها من أمل حقيقي لتغيير واقعي، دون إدانات مجتمعية، وتقييم أدبي منحاز إلى المنظومات المعتمدة.
ويظهر يوماً بعد يوم نمط من الكاتبات اللواتي يدركن بشكل أعمق الأبعاد الحقيقية لما يسمى الأدب النسوي ودعاته ومحاربيه، ويكتبن عن الإنسان، ومستقبل الإنسانية القابل للتغيير في المستقبل المنظور، في ظل تغيرات باتت واضحة، يمكن أن يلعب البناء الفوقي فيها (بما فيه ما يكتبن) دوراً في تغيير البناء التحتي.
إنها دعوة مباشرة للمساهمة في الكتابة ممن وقع عليهن الظلم المضاعف، ومن يمكنهن أن يصنعن من هذا الطحين خبزاً يقدمنه للإنسانية.