منى أسعد/مجلة “طلعنا عالحرية”- كتب “الفيكونت فيليب دي طرازي” وهو أشهر مؤرخي الصحافة العربية، في كتابه “تاريخ الصحافة العربية” المنشور عام 1913م ترجمة كاملة عن”مريانا مرّاش” يؤكد فيها أنّها كانت أوّل سيدة عربية كتبت في الصحف “السيارة”، أي إنها الرائدة الحقيقية في هذا المجال.
ويتابع الفيكونت في كتابه أنّ: “مريانا بنت فتح الله مرّاش” ولدت في حلب شهر آب/ أغسطس من سنة 1848م، وكان أبوها “فتح الله مرّاش” رجلاً أديباً عُني بالمطالعة واقتناء الكتب، وجمع مكتبة نفيسة، وله كتابات عديدة مختلفة لم تطبع”.
ولعلّ الباحث والصحفي “سامي الكيالي” كان أكثر من أحاط بشخصية “مريانا مراش” وعصرها، في دراسة له متأخرة تعود لسنة 1957 في صحيفة “الحديث” الحلبية التي كان قد أصدرها قبل ثلاثين عاماً من ذلك التاريخ، حيث يضيف: “كان بيت أبيها من البيوت العريقة التي لها مشاركة بحياة الفكر والأدب، وكان لأخويها فرانسيس وعبد الله -والأول شاعر طبيب، والثاني تاجر أديب- أثرهما المهم في توجيهها نحو حياة الفكر”.
وتُجمع المصادر أنها دخلت المدرسة المارونية في الخامسة من عمرها، ثمّ انتقلت إلى المدرسة الإنجيليّة في بيروت، فدرست فيها مبادئ اللغة العربية والحساب وبعض العلوم، إضافة إلى اللغة الفرنسية، لكن والدها أعاد تعليمها الفرنسية، وقواعد الصرف والنحو والعروض في اللغة العربية منذ الخامسة عشرة من عمرها، كما تتلمذت على يد أخويها في الأدب والمعرفة. كذلك درست فن الموسيقا وأتقنته جيداً بجهد شخصي.
بدأت مراش كتابة الشعر والمقالات في سنٍ مبكرة، حيث نشرت أولى مقالاتها “شامة الجنان” في مجلة “الجنان” سنة 1870م. كذلك نشرت مبكراً في جريدة “لسان الحال”، وإذا كانت المراش في شعرها ذهبت مذاهب تقليدية في المديح والغزل والحكم والوصف، إضافة للرثاء، فإنّها تميّزت بغزلها الرقيق، كما أشتهر رثاؤها لشقيقها فرنسيس، وقد جمعت أشعارها التي تعود لأعوام 1874 وحتى 1888 في ديوان صغير بعنوان “بنت فكر” صدر عن “المطبعة الأدبية” في بيروت عام 1893م، ويؤخذ عليها مديح بعض رجال الدولة وبعض رجال السلك القنصلي والسياسي ممّن كانوا يترددون على صالونها، بمن فيهم والي حلب العثماني.
إلاّ أنّها في باب المقالات كانت ناقدة ومُجدّدة معاً، خاصّة وأنّها سافرت كثيراً إلى أوروبا، حيث اطلعت على تجارب التمدّن والحداثة، ووسّعت آفاق معارفها، فانتقدت الحال المزري لوضع المرأة في مجتمعاتنا، كما انتقدت العادات الشائعة لبنات جيلها، وبدأت تبث فيهنّ روح التحدّي وتدعوهنّ إلى المطالبة بحقوقهنّ. من خلال “التزين بالعلم والتحلي بالمعرفة، والتحرّر من التقاليد والخرافات”، كما يقول الكيالي.
ولم يكن اهتمامها بالقضايا النسوية مُجرّد مشاعر ذاتيّة واهتمام ثقافي، بقدر ما هو انتماء ونضال حقيقي إن صح التعبير، حيث عملت مع لفيف من نساء تلك المرحلة الرائدات على تأسيس جمعية علمية أدبيّة نسائيّة عام 1880م، باسم “باكورة سورية”، كانت تهدف، إلى تنوير نساء جيلها بمفاهيم المساواة بالرجل وتحسين وضعهن في المجتمع، “حتى تقاسم المرأة الرجل أشغاله علماً وأدباً، ويسعيان بيد واحدة نحو إصلاح المعيشة العائلية، وتحسين الهيئة الاجتماعية”، وقد استطاعت هذه الجمعية بعد عام واحد على انطلاقتها أن تجمع ست خُطب للسيدات، أُلقيت باسم الجمعية، وموضوعاتها، هي: الغاية التي خلق الإنسان لأجلها، وتهذيب العقل، والكتب ومطالعتها، والارتقاء، وحياة الإنسان وواجباته، وحقوق النساء، وقامت بطباعته وتوزيعه.
كما سعت المرّاش إلى نسج شبكة من العلاقات المتميزة لها في مستوى الاهتمام بالقضايا النسوية مع رائدات عصرها، كعائشة التيمورية (1840-1902) ووردة اليازجي (1838-1924) ووردة الترك (؟-1873)، وصولاً إلى مي زيادة (1886-1941).
ولايمكن النظر لأهميّة هذه الشخصيّة وما فعلته إلّا في السياق الزمني لتلك المرحلة، حيث يُظهر ذلك جرأتها وريادتها في مجالات شتى، وبشكل خاص ما يتعلق بحقوق المرأة وقضايا التعليم، التي انتقلت بها من مستوى الأحلام إلى مستوى البرامج والتحريض الدعوي، ولم تكن مراش أوّل سيدة عربية تكتب في الصحف مقالات متنوعة فقط، بل افتتحت في منزلها أوّل صالون أدبي، وكانت سابقة في ذلك على صالون “مي زيادة” في مصر، بل اعتبر أول صالون أدبي بمفهومه الحديث في الشرق العربي.
لم يمنعها من ذلك وضعها الاجتماعي كإمرأة متزوجة، ولا منعها عسف الحكم العثماني وظلامية تلك الفترة التي اتسمت بانغلاق الحياة الاجتماعية، بل وعلى العكس من ذلك نجحت مرّاش في استقطاب خيرة أدباء حلب ومثقفيها في تلك المرحلة، حيث تردّد إلى صالونها الأدبي كل من: رزق الله حسون، القسطاكي الحمصي، كامل الغزي، جبرائيل دلال وأخويها فرنسيس وعبد الله مرّاش، وآخرين كُثر، إضافة للفيف من السفراء والقناصل الغربيين والساسة وصولاً إلى الوالي العثماني، حيث يسمعون الموسيقى ويتنادمون بالشعر ويبحثون شؤون زمانهم وشجون بلادهم، وقد وصف ذلك الصالون القسطاكي الحمصي بقوله: “كان منزلها في حلب مثابة الفضلاء وملتقى الظرفاء والنبهاء وعشاق الأدب”.
وأوّل تعريف بمريانا مراش كتبته “لبيبة هاشم” في صحيفتها “فتاة الشرق”، حيث كانت مراش في أخريات سنيها تعاني من مرض “العصاب” الذي أودى بحياتها في حزيران من عام 1919 عن عمر يناهز 71 سنة. وبعد وفاة المراش قامت “هاشم” باستكتاب الباحث “إسكندر المعلوف” لباب “شهيرات النساء” في ذات الصحيفة، لكن البعض يعتبر أنّ أوّل من كتب عنها بعد وفاتها هو الأديب الشهير “جرجي نقولا باز” في كانون الأول/ يناير من العام 1919، لمجلة “الخدر” النسائية لصاحبتها عفيفة صعب.