الأجندة النسوية ضمن الدوائر التقدمية
الأجندة النسوية

لمى قنوت/ RowaqMaysaloon- منذ ثورة آذار/ مارس 2011، تحالف عدد من القوى السياسية المتعددة المشارب ضمن هيئات وتكتلات، وانبرى العديد من المواطنين والمواطنات إلى تأسيس منظمات مجتمع مدني، ويمكن القول إن العديد من التوافقات السابقة، سواءً بين القوى السياسية أو بين الأفراد في المنظمات، كانت بالإطار العريض، أي مناهضة نظام الاستبداد وبناء دولة ديمقراطية، من دون الخوض في تبنّي خطاب نهضوي تحرري جذري، بحجة عدم إثارة حفيظة المحافظين والإسلاميين، رجالًا ونساءً، أي تحالفات لها موقف من الظالم والمُضطهِد لا من الظلم والاضطهاد.

وعليه، فإن الالتفاف على المعاني كان، ومازال، مقصودًا، جهلًا كان أم خبثًا، وأصبحنا نسمع في الحيز العام، قبولًا بدولة المواطنة ورفضًا لتغير قوانين الأحوال الشخصية، قبولًا بحيادية الدولة ورفضًا للعلمانية، قبولًا بـ “ديمقراطية الأغلبية” في الاستفتاء على الدستور بهدف الاستقواء على الآخر ورفضًا للتنصيص دستوريًا على حرية الدين والمعتقد، قبولًا بدستور حساس للجندر وتجاهلًا أو رفضًا لحيادية الدولة تجاه جميع المكونات والأيديولوجيات، قبولًا بالحداثة ورفضًا لتحرير النساء من الأحكام الفقهية الذكورية، قبولًا في إنهاء العنف المبني على النوع الاجتماعي/الجندر، ورفضًا للمساواة في الإرث بين الجنسين.

ساهم في هذا الهذر أيضًا، تهافت بعض منظمات المجتمع المدني على التمويل المتعلق بقضايا الجندر، باعتباره، بحسب وجهة نظرهم، جزءًا من “سلة سلع” ومن السهل إضافته إلى سلالهم، يُعلي من شأن المنظمة أمام مموليها فيزداد تمثيلهم في المنابر الدولية وتنفتح آفاقٌ جديدة في الحصول على تمويل؛ شارك في ضبابية المفاهيم، تصميم “تكتيكي” من طرف بعض الشعبويين السلطويين، نساءً ورجالًا، للالتفاف على ما قد يؤثر عليهم وعلى عملهم سلبًا، فينفض من حولهم المريدون والمريدات، وخاصة أولئك الشعبويين الذين صنع منهم التمويل “نخبًا” وصنفهم المجتمع الدولي “قادة”.

وقبل الخوض في سمات تسفيل الأجندة النسوية وتهميشها ضمن الخطاب السياسي في الدوائر التقدمية، يجب على النص توضيح معنى تلك الدوائر، وعليه، فالمقصود بالدوائر التقدمية، أي المجموعات والأفراد أصحاب الخطاب الداعم لفظًا لقضايا المرأة، والمواطنة، والحريات، والعدالة الاجتماعية، والمناهض للاستبداد، لكنهم بالعمل من أجله، وفي الحيز الخاص يمارسون، كليًا أو جزئيًا، عكس خطابهم العلني. 

يتسم التصويب السياسي المناهض للأجندة النسوية بكاملها أو جزء منها، ضمن بعض الدوائر التقدمية بسمات متعددة، منها على سبيل المثال: 

هرمية النضالات واستبعاد غير السياسي منها، واهمين بأن قضايا النساء غير سياسية، ثانوية، مؤجلة، ويقع النضال في سبيلها على عاتقهن فحسب، إلا عندما يتعلق الأمر بجريمة الاغتصاب، فتصبح القضية وطنية، قضية وطن وأمة، وتُستحضر الصورة المجازية، والتي تربط الوطن – الأرض بالعرض، وهي الصورة – المخيال المؤسسة للعنف والتحكم بأجساد النساء، والتطبيع معهما بحسب الأجندة الأيديولوجية للنضال أو “للمعركة – الغزوة”.

إسقاط الهزيمة على الحراك النسوي من جانب الواقعيين أو ممتهني الواقعية، ممن يقبلون، نساءً ورجالًا، بتسويات سهلة ومريحة، تتيح لهم المشاركة، ودون عناء، في فتات ترميها لهم السلطات ودوائر متنفذيها، فنراهم يؤطرون أفكارهم وأعمالهم وفق المثل القائل “امشي جنب الحيط” و” العين لا تقاوم المخرز”. إن هؤلاء “المهزومين جينيًا”، وبحجة الواقعية يستخفون بمقاومة الاستبداد المتعدد الأشكال، وبالنضال من أجل التغيير الجذري.

نزع شرعيتها بحجة عدم أصالتها، فتتالى اتهاماتٌ من نوع “الانبهار بالغرب”، وتُرفع سيوف المقدس، للحفاظ على عدم وهن نفسية “المجتمع المحافظ”.

احتلال المساحات المؤثرة حتى ضمن الدوائر التقدمية، ويتضمن:

المساحات الفيزيائية: في أغلب الأحيان تُدعى النساء إلى المشاركة في الأحزاب والكتل السياسية بعد تشكيل أو اختيار “الكتلة الصلبة” أو “النواة الصلبة” وإعداد الأوراق السياسية التأسيسية، وغالبًا ما يستمر عمل هذه الكتلة/ النواة كمطبخ سياسي لرسم التكتيكات الاستراتيجية التي يعتقدون أنها مهمة، وعادة، تُقصى النساء عنها لمزاعم، بحسب وجهة نظرهم، بأنها مطابخ سياسية ويحتاج اتخاذ القرارات فيها صقوراً،[1] ولا تبتعد رؤية أعضاء المراكز البحثية و الهيئات المنتجة للمعرفة عن هذا التوجه، فمثلًا انتُخبت د. ليلى الصباغ عضوة عاملة في مجمع اللغة العربية في دمشق في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 1998، كأول امرأة عضوة فيه، منذ تأسيسه عام 1919، أي بعد 79 عامًا من تأسيسه.[2]

احتكار المساحات في المنابر الدولية سمة بارزة لدى منظمات المجتمع المدني، ومن ضمنها المنظمات النسائية والنسوية، ولم يُكسر هذا الاحتكار، وتحديدًا لدى المنظمات الأخيرة إلا خلال جائحة كورونا، لأن اللقاءات الافتراضية (webinars) وسّعت دائرة المشاركة من خارج محتكرات المشهد والسلطة، الطامحات لمواقع متقدّمة. 

مساحات الكلام، وهي تجسيد آخر من احتلال الحيز العام، ويتم التعامل مع من حظيت بامتياز امتلاك مساحة صغيرة للتعبير والمشاركة، وكأنها ناطقة رسمية باسم “الحركة النسوية أو النسائية”، وتصبح الأسئلة الموجهة لها، مثلًا، “ما رأي الحركة النسائية بكذا..” وكأن الحراك النسوي والنسائي كتلة واحدة منسجمة ومتجانسة!

ويحدث في بعض تلك المساحات الصغيرة أن يتعرضن لأشكال من التعنيف الناعم، كأن تتم مقاطعتهن في أثناء الكلام، أو النظر إلى الساعة في إيحاء لهن بأن الوقت انتهى وعليهن إنهاء كلامهن، أو يتم استثناؤهن من لقب الأستاذة كما يُطلق لقب الأستاذ على زملائهن من الذكور.

اتباع “كتالوك” العمل الذكوري، ويشمل هذا المنهج عدة نواح:

أولًا- “الأستذة الذكورية” كادعاء المعرفة بالقضية المطروحة، وتصويب الرأي المخالف، والتقليل من شأن قائلته، وتمييع رأيها، تارة بالاستخفاف وبالمزاح وتارة أخرى بتغيير الموضوع وحرفه.

ومن ضمن “الأستذة الذكورية” ظاهرة الـ”مانسبلينغ” (Mansplaining) وهو مصطلح مركب لتوصيف سلوك الرجل الذي يدعي المعرفة ويفسّرُ بتعالي لشخص ما، غالبًا ما يكون امرأة، عن أي شيء يَفترضُ فيه جزافًا بأنه الأكثرَ معرفة وذكاءً وكفاءة. توضح كيم غودوين في مخططها البياني الشهير[3] أنه يمكن تحديد فيما إذا كان تفسير أحدِهم هو “مانسبلينغ” بثلاث نقاط: هل طُلبَ منه الشرح؟ هل قام الشارح، بافتراض خاطئ، بأن الشخص الآخر غير كفؤ؟ وهل إجابتا الشارح على السؤالين السابقين مرتبطتان بمعتقدات راسخة فيها تمييز وتحيز؟

ثانيًا- الشخصنة، بالابتعاد عن النقد والحوار الموضوعي وسوق الحجج، إلى استهداف الشخص ذاته وانتمائه وسلوكه وتحليل نياته، بهدف النيل منه ومن أفكاره والتقليل من شأنه.

ثالثًا- اللامرئية، هو شكل من أشكال السلوك العدواني – السلبي(Passive–aggressive behavior) ، الذي يبدو غير ضار أو عرضي أو محايد، ويتجلى بأشكال متعددة منها تجاهل الشخص واعتبار أفكاره غير مرئية أو غير مهمة ولا تستحق المناقشة، وعدم النظر إليه عندما يتحدث.

رابعًا- “الاستحقاق الذكوري” (Male Entitlement) وهو الجذر الأساس لكل ما سبق، ويمكن تعريفه بأنه انطلاق سلوكيات الرجال، وخصوصًا أولئك الذين تتطابق صفاتهم الجندرية مع الصفات المثالية للذكورة في المجتمع، من الاعتقاد الراسخ بأن المنظومة التمييزية غير العادلة للمزايا والفرص والحقوق المتاحة لهم على أساس جنسهم فحسب، هي أمر طبيعي وعادل، وأن أي نقاش في هذا الأمر هو مضيعة لوقتهم الثمين، وإن حصل فهو مكرمة منهم. هذا ويفترض الاستحقاق الذكوري بأن بقية فئات المجتمع هي أقل شأنًا وموجودة بالدرجة الأولى لخدمة أو تلبية أهواء هذه الفئة، وعليه يبرر الاستحقاق الذكوري لها أي ردة فعل عدائية من تعنيف وتحرش، وأن أي إجراء عقابي أو حتى المطالبة به هو تعدي على حقوق وحريات تلك الفئة ومظلومية لها.

لا يُخلق المرء نسويًا بل يصبح، من خلال التحليل والتعلّم والاشتباك مع منظومة الهيمنة الذكورية، ولا يُخلق المرء ذكوريًا أيضًا بل يصبح، من خلال منظومة أبوية كرّست تاريخياً اللامساواة بين الجنسين، من خلال التوزيع غير المتكافئ للموارد والفرص والقيود والسلطة، ويحتاج الخروج منها إلى إدراكها كمزايا حصّنها المجتمع والقانون أولاً، ثم خلخلة بناها السلطوية لتفكيكها ومعالجتها من جميع الجوانب، معرفياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً ومجتمعياً، لبناء دولة لا تُطبّع مع العنف ولا تُسفّل استبدادًا على استبداد.

[1] –  لمى قنوت، “المشاركة السياسية للمرأة السورية بين المتن والهامش، اللوبي النسوي السوري، منصة سياسية نسوية، 2017، صفحة 104-105، شوهد في 13/3/2021، في: https://bit.ly/38Ajfuc

[2] – “الدكتورة ليلى الصباغ”، مجمع اللغة العربية بدمشق، شوهد في 12/3/2021، في: https://bit.ly/30DO0de

[3] – كيم غودوين Kim Goodwin، “Mansplaining, explained in one simple chart”، BBC، شوهد في: 17/3/2021، في: https://www.bbc.com/worklife/article/20180727-mansplaining-explained-in-one-chart

الأجندة النسوية

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”. 

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015