الأيام السورية- تصغر أحلام المرأة السورية في سنواتها العجاف، وتتراوح بين لقمة عيش كريمة، وسقف منزل يستر عسرها ويسرها، وصدر حاني تتكأ عليه من تقلب الزمان وأهله.
تدخل أم سمير من باب المنزل، العرق يتصبب من جبينها، والإعياء باد على جسدها؛ أنهكته سنوات الحرب.
أكثر من خمس وأربعين عاماً قضتها من حياتها، أنهت جولتها الأسبوعية على جميع المنظمات في مدينة إدلب، عسى أن يكون قد حدث جديد في موضوع توسيع عدد المستفيدين من الكفالات الشهرية للمنكوبين الذي بات مصدر الدخل الوحيد للكثير من العائلات، وتحاول أم سمير أن تستفيد منها بعد اعتقال زوجها منذ خمس سنوات.
علامات القهر بادية على كل حركات جسدها لتفضح غدر السنين وتجبّرها على جسدها المرهف والمتعب، فهي السيدة الرصينة بنت العز، كانت زوجة أحد المتعهدين المرموقين في المدينة، التي لم تعتد الخروج من بيتها إلا على الرحلات والأسواق، تعيش حياة البذخ والعز، كانت تدور أيامها مثل الكثير من السيدات في سوريا، بين رعاية للمنزل، وتتفرغ لكل ما هو جديد من ضربات الموضة وصرعات الماركات، ومتابعة تعليم الأطفال في المدارس، رحلات رأس البسيط وصلنفة مع زوجها المحب وعمود الدار.
باتت اليوم تعيش في روتين قاتل سرق نضارة يديها وإشراقة عينيها، فهي المسؤولة عن حاجيات المنزل، وتأمين المصروف، والتسجيل في جمعيات الإغاثة، مع ذل السؤال والتوسل لدى منظمات كفالة الأيتام، تركيب أسطوانة الغاز وشرائها وحملها إلى الطابق الرابع، بعد أن اضطرت إلى فراق ولدها البكر بعد تركه دراسته الجامعية ليعمل في نقل الإسمنت في أحد المدن التركية.
أم سمير مسؤولة عن تسجيل بناتها الصبايا في الجامعة، وتأمين الأقساط الفصلية، أو ستغامر بهن بزواج سريع مقابل التخفيف عنها أعباء دراستهن وطعامهن.
بعد عشرة أيام قضتها في جولات مكوكية على المنظمات الإنسانية التي تجاوز عددها عدد الشوارع في مدينة إدلب، وبعد عدد من المحاولات اليائسة تحاول البحث عن الأصدقاء الأوفياء النادرين، للاستدانة وتأمين سعر أسطوانة الغاز عساها تقدم طبخة شهية لولدها الصغير بعد أن تقرّحت معدته من الزيت النباتي والزعتر التجاري، لتقودها قدماها إلى أحد صديقاتها المثقفات، ممن كانت تربطها بها علاقة طيبة، وسفرة فاخرة في مزرعتهم المهجورة الحزينة على مالكها أو من كان مالكها، وبعد تبادل التحيات والأشواق، تلمح تلك الصديقة علامات الجور والظلم على وجه وأنفاس أم محمد، فتحاول طمأنتها بأن الحال لن يطول هكذا، وأن الأمور في البلد تتجه نحو الأفضل، وأن هناك حكومتان تلوحان في الأفق بدل الحكومة، وأن هناك مؤتمران ينعقدان من أجل الشعب المقدس بدل المؤتمر، وبالتأكيد أنهم سيطالبون بالمعتقلين، كما أنها هي شخصياً ستمثل المرأة في أحد تلك المؤتمرات التي تحاك في الظل، وستطالب بوزارة للمرأة السورية تصون حقوقها، وتحفظ كرامتها، وستقدم لتلك الصابرة المحتسبة زوجة الشهيد والمعتقل الرواتب الشهرية كمناضلة حقيقية، وليست أرملة منسية على درب الحرية الممتهن للخونة، وتزرع في صدر أم سمير شيئاً من الياسمين الذي يبس في مزرعتها ليفوح في إشراقتها على بناتها، ويُسكت جوع الأبناء ويتغلب على رائحة الغاز المشتهاة، ولتثبت لصديقتها الصدوقة أنها سياسية محنكة وموفقة، فقد زرعت في أم سمير أحلاماً مخملية لتسكتها عن حاجتها الضرورية وتخرج مستحية من الطلب أمام الصديقة الوطنية الوفية.
تمرّ الأيام والوزارة أصبحت وزارات، والصديقة الممثلة أصبحت ممثلة للشعب، ومازالت أم سمير في جولتها الأسبوعية تلهث وراء الوعود بالكفالات، أومحاولة الوصول إلى أسطوانة الغاز على أقل تقدير، دون جدوى للمحاولة تُسلّم أم سمير أحلامها المتَكَّسرة على صخور الوطن السوري المغدور بيد أبنائه، وتُسَّلم بناتها بلا علمٍ يحميهن من غدر السنين وبلا سندٍ يكفيهن عوز الغريب والقريب، لزواج عقد في جنح ليل، حالها كحال كثير من نساء سورية الجريحة، اللواتي أصبحن أمهاتٍ وآباء، عاملات ومعلمات، هن الجيش الأخير المخلص لهذا الوطن الحزين .