رصيف22- يكفي الاستماع إلى أجزاء صغيرة من أغاني الأفراح المصرية الشعبية، لندرك ما يدور حوله جزء مهم من المفهوم العربي عن الشرف: عذرية النساء وغشاء بكارتهن.
“يا أبو اللبابيش يا قصب.. عندنا فرح واتنصب.. خد المنديل بدمها.. ونزل يفرج عمها..”. “قولوا لأبوها إن كان جعان يتعشى.. قولوا لأبوها الدم عبى الفرشة (ملأ الفراش).. قولوا لأبوها إن كان تعبان يرتاح.. قفل متربس وجاله المفتاح”.
هي مقاطع من أغانٍ شعبية متوارثة وشهيرة، تعبر عن الفرحة بالقماشة البيضاء المغمسة بدماء البكارة، وطهارة العذرية، على أنغام الطبل والمزمار والزغاريد، وتكشف جزءاً مهماً من الثقافة الشرقية.
مع ذلك، هل تنفرد الثقافة الشرقية بتلك النظرة للعذرية أم أن ثقافات العالم تحمل ما هو أكثر؟
في البدء كانت السلطة الذكورية
ينظر الكثير من علماء الاجتماع إلى العذرية بوصفها وسيلة للتحكم وفرض السيطرة في المجتمعات الذكورية والأبوية، والنظام الأبوي هو شكل من أشكال المجتمع الذي يتحكم فيه الذكور، غالباً الزوج أو الأب، في مصائر العائلة، ويحكما سيطرتهما الاقتصادية والسلوكية عليها.
ففي بداية المجتمعات البشرية، خلال عصور الصيد والجمع والالتقاط والعصر الحجري القديم والحديث، كانت النساء متساويات نسبياً مع الرجال، في المكانة الاجتماعية والمشاركة الفعالة في العمل، بل تميزت النساء في بعض الجوانب بفضل قدراتهن على تحمل وتربية الأطفال، ومع بداية ظهور المجتمعات الزراعية، شهد وضع المرأة تراجعاً حاداً.
كانت المجتمعات الزراعية مجتمعات أبوية بالمعنى الحرفي للكلمة، فقد سيطر الذكور عليها، واضطلع الزوج والأب بشؤون العائلة وقراراتها، لا سيما التعاملات المالية. وفي الغالب، أصبحت الملكية للرجال، وإن سمحت بعض المجتمعات للنساء بحيازة بعض الممتلكات، واللواتي كن في الغالب من الأرامل أو غير المتزوجات، فقد كان من العرف أن تؤول ممتلكات المرأة بعد زواجها إلى زوجها.
في ذلك الوقت كان الأطفال جزءاً من أدوات الإنتاج والثروة، وكان إنجابهم والسيطرة عليهم أمراً ضرورياً لاستمرار مكاسب العائلة. لذا كان لا بد من نظام يقيد وصول الرجال إلى النساء، ويضمن إحكام السيطرة عليهن، لعدم ممارسة الجنس دون موافقة كبير العائلة، وللتأكد من نسب الذرية وخضوعهن لسطوته.
حكايات تاريخية
تعكس الكثير من الحكايات التاريخية أهمية ملحوظة بعذرية الفتيات، في دلالة إلى الطهر والعفاف، اللذين يصلان في كثير من الأحيان إلى حد التقديس. فكان على كاهنات روما القديمة مثلاً، خلال القرن السابع قبل الميلاد، الحفاظ على غشاء بكارتهن كدليل على طهارتهن حتى عمر الثلاثين، وإلا واجهن مصير الدفن وهن أحياء.
وفي أوروبا العصور الوسطى، ظهرت أحزمة العفة، التي أجبرت الفتيات في سن المراهقة على ارتدائها، للحفاظ على عذريتهن حتى الزواج، ومنعهن من ممارسة العادة السرية. واستمر استخدام أحزمة العفة منذ ظهورها في أواخر القرن الـ17، حتى عقد الثلاثينيات من القرن العشرين.
وفي اليابان، اعتادت فتيات الغيشا عرض عذريتهن للبيع في طقوس واحتفالات خاصة، إلى أن جرم ذلك قانوناً عام 1959. على العكس، لا تزال مزادات بيع العذرية تقام إلى اليوم في بعض مناطق الهند، حيث تعرض عذرية الفتيات الصغيرات للبيع لدى وصولهن لسن البلوغ.
ومن الاعتقادات التي تنتشر في بعض أجزاء أفريقيا، أن ممارسة الجنس مع عذراء يمكن أن يشفي من مرض نقص المناعة أو الإيدز، وهو الاعتقاد الذي يؤدي إلى اغتصاب الكثير من الفتيات الصغيرات في تلك المناطق.
وبحسب تقرير نشرته هيئة الإذاعة البريطانية BBC، مطلع العام الجاري، دانت جماعات حقوق الإنسان، خطة تقدم منحاً دراسية للإناث، في المناطق الريفية في جنوب أفريقيا، حال إثبات عذريتهن. وذكر التقرير أن اختبار العذرية هو ممارسة شائعة وقانونية في ثقافة الزولو، تضطلع فيها النساء المسنات بالكشف عن عذرية الفتيات، وإن اشترط القانون موافقتهن على الخضوع للاختبار.
وفي بريطانيا، يؤكد المقربون من عائلة الأميرة ديانا، والعائلة المالكة، أن عذرية ديانا سبنسر، كانت أحد العوامل الأساسية في اختيارها كزوجة للأمير تشارلز. وعلى الرغم من عدم وجود تشريع ينص على عذرية العروس الملكية، فإن قانون الزواج الرسمي الوحيد، والمعروف بقانون الزواج الملكي 1772، يتطلب حصول أي سليل لجورج الثاني على الإذن والموافقة على العروس قبل الزواج، لأن للزواج في العائلة المالكة أهمية قصوى للدولة.
وفي حفلات الزفاف التركية، يقوم شقيق العروس بربط شريط أحمر حول خصرها باعتباره رمزاً لعذريتها، ما يعكس أهمية إعلان ذلك على الملأ. وكانت الحكومة التركية، حتى عام 2002، تسمح بإجراء اختبارات العذرية على الفتيات في المدارس، والمشتبه في ممارستهن للجنس دون زواج، وقد تم تجريم هذه الممارسات بعدما حاولت خمس طالبات الانتحار بتناول سم الفئران.
العذرية في الأساطير
وفي الأساطير القديمة، رمز وحيد القرن الخرافي (يونيكورن) للعذرية. وتشير الأساطير إلى أن العذارى انفردن بالقدرة على ترويض وحيد القرن الخرافي، وترويض النحل والحيوانات البرية، كما منعت إمبراطورية الآزتيك القديمة، في أمريكا الجنوبية، العذراوات من تناول فاكهة الأفوكادو. فقد اعتقدوا في قوتها الجنسية، ما استدعى حمايتهن منها حفاظاً على عذريتهن، ثم طهارتهن.
وفي الكتاب المقدس، عرض النبي لوط بناته العذراوات على أهل بلدته، لحماية ضيوفه من الملائكة، ما يشير إلى الجاذبية الجنسية الخاصة للعذراوات في عيون الرجال، كما جاء في سفري الخروج والتثنية، فإن الرجل الذي يراود عذراء لم تخطب ويغتصبها أو يضاجعها، فعليه أن يتزوجها ويدفع مهرها كمهر البنات البكر، الذي يزيد على مهر غير البكر، في إشارة واضحة إلى مكانة العذرية وغلو ثمنها.
ويقدم الإصحاح الثاني والعشرون من سفر التثنية، مبادىء الشريعة الموسوية حول الزنا والاغتصاب وممارسة الجنس بالتراضي، من دون أن يخلو من ذكر العذرية. فيقول: “إذا اتخذ رجل امرأة، وحين دخل عليها أبغضها، ونسب إليها أسباب كلام وأشاع عنها اسماً ردياً، وقال هذه المرأة اتخذتها ولما دنوت منها لم أجد لها عذرة. يأخذ الفتاة أبوها وأمها ويخرجان علامة عذرتها (أي دماء بكارتها) إلى شيوخ المدينة إلى الباب. ويقول أبو الفتاة للشيوخ: هذه علامة عذرة ابنتي. ويبسطان الثوب أمام شيوخ المدينة، فيأخذ شيوخ تلك المدينة الرجل ويؤدبونه، ويغرمونه بمئة من الفضة”، في تحريم واضح لرمي العذارى بما ليس فيهن.
وعلى العكس، الفصل التاريخي الطويل بين الدين والجنس في الثقافة الغربية الحديثة، أخرج العذرية من نطاق السيطرة الدينية، وأعطى المرأة خياراتها الجنسية. ونتيجةً لذلك أصبح للمرأة حرية ممارسة الجنس في الوقت ومع الشخص الذي تريده. ولم تعد العذرية فضيلة كبرى تتباهى بها العروس، كما لا يتوقع الرجال أن تكون زوجاتهم عذارى. ففي الواقع، يعتبر وجود فتاة عذراء أو رجل دون ماضٍ جنسي قبل الزواج، في الكثير من المجتمعات، نوعاً من الغرائب.
أعطهم شرفاً مزيفاً كما يريدون
في نهاية سبتمبر الماضي، طالب نائب البرلمان المصري إلهامي عجينة بتطبيق كشف العذرية على الطالبات داخل الجامعات، بشكل دوري، كمقترح منه للقضاء على ظاهرة الزواج العرفي. في الوقت الذي يشير فيه الدكتور إسلام الجاويش، أخصائي الطب النفسي، إلى خطورة اقتناع العقل الجمعي للمجتمع العربي بأن دماء البكارة هي الدليل على العذرية والطهارة.
ويضيف جاويش إلى أن ذلك يولد نظرة ريبة دائمة تجاه الإناث، تزيد القيود حول تحركاتهن وأنشطتهن، فيفقد المجتمع نصف قوته، وتصبح عملية ترقيع غشاء البكارة أو استخدام غشاء مطاطي صناعي هو الحل الأمثل لاستعادة الشرف المزعوم. وهو ما يصفه جاويش بإحدى حلقات النفاق، الذي يحكم سيطرته على المجتمع ويقيده، بدليل زيادة عدد عمليات ترقيع غشاء البكارة في المنطقة العربية، خلال السنوات الأخيرة، في وقت يزداد التطرف والالتزام الديني الظاهري داخل محيط المنطقة نفسها.
إلى ذلك، يلفت جاويش النظر إلى بدء الانتشار الواسع لما يعرف بـ”فوبيا غشاء البكارة” لدى الفتيات. فأصبح من المعتاد أن يقابل في حياته المهنية ومحيطه العائلي، فتيات على مشارف الزواج يعانين من اضطراب وتوتر شديدين نتيجة هاجس فقدان العذرية.
ومع أن معظمهن لم يخضن أي تجربة عاطفية أو اتصال حسي، فإن الأمر يرجع إلى خوف الفتيات من الوقوع فريسة للفهم الخاطىء والمتسرع من الزوج أو العائلة، حال رسوبهن في اختبار البكارة القاسي لسبب بيولوجي ليس بأيديهن، مثل غشاء البكارة المطاطي، الذي لا يتمزق عند حدوث اللقاء الجنسي للفتاة العذراء.
وتعمق ذلك الخوف، كما يذكر جاويش، الأخبار المتداولة على المواقع الإلكترونية والبرامج الفضائية، التي تشير إلى حوادث طلاق في ليلة الدخلة، وجرائم شرف بسبب البكارة.