تفيد منظمة الصحة العالمية بأن العنف ضد النساء والفتيات هو “مشكلة عالمية كبرى من مشاكل الصحة العمومية والمساواة بين الجنسين وتحدٍ تواجهه حقوق الإنسان، وهي تمس بكل البلدان وبفئات المجتمع كافة”.
ولاء خرمندة/ أبواب- وكنا قد تناولنا في الجزء الأول من ملفنا عن العنف ضد النساء بأشكاله المختلفة، كلاً من العنف الاقتصادي والقانوني، وكما أسلفنا فإن أنواع هذا العنف تتداخل بشدة ليدعم أحدها الأخر أو يودي إليه، ذلك أن جميع أنواع العنف ضد المرأة تنتج عن وجود التمييز ضدها على كافة المستويات، وسنتحدث اليوم عن نوعين من العنف متداخلين أيضا بشدة، وهما الأكثر انتشارًا ربما حيث ورد بأحد تقارير منظمة الصحة الوارد عام 2014 أن”نسبة 15% إلى 71% من النساء اللواتي تتراوح أعمارهن بين 15 و 45 عامًا يتعرضن لعنف العشير الجسدي و/ أو الجنسي” والتفاوت بين هذه النسب يخضع لتباين وضع النساء من مجتمع لاخر أو حتى داخل المجتمع الواحد.
ثالثًا: العنف الجسدي
يمكننا تعريف هذا النوع من العنف على أنه كل فعل يسبب أذية جسدية أو يهدف للإيذاء والإيلام جسديًا ويستهدف المرأة بشكل خاص، ويمكننا شمل الضرب والاعتداء، كما أن جميع أنواع العنف الجنسي تدرج عادةً كعنف جسدي، ولكن لأهمية الموضوع سنتحدث عن العنف الجنسي بشكل منفصل، وكذلك جرائم الشرف واستخدام العنف الجسدي ضد النساء كوسيلة حرب.
إن ممارسات كالضرب والأذية الجسدية أمر منتشر على مستوى العالم وغالبًا ما يصدر هذا النوع من الأذية على يد الزوج/الشريك، أو أفراد العائلة من الذكور، وقد يصل أحيانًا ليصبح سببًا موديًا إلى الوفاة، أو حرمانًا من حق الحياة بالقتل العمد كما في جرائم الشرف، ويبدو من خلال الإحصائيات القليلة المتوفرة عن الموضوع في الدول النامية، وبتلك الصادرة عن دول منتقدمة أن العنف الجسدي مازال متواجدًا في كافة الدول.
ويترتب على هذا النوع من العنف نتائج تنعكس على المرأة بمشكلات صحية جعلت منظمة الصحة العالمية تصنف هذا العنف بوصفه مشكلة صحية عالمية بأبعاد وبائية، ومن ذلك الإصابات البالغة والضرب المودي للوفاة، والإصابة بالأمراض المنقولة جنسيًا والتعرض للحمل غير المرغوب به وبالتالي الإجهاض أو الولادات العسيرة كنتيجة للعنف الجنسي.
كما أن هذا العنف قد يصل إلى مرحلة القتل العمد في حالات جرائم “الشرف” مثلا، ومازالت معظم الدول العربية تضمن في قوانينها تبريرًا لجرائم الشرف بوصفها عذرا مخففا لعقوبة القتل التي قد لا تتجاوز في بعض الدول شهورًا معدودة.
النساء المعنفات يتعرضن بصورة أكبر للمشكلات والاضطرابات النفسية كالإكتئاب
وتأتي التبعات النفسية أيضًا ناتجة عن العنف الجسدي ضد المرأة لتشكل ارتباطًا وثيقًا بين العنف الجسدي من جهة والنفسي من جهة أخرى، حيث يترك الضرب والإهانة المتعمدة آثاره على المرأة من حيث أن النساء اللواتي يتعرضن للعنف، يتعرضن بصورة أكبر للمشكلات والاضطرابات النفسية كالاكتئاب والخوف، ويمكن أن تزيد هذه المعاناة من مخاطر الإدمان على الكحوليات والمخدرات، كما أن الأشخاص الذين يتعرضون للعنف في مراحل الطفولة والمراهقة يميلون لممارسة هذا العنف لاحقًا، وبالتالي يتأثر أطفال الأم المعنفة بتبعات هذا العنف، كما أن الخدمات الطبية المقدمة على خلفية العنف البدني تكلف الدول مبالغ كبيرة لقاء هذه الخدمات من ناحية، وبسبب ضعف إنتاجية المرأة المعنفة من ناحية أخرى، وتميل النساء المعنفات لتكوين شخصيات مهزوزة، وربط هذا النوع من العنف بالعديد من العوامل كالتعليم والبيئة الاجتماعية إلا أنه مازال منتشرًا بكل المجتمعات وإن كان يتفاقم في هكذا بيئات.
ويبدو أن الحل للقضاء على هذا النوع من العنف يتطلب تعاونًا وثيقًا بين عدة جهات وجهودًا، أهمها:
- وعي النساء بحقوقهن، وضرورة الإخبار عن هذا العنف وعدم الصمت عليه، لأن على المرأة حربًا لتخوضها بهذا الخصوص.
- تعديل القوانين التمييزية التي تبيح هذا العنف أو تتساهل معه، وإلغاء الأسباب المخففة لجرائم الشرف، وتشديد القوانين بوجه معنفي النساء، وتعديل قوانين الاعتداء الجنسي المقصرة في المنطقة العربية.
- تقديم الخدمات والرعاية الصحية بما فيها النفسية للنساء المعنفات، وتقديم التوعية اللازمة لهن.
- العمل على محاربة العنف الجنسي ضد النساء بشكل خاص، سواء العنف الجنسي من الشريك، أو في أماكن العمل، وفي أوقات النزاعات، والتخلص من النظرة المجتمعية التي تظهر المرأة المعنفة كشريك أو سبب للعنف بدل أن تكون ضحيته.
ولابد من الإشارة إلى أن العنف الجسدي والجنسي، يشكلان جزءًا كبيرًا من أشكال العنف الأخرى الممارسة على النساء من حيث رقعة الانتشار الجغرافية وكذلك ارتفاع معدلات حدوث هذا العنف، إلا أن انخفاض هذه النسب في دول معينة يعني بأن هذا النوع من العنف قابل للسيطرة عليه، إذا ما تكافلت جهود المجتمع خصوصًا النساء والقانون.
رابعًا :العنف النفسي
تعرف المحللة النفسية د. مارسلينا حسن، العنف من وجهة نظر علم النفس على أنه: “العنف سلوك أو فعل إنساني يتسم بالقوة والإكراه والعدوانية، صادر عن طرف قد يكون فردًا أو جماعةً أو دولة، وموجّه ضد الآخر بهدف اخضاعه واستغلاله في إطار علاقة قوة غير متكافئة مما يتسبب في إحداث أضرار مادية أو معنوية لفرد أو جماعة أو طبقة اجتماعية أو دولة أخرى”.
وتضيف حسن: “وهو شكل من أشكال العنف وسوء المعاملة يوسم به الشخص الذي يُخضع غيره بسلوك قد يتسبب له بصدمات نفسية، بما في ذلك القلق، أو الاكتئاب المزمن أو اضطرابات ما بعد الصدمة أو يكون سببًا في تعريضه لذلك. ويعرف العنف النفسي أيضًا بـالعنف العاطفي أو العنف الذهني. وكثيرًا ما يرتبط هذا العنف مع حالات من اختلال توازن القوى، مثل العلاقة المتعسفة، والتنمر والاعتداء على الأطفال والعنف في مكان العمل”.
ويصنف الباحثون الاعتداءات والسلوكيات العشرين التي تجعل العنف النفسي مرادافًا للعنف الوجداني أو العاطفي تحت ثلاث فئات هي بحسب د.حسن:
- الاعتداء اللفظي كقول شيء يزعج شخص آخر أو ينتقص من قيمته الإنسانية باستخدام كلمات بذيئة مشينة تسبب الضيق والتحجيم مما يتسبب بالإحساس المرير بمشاعر القهر والنقص.
- السلوكيات المهينة كمنع شخص ما من ممارسات حاجاته الطبيعية بسهولة وتعرضه للابتزاز والإذلال بتكليفه بسلوكيات غير مقبولة بهدف تلبية حاجاته
- السلوكيات الناتجة عن الغيرة أو الحسد: والتي تتسبب باتهام الشريك أو الصديق بالمحافظة على علاقات أخرى مشابهة للعلاقة التي تربطهما، أو يتم تشويه السمعة أو الفضيحة الاجتماعية بمعنى ممارسة الضغوطات العاطفية لأسباب غير أخلاقية.
المرأة لا تصنف الإساءة النفسية والإهانة وغيرها من الاعتداءات كعنف
وربما يعتبر العنف النفسي من أخطر أنواع العنف الضمني أو غير الظاهر الذي تتعرض له النساء من ناحية، كما أن المرأة ذاتها لا تصنف أفعالا كالإساءة النفسية والإهانة وغيرها من الاعتداءات كعنف، وبالتالي فهي لا تتحدث عنها ولا تناضل في معظم الأحوال للتخلص منه من ناحية أخرى، وعن هذا تخبرنا د. حسن: “اعتبر العنف النفسي من أخطر أنواع العنف فهو غير محسوس ولا يترك أثرًا واضحًا للعيان، وهو شائع في جميع المجتمعات غنية أو فقيرة متقدمة أو نامية، وله آثار مدمرة على الصحة النفسية للمرأة وتكمن خطورته بأن القانون قد لا يعترف به كما يصعب إثباته. حيث تعاني المرأة من الإهانات والإهمال والاحتقار والشتم والكلام البذيء والتهميش وإسماعها كلامًا غير لائق، وتشبيهها بأشياء لا تحب أن تشبه بها أو مناداتها بأسماء لا تحبها إضافة إلى الاعتداء على حقها في شريك الحياة، وفرض القيود عليها والتدخل بشؤونها الخاصة. وتحت العنف النفسي يندرج ما يسمى بالعنف الرمزي الذي لا يتسم بالقيام بأي فعل تنفيذي بل يقتصر على الاستهتار والازدراء واستخدام وسائل يراد بها طمس شخصية المرأة”.
ويبدو أن العنف النفسي كعنف مستقل وكنتيجة للعنف الجسدي والعنف أثناء النزاعات، منتشر بشكل كبير ومتستر خلف تبريرات مجتمعية أو دينية أو قانونية.
وعن هذا تضيف الأخصائية الحسن: ” إن العنف النفسي منتشر بشكل كبير بسبب القيم الثقافية التي تكسر نشأة المرأة اجتماعيًا وتجعلها خاضعة منذ طفولتها المبكرة لسيطرة الأعراف الثقافية والمجتمعية، وتعامل المرأة داخل الأسرة وحتى المجتمع الكبير على أساس أنها ضعيفة وعليها الخضوع لرجال العائلة فالشتم والإهانة وتقديم الخدمة والحرمان من الحقوق الشخصية أمر لا يجب مناقشته أو الاعتراض عليه بل المطلوب منها الصمت والطاعة العمياء”.
وعن تداخل العنف الجسدي والنفسي من حيث أن العنف الجسدي يترك أثرًا وتبعات نفسية، وكذلك عن تظاهر أثار العنف النفسي بشكل آلام جسدية تقول د. مارسيلينا حسن: “والمرأة المعنفة تظهر عليها اضطرابات واضحة في صحتها النفسية والجسدية تتلخص في الخوف والارتجاف وضيق النفس والصداع والإسهال وآلام أسفل الرأس، واستمرار العنف ضد النساء يؤدي إلى الشعور بفقدانهن أهميتهن وإدمانهن على المهدئات وتطور الرغبة لديهن في إيذاء أنفسهن . كما تشعرن بأنهن مقهورات داخل أسرهن، وكبت هذه المشاعر لفترة من الزمن تتحول بلا وعي إلى معاناة جسدية تظهر بشكل أعراض جسمية (سيكو سوماتية)”
وربما يعتبر دور المرأة هو الأكبر في محاولة الحد من هذا النوع النفسي:
ذلك أن السيطرة على العنف كظاهرة والموجه ضد النساء خصوصًا واجبًا اجتماعيًا، ويكمن دور المرأة كمعنفة أو مشروع معنفة في بيئات تتساهل وهذا العنف بعدم القبول والصمت عن هذا العنف على صعوبة اتخاذ اجراءات رادعة، وكذلك بدورها كأم تربي جيلاً مختلفًا غالبًا ما ينتقل له هذا العنف بسبب عدم الاستقرار الأسري الذي يخلق نزعة للعنف داخل الطفل بسبب معايشته لأوضاع أسرية صعبة ومشاهدته لتعنيف أمه وذلك بتربية الأبناء والبنات دون معاملة تمييزية أو تسليط الذكور على الإناث مسايرة لقناعات المجتمع الذكوري الباطلة، وإن هذا لا يضع الضحية المعنفة كمسؤولة عن تعنيفها، بقدر أنه واجب على المرأة عدم قبول هذا العنف بعد الآن بما ينتهك حقوقها كإنسان وكأم، وهذا لن يحدث مالم تصنف النساء الإهانات والأذية النفسية كنوع من العنف غير المقبول من الشريك العاطفي أو الأسرة أو المجتمع عمومًا، علمًا ان جميع هذه الاطراف تعول عادة على قهر المراة وصمتها، وعدم مجابهتها لسطوة الرجل في المجتمع.