زينة شهلا/ رصيف22- تعيش أم سامر وأم جميل في مدينة جرمانا بالريف الشرقي للعاصمة السورية دمشق، وهما سيدتان وحدّهما النزوح وغياب الزوج الذي توفي نتيجة الحرب، والاضطرار لإعالة الأسرة.
فالسيدتان اللتان فضلتا عدم ذكر اسميهما الكاملين- اضطرتا للنزوح من غوطة دمشق الشرقية منذ ما يقارب ثلاثة أعوام، ليستقر بهما المقام في جرمانا حيث تعيش آلاف العائلات النازحة اليوم.
والتقت السيدتان بعد أشهر من نزوحهما، لتكتشفا تشابه معاناتهما في البحث عن مصادر رزق للعائلتين بعد وفاة زوجيهما، وكذلك إيجاد سبل لتسجيل الأطفال المولودين بعد الحرب، لتفترق قصتاهما هنا.
فلقد نجحت أم جميل في إعطاء صفة قانونية لابنها الصغير، بينما فشلت أم سامر في ذلك.
حكايات لا يكترث لها كثيرون
تحت عشرات المشاكل الاجتماعية الظاهرة للعيان والتي نتجت عن حرب قاسية تعيشها سوريا منذ أعوام، ترقد حكايات لا يكترث لها كثيرون، لكنها تحمل ما ستتكشف آثاره بعد سنوات ليست بالبعيدة.
فمع اشتداد وطأة المعارك في مختلف أنحاء البلاد، وما رافقها من نزوح وحالات وفاة وغياب وضياع للأوراق الرسمية، وجدت آلاف النساء أنفسهن وحيدات مع أطفال دون قيود رسمية، وبالتالي دون القدرة على الحصول على أدنى الحقوق والخدمات.
ووفق القاضي الشرعي الأول في دمشق محمود المعراوي، تصدر المحكمة الشرعية في دمشق نحو 25 وثيقة شخص مفقود شهرياً، ما يعني تزايد أعداد العائلات التي يواجه أفرادها مصيراً مجهولاً مع غياب الأب والمعيل. كما أشار القاضي المذكور العام الفائت إلى ازدياد حالات الأطفال المجهولي النسب خلال السنوات الأخيرة نتيجة ظروف مختلفة.
أما الأمم المتحدة، وفي تقريرها الصادر بشأن الاحتياجات الإنسانية للعام 2017، فقد أشارت إلى أن 81% من المناطق التي شملها التقرير، تعاني من مشكلة فقدان الوثائق المدنية، مما “يفاقم من مخاطر الحماية ويحد من حرية التنقل والحصول على الخدمات وسبل العيش”، كما يذكر التقرير.
وبحسب المحامي محمد السعدي، شهدت المناطق الساخنة خلال السنوات الفائتة عشرات حالات الزواج والطلاق والولادات والتي لم يتم تسجيلها بشكل قانوني في دوائر الأحوال الشخصية التابعة للحكومة السورية، وإنما في هيئات ومحاكم شرعية موجودة داخل تلك المناطق فقط.
ويتسبب ذلك بمشاكل لا تحصى لمن يخرجون من تلك المناطق، حيث يتعذر في كثير من الأحيان إثبات بعض وقائع الزواج والطلاق والولادات مع غياب الأوراق الرسمية والشهود، لتبقى دون تسجيل رسمي، ما ينعكس سلباً على مئات الأطفال الذين سيبقون دون قيود وبالتالي سيحرمون من حقهم في الحصول على اسم وتعليم إضافة إلى العديد من الحقوق والخدمات الأساسية الأخرى حتى إشعار آخر.
تسجيل الزواج شرط تسجيل المولود
يلفت السعدي إلى أن للدولة الحق في التريث إلى حين التأكد من صحّة نسب الأطفال نتيجة التخوف من حالات الخطف وادعاء النسب، إلا أنه يقترح اللجوء لحلول بديلة لتجنب ظلم الأطفال وتأخير تسجيلهم وبالتالي انتسابهم للمدارس، كاستخدام سجلات نفوس مؤقتة ريثما يتم البت بأمر النسب.
وتنص المادة 28 من الفصل الرابع من قانون الأحوال المدنية السوري الصادر عام 2007 على تسجيل الزواج كشرط لتسجيل ولد مولود من زواج غير مسجل.
وبدوره، يتطلب تسجيل الزواج أو عقد القران توافر العديد من الثبوتيات، منها وجود صك زواج يحتوي على بيانات الزوج والزوجة بشكل كامل، مع ولي الزوجة وشاهدين ذكور، وضرورة ذكر تاريخ الزواج ومبلغ المهر والعنوان.
إلا أن عشرات الحالات مثل أم سامر وأم جميل تفتقد لهذه الثبوتيات والمعلومات، إما بسبب ضياعها نتيجة التنقل والنزوح، وإما بسبب عدم اعتراف دوائر الحكومة السورية بكل ما يصدر من الدوائر العاملة في المناطق الساخنة.
مع غياب الزوج أو وفاته
مع غياب أو وفاة الزوج، يغدو الحصول على هذه الأوراق أشبه بالمستحيل، لتبدأ رحلة طويلة من العمل القانوني وقد لا تنتهي بالنجاح في بعض الأحيان.
فبالنسبة لأم جميل، حالفها الحظ حين تمكنت من الوصول لشاهدين على عقد الزواج، وهو ما ساعد أحد المحامين على رفع دعوى تثبيت زواج ونسب، وربح هذه الدعوى خلال أشهر معدودة.
أما أم سامر، التي فقدت كل تواصل مع عائلة زوجها المتوفى، فقد رفض أمناء السجلات المدنية تسجيل ابنتها.
ولم تتمكن حتى اللحظة من التوصل لطريقة قانونية تستطيع من خلالها إثبات عقد القران والنسب مع عدم امتلاكها أي وثيقة رسمية معترف بها تثبت الزواج أو الأبوّة، وتستمر مع محاميها في البحث عن حلٍ ينجّي طفلتها من ضياع مستقبلها.
ولا تقتصر معاناة النساء الفاقدات الأزواج على صعوبة تثبيت عقد القران والنسب، حيث يستغل بعض المحامين عدم المعرفة بالقانون المتعلق بهذه الدعاوى والجهل بتكاليفها، لتغدو وسيلة للنصب والاحتيال، حيث لا تقل تكاليف أي دعوى تثبيت زواج ونسب عن مئتي وخمسين ألف ليرة سورية (أي ما يعادل 500 دولار).
لكنها ترتفع لدى عدد من المحامين إلى الضعف أو أكثر، وهو ما يفوق قدرة معظم النساء الراغبات بخوض غمار هذه الدعاوى، ويشكّل عائقاً إضافياً أمام تثبيت الأطفال في السجلات المدنية.
DNA…
دفع تزايد رفع دعاوى تثبيت الزواج والنسب خلال السنوات الأخيرة عدداً من الجمعيات المحلية ومنظمات المجتمع المدني إلى الاهتمام بالعمل على تقديم التوعية والمشورة القانونية ومساعدة أكبر عدد ممكن من النساء على تجاوز هذه المعضلة.
ففي جرمانا، تقدم بعض المنظمات العاملة في المدينة جلسات توعية قانونية للنساء حول قانون الأحوال الشخصية وغيره من المسائل التي بات يتوجب على كثير من العائلات معرفتها في ظل ظروف الحرب والنزوح وفقدان الوثائق المدنية.
وبشكل مشابه، تقدم العيادات القانونية التابعة للأمانة السورية للتنمية جلسات توعية وخدمات قانونية لعشرات العائلات التي تثبت حاجتها لهذه الخدمات، وذلك بحسب حديث المحامي خالد رشواني، وهو مدير برنامج الدعم القانوني في الأمانة.
ويؤكد رشواني مساهمة العيادات القانونية الممولة من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في تثبيت أكثر من 500 ولادة غير مسجلة منذ بداية العام، وذلك باتباع طرق مختلفة.
ففي حال غياب الأب، يتوجب على الأم إحضار شهادة الولادة الرسمية من المشفى أو الطبيب المختص أو القابلة القانونية، وعند تعذر ذلك يتم الاستعانة بشهود من طرف الأب للتأكد من نسب الطفل. إضافة إلى ذلك، يمكن اللجوء لفحص الدم كطريقة لإثبات النسب في ظل عدم إمكانية إجراء اختبار الحمض النووي DNA.
ويشير رشواني إلى أهمية هذه الإجراءات المشددة، مع حدوث حالات خطف وادعاء نسب، وما قد يتبعها من تهريب للأطفال خارج البلاد بهدف بيعهم أو عرضهم للتبني أو حتى المتاجرة بأعضائهم.
وتدفع تلك الحالات المحامين إلى العمل مع الجهات المعنية ومنها مخاتير وأعيان المناطق والأحياء لحل أكبر عدد من القضايا العالقة، في حين تبقى بعض الحالات المستعصية والتي لم تجد لها حلاً قانونياً حتى اليوم، بحسب المتحدث.
وتأمل أم سامر بأن تنتهي معاناتها في أروقة السجلات المدنية والمحاكم الشرعية في أقرب فرصة. “فحتى اليوم أشعر بأن ابنتي لا تمتلك اسماً رغم أنني أطلقت عليها اسم وردة”،تقول لرصيف22.
“أخاف أن يحين موعد تسجيلها في المدرسة دون أن أملك ما يثبت شخصيتها ونسبها. نعيش اليوم بلا ماضٍ ولا حاضر، وبتنا قاب قوسين أو أدنى من فقدان الأمل بالمستقبل”.