عائشة بلحاج/assafirarabi- في وسائل التواصل الاجتماعي، نجد التحرّش وسُبل مقاومته معاً، الدّاء والدواء، السّالب والموجب… لكن التحرّش، بلا شك، يفوق كلّ ما عداه. فكّرتُ يوماً، خارج الصّندوق في موضوع محاربة التحرّش، وقرّرتُ التقاط صورة للمتحرّشين في الشّارع، الذين يصبحون مترصّدين في حالات كثيرة، وفعلتُ مرتين.
كانت تلك طريقة فعّالة لطرد المتحرّش بتخويفه. فتصبح كاميرا الهاتف مبيد حشرات، برشّة واحدة يقع الذباب على الأرض. التقطتُ صورة لرقم سيارة مترصّد واصل اللّحاق بي في الشّارع، مصرّاً على أن أركب سيارته، ثم لوجهه من النّافذة. حينها، فرّ هارباً. ثم، خطر لي أن أنشر الصّور في “كروبات” المدينة، لتكون فضيحته بجلاجل. لكنني تكاسلت، ولم أكن مستعدة لمتابعة الأمر. صدّق أو لا تصدق، لا تملك جلّ النساء رفاهية التفرّغ لمحاربة المتحرشين. فلهنّ حياة كاملة، عليهنّ بناؤها بأيدٍ عارية. وذلك هو العُري الذي يجب أن تتم تغطيته. عُري المرأة حين تكون قوية ومستقلة، بلا دعم مؤسساتي رسمي أو مدني، في مواجهة مجتمع مصمّم على تقليم شخصيتها.
هيا إلى عالم الميتافيرس
في وقتٍ سابق، ضجّت وسائل الإعلام بتجربة نينا جين باتيل، وهي طبيبة نفسيّة تُجري بحثاً على “عالم ميتاڤيرس”، تعرضت لما وصفته بـ “كابوسها السّريالي”، المتمثل في مهاجمتها من قبل أربعة أشخاص افتراضيين، بصورهم الرّمزية، في (ميتاڤيرس s’Venues Meta)، على فيسبوك. “في غضون 60 ثانية من الانضمام، تعرّضتُ للتحرّش اللفظي والجنسي، من شخصيات رمزيّة من الذكور، اغتصبوا “أفاتاري” (Avatar ، الشخصية المرسومة التي تختارها لتمثيلها) بشكل جماعي تقريباً، وصوروني خلال ذلك”، تروي نينا قصتها.
حسب صحيفة “الإندبندنت” البريطانية، فقد علقت شركة “ميتا” على الواقعة بأنّه “يمكن للجميع العثور بسهولة على أدوات الأمان، التي يمكن أن تساعد في مثل هذا الموقف، وتساعدنا في التحقيق واتخاذ الإجراءات”. “بينما نتعلّم المزيد حول كيفية تفاعل الأشخاص في هذه المساحات، لا سيما عندما يتعلق الأمر بمساعدة الأشخاص في الإبلاغ عن الأشياء بسهولة وموثوقية”.
متى سيحاول الإنسان الانطلاق من أُسس جديدة إذاً، ليُحسِّن وضعية المرأة في العوالم الجديدة التي يصنعها؟ فهنا مثل العالم الواقعي، على المرأة أن تتخذ إجراءات الأمان، وإلّا فهي مسؤولة عما سيحدث لها. لم يتحدّث أحد عن سلوك هؤلاء الأربعة، الذين ربما هم أشخاص صالحون في نظر من يعرفهم على أرض الواقع، ولا يخطر لأحد أنّهم يدخلون العالم الافتراضي، ويتحوّلون إلى وحوش عنيفة، قاتلة ومغتصبة.
“أنا أيضاً” (Me Too) يا عالم… أنا أيضاً يا ميتافيرس
بسبب ما تتعرّض له النساء في فضاءات الويب، لم يعد مجال عمل حركة “أنا أيضاً” يقتصر على الواقع وحده، بل صار الافتراضي ينافس الواقعي، في انتهاك حُرمة جسد وكرامة النساء والفتيات. وبناءً على المؤشّرات، يبدو العنف الجنسي في ميتافيرس أكثر وقعاً من تجارب وسائل التواصل الاجتماعي، بالنظر إلى أنها مصمَّمة لتمنح للافتراضي الأَثر النّفسي الذي للواقع. ويُستخدم مصطلح ميتافيرس عادةً لوصف الإصدارات المستقبلية للإنترنت، المكوّنة من محاكاة ثلاثية الأبعاد، لا مَركزيّة، ومتصلة بشكل دائم. وهو مستقبل الإنترنت، البعد الثاني للحياة على الأرض، العالم البديل، الذي لم يتخلَّ فيه البشر عن رذائلهم كلها. بل لعلهم حملوها مضاعفة في ذاك العالم. فهناك يمكن أن يقوموا بكل ما بذلت البشرية تاريخها كلها لنقضه، من عنف واعتداء وشريعة غاب، وعنصرية وتنمر، خلف الأجساد المستعارة.
عن تجربة الاغتصاب الافتراضي في عالم ما بعد وسائل التواصل الاجتماعي، تقول نينا البالغة من العمر 43 عاماً، إنها “تجربة مروّعة حدثت بسرعة كبيرة”، حتى قبل أن تُتاح لها الفرصة للتفكير في استخدام “حاجز الأمان”. ولاحظَت أنّ رد فعلها “الفيسيولوجي والنفسي” كان أقرب إلى ما يحدث في الحياة الواقعيّة، مُستدلّة بحقيقة أنه “تم تصميم الواقع الافتراضي بشكل لا يستطيع العقل والجسد التمييز بين التجارب الافتراضية الرقمية والواقعية”.
“شامة”… في معركة الكرامة
في سعي حثيث لمحاربة العنف والتحرش الجنسي ضد النساء، قرّرت الدكتورة هاجر المصنف وهي مهندسة تعمل أُستاذة في مجال الذكاء الاصطناعي في جامعة القاضي عياض في مراكش، أن تصنع من أجل ذلك روبوتاً مغربياً مئة في المئة، هو الأول من نوعه. واختارت أن يكون الرّوبوت أنثى سُمّيت “شامة”.
كُلّفت شامة بمهمة ممكنة ومستحيلة معاً، هي محاربة التحرّش الجنسي ضد النّساء وكلّ أنواع العنف الأخرى. تَعرّف المغاربة والعالم العربي على “شامة” لأول مرة خلال حملة أُمميّة لمحاربة العنف ضد المرأة عام 2019. وبثّ القائمون على الحملة شريط فيديو، تدعو فيه “شامة” المجتمع للتّعبئة ضد شتّى أشكال التمييز الجنسي والعنف المنزلي. وتدعم النّساء ضحايا العنف بكل وجوهه.
حينها، أعلن صندوق الأمم المتحدة للسّكان أنّه يشترك مع “شامة”، لإطلاق حملة ضد العنف القائم على النّوع الاجتماعي. ومن خلال الحملة الرقمية #JoinSHAMA، دعت “شامة” إلى عدم التّسامح مع العنف والممارسات التي تؤذي النّساء والفتيات. تقول هاجر إنّ رسالتها من خلال “شامة” ليست مناهضة العنف فقط، بل أيضاً مناهضة التّمييز بين الرجال والنساء في مجال العلوم، وتشجيع الفتيات على اقتحام التخصّصات العلمية في الجامعات، وجذبهنّ للاهتمام بمجال الذكاء الاصطناعي الذي يحتكره الرجال. تضيف هاجر أن مشاركتها مع الرّوبوت “شامة” في هذه الحملة من شأنها “إلهام النساء والفتيات وحثهنّ على دراسة هذا التخصص”. لعلها فرصة مهمة لتشارك النساء في صناعة العالم الجديد، والحرص على حضور آمن للنساء فيه.
الذكاء الاصطناعي في مواجهة الغباء الجنسي
الذكاء العاطفي أو الذكاء الاجتماعي يعني الذكاء الجنسي أيضاز فنصف الذين يتعامل معهم الرجل هنّ نساء. لكن مع غلبة الرؤية الذكورية داخل المجتمع، يتحوّل الذكاء إلى غباء في معاملة المرأة. لذا تُعوّل النساء على الذّكاء الاصطناعي لمواجهة الغباء الجنسي، بعد أن عجز البشر عن ذلك، فهل تنجح الرّوبوت “شامة”؟
تجدر الإشارة إلى أنه ضمن إنجازات هاجر اختراع عملية تسمح للهواتف الذكية أن تكشف مشاعر الإنسان، فقط من خلال تحليل البيانات التي تمرُّ عبرها، أي تعابير الوجه والصّوت، والرسائل التي نرسلها، وسياق تفاعلنا. الفكرة هي أن هاتفنا الذكي يمكن أن يساعدنا عاطفياً إذا مررنا بوقت عصيب في حياتنا، بحيث يقوم مباشرة بإرسال محتوى شخصي لتحفيزنا ورفع ما نشعر به من قلق وتوتر. مثل أغنية نحبها، أو رسالة، أو يقترح مقالاً يساعدنا في تجاوز الحالة. وقد تمكنت هاجر بفضل هذا الاختراع من الفوز بجائزة (For women In Science) وتم اختيارها ضمن خمسة أفضل باحثات في شمال إفريقيا. لكن، هل يوفر الاختراع للنساء أخصائياً نفسياً دائماً لمواجهة آثار التحرش؟
وَاا ميتافِرسَاهْ
لو تكلمت النساء كلّهنّ في المنطقة العربية، لقلن “أنا أيضاً”. كلّهن تعرضن للتحرش والقذف والمس بكرامتهنّ، من الشارع العام إلى الشارع الافتراضي، بشكل أو بآخر. في مجتمعات تنظر إلى أنوثتهنّ كممسك ضدهنّ، حيث تُمسكهنّ من هوياتهنّ لتكون ضدهنّ. كما حدث مع السود والمهاجرين والأقليات… أن تجلدهنّ معنوياً لأنهنَ كما هنَ.
ما أنتِ عليه ليس جيداً أبداً، حتى لو كان ذلك خارج إرادتك. لذا يبذل المجتمع جهده ليحاصر النساء ليكنّ ما يريده هو أن يكنّ عليه. وفي ذلك، عليهنّ تقبل كلّ تلك الدونية التي يعاملنَ بها.
في هذا السياق، ترد بين وقت وآخر مبادرات لمحاربة التحرش. منها المشروع العالمي “مدنٌ آمنة” الذي تنفذه منظمة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة، بالتعاون مع مجموعة من منظمات الأمم المتحدة، “من أجل توثيق علاجي، يساعد على تأسيس القدرة على الوعي بالموقف”. وتم تطبيق برنامج مدن آمنة في المغرب ومصر منذ عام 2011، كما طبقت مبادرات شبيهة بدعم من الأمم المتحدة، في كل من تونس والجزائر. لكن يبدو الفرق شاسعاً بين الجهد المبذول ونتائج الظاهرة المعنية.
في مبادرة “مدن آمنة”، يتم إيصال البيانات التي تمّ جمعها إلى السلطات المعنية من أجل رد فعل إيجابي لتعزيز سلامة النساء في المناطق المعروفة بخطرها عليهنّ، من خلال اتخاذ تدابير جديدة، مثل إرسال المزيد من دوريات الشرطة ووضع كاميرات مراقبة.
من دخلت بيتها فهي آمنة
تحاول هذه المبادرات أن تُشعر النساء والفتيات بمزيد من الثقة للإبلاغ عن التحرش، والأمان كيلا يسارعن العودة إلى المنازل حالما يحلّ اللّيل. وبالتالي، يمكنهنّ الاستفادة من الوقت بشكل أفضل. فالعالم لا يتوقف عند السّاعة السّابعة مساء.
هذا هو بالضبط ما دعا تطبيق (Citymapper) العالمي لاكتشاف الوجهات عبر المدن، للاستجابة لطلبات مستخدميه، مقدماً طرقاً قد لا تكون الأسرع، ولكنها مأهولة أكثر بالناس أو أفضل إضاءة. كما تتيح ميزة اختيار “الطرق الرئيسية”، اقتراح طرق الوصول إلى الوجهات وفق تفضيلات معينة، خاصة عند التنقل بعد حلول الظلام.
ويقول غيلبرت ويدام، رئيس قسم التصميم في “سيتي مابر”، للـ “بي بي سي”، إن التطبيق يقترح “شوارع أفضل إنارة وأكثر حيوية، ويسهل حفظها، مع تجنب الحدائق العامة والأزقة”. ويُضيف أنّ “(الطريق الأفضل) ليس دائماً الأسرع، ولكن ذلك يعتمد بشكل كبير على الظرف الذي يوجد فيه الشخص”.
لكن هل هو حل جذري؟ منذ فترة كتبتُ على حسابي في فيسبوك عن تجربتي في المشي ليلاً، في مكانٍ خال من المارة، لكنني تعرّضت للتحرش والمضايقة من السيارات، التي كان يصرخ منها مجموعة من الذكور لإفزاعي. فالغريب كلّ الغرابة أن تمشي المرأة بلا خوف، في العاشرة ليلاً. كيف تجرؤ؟ يجب ألا تشعر امرأة بالأمان، حتى لو غاب المعتدون. فهناك اقتناع تام لدى المجتمع الذكوري، بأنّ عليه ألّا يسمح بأن تشعر النساء بالأمان. لأنه بذلك يفقد ميزته الأولى، وهي قوة السيطرة، التي تقوم على تخويفهنّ من الخطر الخارجي، وادعاء حمايتهنّ منه. لكن، ألم يأكل الذّئب الجدة، ويرتدي ملابسها؟
الأسوأ هو رد فعل كثير من النّساء اللواتي قلن إنهنّ لا يخرجن ليلاً أبداً، ونصحنني بذلك لتفادي المخاطر. من باب “ابعد عن الشر وغنيلو”…
الآن، مع العالم الجديد الذي نُدفع جميعاً، نساء ورجالاً، لدخوله مثل الخرفان الطيبة، نقول:
حتى أنت يا بروتوس؟
حتى أنت يا ميتافيرس تحمل مطرقة العنف الجنسي للنساء؟!
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبتها/كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.