في المثلث المحصور بين الزوج والزوجة والمبتز، المرأة تكون دائماً الحلقة الأضعف في مجتمع ذكوري محافظ.
“أنا رجل لا يعيبني شيء.. لماذا أفكر بأولادها قبل نشر الفيديوهات؟ هي فلتانة (فتاة عاطلة) وهذه مسؤوليتها”
رصيف22- يعود الباحث أنغوس ماكلارين في كتابه المعنون “الابتزاز الجنسي” (هارفرد، نوفمبر 2002) إلى أواخر القرن الثامن عشر حين جرى إصدار قوانين تعاقب المثليين، ليوثق أولى حالات الابتزاز الجنسي في التاريخ، إذ تحولت هذه القوانين إلى مورد دخل لمبتزي المال الذي بدأوا يهددون مثليي الجنس بالتبليغ عنهم ما لم يدفعوا “الخوّة اللازمة”.
سرعان ما انتشرت هذه “الجريمة الطفيلية” في إنكلترا والولايات المتحدة خلال الحقبة الفيكتورية وفي النصف الأول من القرن العشرين. حينها كانت بعض الأفعال الجنسية، كالإجهاض والخيانة والدعارة والمثلية، موصومة بالعار وتكلف صاحبها حياته.
ارتفعت حظوظ المبتزين في القرن التاسع عشر بعدما تحول السلوك الجنسي إلى المعيار الأساسي لكسب الاحترام، لا سيما في صفوف الطبقات الوسطى.
وبحسب ماكلارين، نشط سوق المبتزين في مرحلة لاحقة، ووصل الأمر ببعضهم لجرّ الضحايا إلى المحاكم والتسبب بفضائح مدوية في فترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، أي إبان الأزمة الاقتصادية.
أشرطة جنسية “هوا الحرية”
لم يتغير الحال كثيراً اليوم مقارنة بتلك المرحلة، فقط تبدلت الأساليب وأصبحت أكثر تطوراً في ظل وسائل التواصل الاجتماعي.
قبل أيام انشغل اللبنانيون بحلقة تلفزيونية، أقرب إلى الفضائحية، كان بطلها مبتز جنسي محترف. حلّ جوزف معلوف ضيفاً على البرنامج بعدما عمد إلى نشر العديد من الفيديوهات الجنسية المسجلة له مع زوجة طبيب لبناني.
انتشرت هذه التسجيلات كالنار في الهشيم، مشبعة رغبة الفضوليين بالعديد من المشاهد الواضحة في أكثر من موقع، إضافة إلى المكالمات الهاتفية.
البرنامج نفسه كان قد اشتهر بلعب دور المخبر، إذ استضاف في وقت سابق مشغل شبكة دعارة جنسية، مانحاً إياه مساحة للدفاع عن نفسه، قبل أن تعتقله السلطات الأمنية لدى خروجه من الستوديو. تكرّر السيناريو هذه المرة أيضاً، مع خروج المبتز الجنسي من الحلقة التي كانت تبث مباشرة على الهواء.
في موضوع الأخلاقيات الإعلامية الكثير مما يحكى عن فضائحية هذا النوع من البرامج، لجهة منح المبتز وحده فرصة للكلام، ونشر الفيديوهات الجنسية التي تظهر أكثر مما تخفي، بالإضافة إلى الأسئلة التي طرحت على شاكلة “كنت تمارس الجنس معها على تخت زوجها؟”، و”مارست معها الجنس لأربع ساعات متواصلة؟”، “هذه أول علاقة لك مع امرأة متزوجة؟”، وغيرها.
بينما جرى معالجة هذه النقطة مراراً بشكل مفصل، برز جانب آخر لافت في هذا الإطار، إذ حمل كلام معلوف ذكورية مفرطة، أكدت على حقه القيام بأفعال مماثلة وتحميل المرأة المسؤولية الكاملة عن هذا النوع من الأفعال.
“أنا رجل لا يعيبني شيء، وهي رح يبزقوا (يبصقوا) عليها الناس”، “أولادي لا يهمهم الأمر، فأنا لم أقم بفعل معيب، وهم شباب الحمدلله ليس عندي بنات”، “لماذا أفكر بأولادها قبل نشر الفيديوهات، هي فلتانة (فتاة عاطلة) وهذه مسؤوليتها”، وما إلى ذلك من عبارات ردّ بها معلوف متقيئاً ذكورية مخيفة.
وحين ووجه بقصة (الدقيقة 43 من الفيديو المرفق) عن ممارسة ابنه للابتزاز الجنسي بدوره على فتاة صغيرة، كان جوابه “لدى أولادي سيارات فيراري أمام المنزل تفوق قيمتها المليون ونصف دولار، لماذا يبتز ابني هذه “***” (الفتاة السيئة)”، مضيفاً “لا يوجد في المنطقة فتاة تملك أكثر من مئة دولار”.
المخيف في ما سبق أن الرجل ليس حالة فردية، فأفكاره تكشف الكثير عن نظرة المجتمع العربي لطرفي الفضيحة الجنسية، فبينما يكافأ الذكر بصفات الفحولة والقوة، تُحمّل المرأة المسؤولية عن ارتكاب هذا الفعل، من دون الأخذ بالاعتبار أي من الظروف المحيطة بها.
ولأن شرف المرأة ما زال يحظى بالتبجيل، والفضيحة تكلف النساء حياتهن أو العار الأبدي، تصبح هؤلاء أكثر عرضة لهذا النوع من الجرائم. في حالة معلوف، وكما يروي، تم نشر الفيديوهات كتصفية حساب مع زوج السيدة الذي استفزه وهدده.
ديناميكية القوة و”حب” جيفرسون
في هذا المثلث المحصور بين الزوج والزوجة والمبتز، تحضر المرأة باعتبارها الحلقة الأضعف في مجتمع ذكوري محافظ. لكن ردة الفعل السائدة تحملها كامل المسؤولية باعتبار أن ما جرى وقع برضاها، فهل يلغي ذلك فعل الابتزاز الجرمي؟
في المنطق السائد ليس ثمة أسهل من إلقاء التهم جزافاً، لكن إذا عدنا إلى علم الاجتماع، فثمة جانب يجري تجاهله هو ديناميكية العلاقة بين طرفي الفعل.
قد تكون علاقة الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون بسالي هيمنغز مثالاً مفيداً في الحديث عن الديناميكية ومفاعيلها، وإن اختلفت الظروف والمعطيات بين ما نتحدث عنه وتلك العلاقة.
يتحدث الأستاذ في جامعة تكساس روبرت جنسين عن تلك العلاقة التي ملأت شهرتها الأرجاء وعن أولاد جيفرسون من هيمنغز، موضحاً أن الأخيرة كانت من “العبيد” التابعين لجيفرسون، وحتى لو تمت العلاقة برضاها ظاهرياً فإن “أي تواصل جنسي بين السيّد والعبد هو في أساسه فعل اغتصاب”.
يوضح جنسين كلامه مستنداً إلى قاعدة ديناميكية القوة التي تفرض نفسها في هذه العلاقة. وإذا ما عدنا إلى حال الابتزاز الجنسي الذي يطارد المرأة، نجد أن هذه الديناميكية تميل في ميزان القوة لصالح الرجل، وبالتالي لا يمكن تحميل المرأة كامل المسؤولية، في مجتمع يطاردها بقيود الشرف والعار والفضيحة، وضغوط الرجل أكان زوجاً أو صديقاً.
بعدما كانت أساليب الابتزاز في القرن التاسع عشر والعشرين ضيقة النطاق، كتهديد المحظيات أصحاب الألقاب بنشر معلومات حول اجتماعات سرية، وتهديد رجال ساعدوا نساء على الإجهاض بفضحهن، اتسعت الدائرة مع تعدد وسائل الاتصال وسهولة أساليب التصوير والتسجيل، وأصبح ضحايا الابتزاز الجنسي الإلكتروني بالآلاف.
نصائح في حالة الابتزاز
انشغل كثر من المحللين والباحثين في بناء أدلة نصائح للضحايا الحاليين والمحتملين لهذا النوع من الابتزاز. وبينما أصبح الأمر أكثر سهولة في الغرب الذي تحرّر فيه الجنس جزئياً من خانة التابو، بقي الأمر شديد الصعوبة في المناطق العربية، وطالت براثنه النساء والرجال معاً، كما الطبقات الاجتماعية على أنواعها.
تقول مايا عمار، المسؤولة في جمعية “كفى” التي تعنى بهذا النوع من القضايا، في حديثها مع رصيف22، إن الضحايا بالعشرات شهرياً، وهؤلاء من تعلم بشأنهم الجمعية، عدا عن الضحايا المجهولين.
تشير عمار إلى الحالات الكثيرة التي يلعب فيها الزوج أو الحبيب دور المبتز. “إذا تخليتِ عني سأفضحك”، “إذا لم تقومي بما أطلبه سأخبر أهلك أننا مارسنا الجنس”، وغيرها من العبارات التي يستخدمها هؤلاء للضغط على المرأة.
هنا تسوق المسؤولة في “كفى” مجموعة من النصائح للمرأة التي تتعرض للابتزاز، معترفة أن ثمة صعوبة لدى العديد من الفتيات في مواجهة الأمر، الذي يصل بهن أحياناً إلى الموت في “جريمة شرف”.
غني عن القول أن مصارحة الأهل تعد فعلاً شديد الصعوبة، وخطير أحياناً، في المجتمعات العربية، وهنا تشير عمار إلى جهود “كفى” في تمكين المرأة كي تتمكن من المواجهة والاقتناع بداية بأنها غير مذنبة.
وتلفت إلى الخلل الموجود في القوانين اللبنانية مثالاً، إذ لا يوجد نص صريح خاص بالابتزاز الجنسي أو حماية الخصوصية، بل يُدرج الأمر في خانة إلحاق الضرر أو التهديد.
في النقطة الأخيرة من هذا الموضوع تبرز المسؤولية الاجتماعية التي يتشاركها الجميع. لم يكن معلوف بحاجة إلى أكثر من تسريب الأشرطة والتسجيلات، حتى انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي. سارع العديد ممن وصلتهم الفيديوهات إلى مشاركتها مع آخرين متلذذين بفعل الفضيحة، التي تؤكد بشكل (وهمي) لا واع على “الفضيلة” التي يتمتعون بها. ولكن “من كان منكم بلا خطيئة…”!