موقع السيدة- انبثقت مواقع سلطة فرعية في الدول والنظم الحديثة، كانت استمراراً وإعادة إنتاج لعلاقات سلطة فرعية مستمدة من سلطة مادية ومعنوية رئيسية، كان لها تعبيراتها في التاريخ الملكي، أو ماقبل الحداثي على وجه العموم. يقودنا هذا إلى مقاربة موضوعنا في تحديد موقع ومنصب “السيدة الأولى” في نظمنا العربية، دون المرور في البحث عن أصوله “الأمريكية” وتجلياته في تجارب العالم المتقدم. على أن تحليل هذا الموقع وطرق توظيفه، وأشكال التعبير السياسي والإعلامي والإيديولوجي، لايستقيم إلّا في ضوء تحليل بنية السلطة ولعبة المصالح الاجتماعية.
ملمح تاريخي – عربي
ثمة كثير من الشواهد التاريخية على مكانة المرأة في علاقتها بالسلطة، وبنفوذ الحاكم وقدرتها على فرض إراداتها، وغالباً ما كان التنافس يحكم مقدرات القصر في ألاعيب دموية مأساوية، ليتمركز فيها ذلك الفضاء الضيق والمؤسسي القديم، مما تعارف على تسميته بمؤسسة الحريم، فقد شنت حروب داخلية من أجل تحصيل موقع متقدم قرباً من السلطان أو الخليفة أو الزوج أو سيد الحريم. ولطالما وقعت دسائس ومؤامرات في ظل جدلية القرب والبعد عن مركز الحريم الذي كان يكتسي أحياناً صبغة دموية، وهو ماتعبر عنه المفكرة والباحثة المغربية فاطمة المرنيسي بمأساوية الحريم.
يملك “الحريم” في تلك الحقب السالفة الكثير من السحر والجاذبية لأنه نقطة التقاء وانصهار لثلاثة من أكثر العوامل المرغوبة في صراعات التاريخ : السلطة والثروة والمتعة.
من تلك المؤسسة وذلك الفضاء المكاني المحكوم بصراع التنافس الضاري، كان ينتج موقع سلطة أنثوية موازية، لكن غير متكافئة مع سلطة السيد أو الخليفة أو السلطان، ويختلف الحريم باختلاف الأزمنة وتبدل الأمكنة، فقد كان في شكله الأمبراطوري يضم نساء ذوات مواهب عالية، وكفاءات تسير بذكرها الركبان. في حريم الخليفة العباسي هارون الرشيد، كانت جواريه شابات مثقفات، من أصول عرقية وقومية مختلفة، يدرسن كتب التاريخ وخطط الحرب والفقه حتى يجلبن له المتعة عن طريق المعرفة، وبطبيعة الحال لم يكن الرجال يرغبون بمصاحبة نساء أميات، وما كان بإمكانهن إثارة انتباه الخليفة إذا لم ينبهر بمعلوماتهن في الجغرافيا وعلم الأنساب والشرع وعادات وتقاليد البلاد الأجنبية وعلوم أخرى. ثم انقضى عصر الخلفاء العباسيين، وغدا الحريم د يعج بالنساء الأميات.
مع أفول العهد العثماني وميراث “حريمه” السلطاني، واقتحام الغرب الرأسمالي لبلداننا، الذي أدخل آليات لنظام جمهوري وبرلماني تحت اعتبارات الانتداب والوصاية، آملاً أن “تخلق عالماً على صورتها” وتأثر ذينك النظامين بميراث القوانين والأعراف التقليدية التي انطلقا منها، كان لابد من ظهور أدوات سلطة بنظام سياسي هجين، لم يستطع القطع مع الميراث السلطاني الذي تمحورت عليه نظم الحكم في تاريخنا العربي والإسلامي.
لم يتسم موقع “السيدة الأولى” عربياً بدلالته ومضمونه” الغربي”، أوبإثبات الحضور والاهتمام والترسخ بعد الاستقلالات العربية، في سمة الاستقلال بين العام والخاص، وعدم تداخلهما، ماعدا حالة نأتي على ذكرها لاحقاً، بل حرصت السيدات الأول على ممارسة السلطة، في أبعادها السلبية، وكان عموماً تكراراً لصورة واحدة انطبعت في الوعي الاجتماعي العربي، من استغلال للنفوذ والأمجاد الكاذبة، ومنهن من لم تسعفهنَّ المصائر الخاطفة في تحقيق أهوائهن الزعامية.
سوريا بين سيدة أولى الانقلابات “نورهان”، وسيدة الانفصال عن الواقع الأولى “أسماء الأخرس الأسد”
ربما لم يتسنّ للسيدة نورهان باقي زادة، زوجة الجنرال حسني الزعيم، الذي أقدم على أول انقلاب في تاريخ سوريا الحديث، ممارسة وظائف “السيدة الأولى”، بسبب قصر مدة عهد استلام الزعيم للسلطة، من نيسان لغاية آب 1949. زوجة الزعيم كانت دائمة الظهور معه في المناسبات الاجتماعية في فترة تربعه القصيرة على سدة الحكم. وقد شهدت نورهان اللحظات الأخيرة من حياة زوجها، وكأن وعد الزعيم لنورهان باقي زادة بتتويجها ملكة على البلاد، انتهى إلى الأبد، طموح انتهى مع إعدامه.
لم يُمنح لقب السيدة الأولى لها حال زواجها من الديكتاتور الجديد بشار الأسد بسبب وجود “أنيسة مخلوف”، بصفتها “السيدة الأولى” في عهد الديكتاتور حافظ الأسد، على قيد الحياة، وتم سحب اللقب من التداول الإعلامي في أيام زواجها الأولى، لتكتفي بالألقاب التقليدية التي تربطها بزوجها الرئيس. نشأتها الأولى في لندن وتأهيلها التعليمي في بريطانيا، وأصولها العائلية المدينية (من حمص). أبرزها الإعلام وقوى “الدولة الخفية” بمزايا جاذبة داعمة لسياسات النظام، وقرّبها إلى الجمهور كزوجة رئيس وسيدة أولى لاحقاً.
ذهبت إلى إنشاء مجموعة من المنظمات العاملة في إطار القطاع الخيري الحكومي، أشير إليها باسم الثقة السورية للتنمية، لكن أكثرها شهرة مراكز مسار التي أنشأتها، وهي مواقع تعمل كمراكز مجتمعية للأطفال، لتعلم المواطنة النشطة. برزت أدوارها بعد ثورة السوريين وانحيازها المتوقع والمنسجم مع سياسات النظام الدموية والتضليل الاعلامي، سواء في أشهر صمتها حيال بدايات الحراك الشعبي والثوري، أو إعلان انحيازها لدعم سياسات النظام.
وفي نيسان 2013، جمّد الاتحاد الأوربي أصولاً تعود ملكيتها لها، ووُضعت حظراً على السفر إلى أوروبا، ضمن قائمة طويلة من رموز النظام والأسرة الحاكمة في إطار تصعيد العقوبات ضد النظام السوري، لكنها لاتزال تتمتع بحق السفر إلى المملكة المتحدة بسبب أصولها البريطانية.
على عكس زوجة الديكتاتور حافظ الأسد، التي لم تشغل الحيز العام أو تستغل نفوذاً للدخول في مشاريع استعراضية، أو ترأس هيئة مدنية أو رسمية، تشغل أسماء الأسد حضوراً إعلامياً ومتلفزاً، لكنها تعيش في عالمها الخاص، إن لم نقل الذهاني الذي كرّسه انعدام الحس الإنساني، وما يتداوله السوريون أنها تعيش كأميرة وحاكمة، ومشغولة بإسفاف صرفها على التسوق، رغم ما يكابده السوريون من شظف العيش في ظروف الحرب، صحيح.
سيدات مصر الأوائل من تواضع وأمومة “تحية” إلى سطوة جيهان وسوزان
المثال الأبرز في القرن العشرين تجربة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، الذي مارس تقشفاً وعدم استغلال نفوذ وانعدام ميل نحو الإثراء، وطبع مؤسسته الرئاسية بطابعه إلى هذا الحد أو ذاك. ورغم الطابع المشخصن لسلطته الفردية، لم يقحم عائلته ضروب ممارسة السلطة أو استغلال النفوذ، وظلت “الأسرة” بمنأى عن ذلك، بدلالة أن زوجته السيدة “تحية كاظم”، الإيرانية الأصول، لم تمارس نشاطاً عاماً أو ظهوراً في الحياة العامة، وكان الرئيس ناصر يحرص على عدم ارتداء زوجته المجوهرات الثمينة، أو ارتداء ملابس خارجة عن الاحتشام بمقاييس تلك المرحلة، ومتجنباً كل أشكال التكلف والظهور، أو أن توصف بلقب “السيدة الأولى” بل زوجة الرئيس، ولم تنل خلال سنوات حكم زوجها أي امتياز يفوق كونها زوجة الرئيس، ليقتصر دورها في حياة الرئيس الراحل على كونها زوجته وأم أبنائه.
وتأكيداً لنزوعه المواطني والعدالي، اختار الرئيس ناصر السيدة “حكمت أبو زيد” وزيرة دولة للشؤون الاجتماعية كأول سيدة تتقلد هذا المنصب في مصر، وكان الاختيار بناء على معيار الكفاءة والتميز. وكما تروي أستاذة علم الاجتماع السياسي، هدى زكريا إنها كانت ترافقه في جولاته، ومع أنها لم تُسمَّ سيّدة مصر الأولى، لكنها منحت صلاحياتها في استقبال المسؤولين الدوليين وحضور المناسبات الرسمية والاجتماعات.
جيهان السادات وسوزان مبارك… شراهة السلطة
متأثرة بثقافتها الغربية واطلاعاتها بحكم النشأة، حرصت السيدة “جيهان صفوت رؤوف السادات” على الخروج من إطار صورة زوجة الرئيس التقليدية التي رسختها السيدة تحية كاظم، نحو ممارسة دور السيدة الأولى بكامل مزايا ومهام هذا الموقع غير الرسمي، الذي كانت تعتبره “وظيفة” لها واجبات يجب القيام بها على أتم وجه. ولعل قوة شخصية السيدة جيهان وقوة إرادتها، ساهما في ترسيخ صورة السيدة الأولى القادرة والأكثر سطوة في تاريخ الرئاسات العربية، فقد كانت تدأب على الظهور الإعلامي المتلفز، وأبدت مساهمة في تمرير قانون الأحوال الشخصية رقم 44 سنة 1979 في مجلس الشعب المصري، وكان يحيل إلى أن الدارة أو البيت من حق الزوجة، وعُرف بـ” قانون جيهان”.
وانطبعت سلوكياتها في الوجدان المصري بالطابع “الفرنجي” وأجواء البذخ الاستفزازية التي عاشتها مع نظيراتها في عالم الثروة الصاعد في السبعينيات، ولابد أنها عاشت ظروفاً استثنائية في مرحلة قيادة السادات لمصر بكل مافيها من حرب وسلام زائف، واستقطاب اجتماعي حاد في مصر، وحتى بعد مقتل زوجها 1981 لم تتخل السيدة جيهان السادات عن الظهور في المناسبات والبرامج الحوارية، والدفاع عن سياسات مرحلة زوجها.
وباستمرار نقطي لمسيرة السيدة جيهان، كانت مسيرة “الهانم” سوزان مبارك كسيدة مصر الأولى لفترة طويلة (1981-2011). تلقت سوزان مبارك تعليماً عالياً بالجامعة الأمريكية، وقد أقحمت نفسها بحكم موقعها كسيدة أولى، في مجال اهتمام المجتمع المدني، سواء في القطاع النسائي أو التربوي، فضلاً عن الأنشطة الثقافية، وحملات محو الأمية التي لم تفلح في تحقيق سياساتها على أية حال، وترأست المركز القومي للطفولة والأمومة. لكن أجواء الفساد التي عمت مصر من رأس الهرم “المباركي” إلى الشارع، أدخلت سيدة مصر الأولى في عفونتها ومناخها السيء، وهذا ما تكشف بعد ثورة 25 يناير، إذ قرر جهاز الكسب غير المشروع حبس سوزان مبارك لمدة 15 يوماً على ذمة التحقيق لاتهامها بالثراء غير المشروع.
ليلى الطرابلسي.. سيدة الفساد الأولى
النموذج الأكثر ابتذالاً لموقع السيدة الأولى فساداً واستغلال نفوذ، زوجة الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، الذي كان جذراً لأي فساد في تونس، لدرجة تخطت فيها كل الاعتبارات والحدود، وفي تآزر عائلي ساهم فيه أقرباؤها وأخوتها تحديداً، باستحواذ على مقدرات الاقتصاد التونسي. وبعيداً عن تفاصيل فساد “ليلى زين العابدين” وعائلتها التي زكمت الأنوف برائحتها، وأجبرت فعاليات اقتصادية للهرب برؤوس أموالها خارج البلاد، أوالاقتصار على فعاليات اقتصادية محدودة، أجبرت الكثير من التجار ورجال الأعمال على تبني شعار”كن صغيراً” كي يكونوا في منأى عن أنياب ليلى علي وأخوتها، فضلاً عن زوجها الديكتاتوري الفاسد.
خاتمة
غالبا ما ارتبط موقع السيدة الأولى في عالمنا العربي بالاستغلال الأقصى للنفوذ. لابد للديكتاتورية من القوة الناعمة ولمسات الأنثى، على الأرجح أنه لم يخطر في تفكير مدام واشنطن ما سيتطور اليه موقع السيدة الأولى، وما سيؤول إليه من استغلال نفوذ وإدارة فساد، وتعدٍ على الحريات وإهانة الكرامات في ظل دول ونظم تفتقد الرقابة والمساءلة القانونية.