تماضر نور الدين/feministconsciousnessrevolution- “لاحول ولا قوة الا بالله، واضربوهن ضربا غير مبرح” عبارة قالها أحد مستخدمي فيسبوك ردّاً على منشور رُوِيَت فيه القصة المؤلمة لامرأة تمّ الاعتداء عليها من قِبَل زوجها بأداة حادّة “سيف” مما تسبّب لها بجراح بالغة في منطقة الرقبة ومناطق أخرى في الجسم. وعلى الأغلب لن يُعاقب المجرم، فقد تمكّن من الخروج بكفالة، رغم ارتكابه لجريمة لا يمتدّ ضررها إلى الضحية فقط، بل إلى المجتمع كافة.
هذه ليست قصة وحيدة لرجلٍ قرّر أن يتصرّف بوحشية مع زوجته، فلنا تاريخ وواقع حافلان بالقصص المماثلة، حيث أقدم رجلٌ على حرق وجه زوجته؛ مما أفقدها البصر وتسبّب بضررٍ كامل لأنسجة الوجه والكتفين. كما قام آخر بـ قتل زوجته ودفنها في الفناء المنزلي؛ لأنها حسب روايته رفضت إحضار الماء له وكان مخموراً، فقام بضربها بمعول في مؤخرة رأسها، مما أدى لوفاتها.
ولا تنتهي القصص المحزنة التي تترجم القيم الذكورية العنيفة عند هذا الحد، بل إنّ معظم جرائم العنف الأُسري لايتم التبليغ عنها بسبب عدم وجود سياسات خارج المنظومة الأبوية يمكن أن تلجأ لها الضحايا. ويبقى السؤال مطروحاً عن الأسباب التي تجعل ظاهرة إجرامية كالعنف الأُسري والزوجي مترسّخة في جذور جميع المجتمعات تقريباً وخاصة الناطقة بالعربية؟
العنف القائم على النوع في السودان
العنف هنا ليس ظاهرة معزولة ولا خاصة بذلك الذي يُمارسه الأزواج تجاه شريكاتهم، بل متجذّراً في البنية الأُسرية؛ حيث تعيش النساء عنفاً ممنهجاً، سواء من طرف الآباء أو الإخوة وفي حالات عدّة من أيّ قريبٍ ذَكَر. وذلك يعود لطبيعة المؤسسة الأُسرية التي تتأسّس على قيم العنف، مثل التحكّم في حياة النساء والوصاية عليهنّ، واعتبار أنّه يحقّ لرجال العائلة ضربهنّ. وهذا ينتهي في حالات كثيرة بالقتل.
في تعريف ويكي الجندر للعنف الأُسري نجد: “العنف الأُسري أو العنف المنزلي (بالإنجليزية: Domestic violence) هو العنف الذي يوجّهه أحد الأشخاص إلى أفراد أُسرته. ويتضمّن العنف في العلاقات الحميمية بين الزوج وزوجته، أو بين الزوج وطليقَته، كما يتضمّن العنف ضدّ الأطفال أو القُصَّر داخل الأسرة. يمكن للعنف الأُسري أن يكون عنفاً جسديّاً أو شفهيّاً أو نفسيّاً أو جنسيّاً أو دينيّاً. وتختلف طبيعة هذا العنف، فيُمكن أن يكون عنفاً لفظيّاً، كالإساءة أو تهديد بالعنف أو المطاردة، أو أن يصل إلى العنف الجسدي، مثل الضرب و الاغتصاب الزوجي أو ختان الإناث وجرائم الشرف، وتصل بعض الحالات إلى التسبّب في قتل الضحية.
عالمياً أغلب ضحايا العنف الأُسري هم من النساء. وتؤكّد بعض الأبحاث أنّ هناك علاقة مباشرة بين مقدار المساواة الجنسية ومعدّلات العنف الأُسرية في المجتمعات. ويُعتبر العنف الأُسري من أكثر الجرائم التي لا يتم التبليغ عنها من قبل النساء أو الرجال، على مستوى العالم، لإعتقاد الكثير من الناس أنّ العنف الأُسري مقبول به ومبرّر، ويندرج تحت مفهوم “المشاكل الأُسريّة”.
ويُظهر تزايد حالات العنف القائم على النوع في السودان أنّ غياب قوانين واضحة ومحدّدة لردع جرائم العنف، يتسبّب في استمرارها. لكن عند الحديث عن ظاهرة بنيوية كالعنف تحرّكها قيم ومؤسسات ومنظومة أبوية متجذّرة، تصبح القوانين لوحدها لا تكفي للحدّ منها، إذ أنّ المفاهيم المغلوطة التي تتأسّس عليها الرجولة “الذُكورة السامّة/ toxic masculinity” تعمل على تنشئة الذكور منذ الصغر على تقبّل العنف وممارسته، وترسّخ فيهم أنّ رفض العنف وقيّمه، يُمَثّل انتقاصاً من “رجولتهم” التي تتركّز في التسلّط على نساء العائلة. ولايحقّ لأحد الإعتراض على مايقوله “الرجل”، وإلا اتخذ من العنف الوسيلة الأفضل للرد.
هذا إلى جانب الهيكلة المجتمعية التي تجعل الرجل منذ صغره وصيّاً على النساء المُحيطات به، وتنتقل هذه السلطة لتشكّل علاقاته بكلّ امرأة خارج محيطه؛ مثل الزوجة والجارة والزميلة والغريبات في الشارع.
وللعنف القائم على النوع الاجتماعي أوجه عدّة تتجذّر في كلّ ما يحيط بالمرأة في النظام الأبوي، حيث تبدأ بالعنف الرمزي الذي يجعل الأسرة تقوم على التمييز الذي يُفاضل بين الإناث والذكور، حيث تترسّخ الفوارق في اللعب والعمل المنزلي، وحقّ التعليم والخروج، كما يمنح للأخ والأب حقّ الوصاية على قرار وحياة نساء العائلة. وتظهر السلوكات العنيفة التي تؤدّي للأذى مثل التهديد والتخويف والمنع من أبسط الأنشطة وفرض نمط حياة محدّد على المرأة.
العنف المادّي(الاقتصادي) والذي يتمثّل في منع الأنثى من حقّ التعليم أو الحصول على وظيفة أو حتى التحكّم في دخلها إن وجد، للسيطرة عليها مالياً.
وينتقّل العنف ليأخذ أشكالاً أكثر تسلّطاً كالعنف الجسدي مثل، الضرب المُبرح والركل والصفع والحبس، الذي يُلحق بالضحية أضراراً جسيمة قد تؤدّي للموت.
كما يوجد العنف الجنسي الذي يعتبر أحد أكثر أنواع العنف تجذّراً في مجتمعنا، ويتضمّن الاعتداء الجنسي كالتحرّش والاغتصاب -تمّ استخدام الاغتصاب كسلاح حرب على النازحات في دارفور- والاغتصاب الزوجي (والذي بالمناسبة رغم آثاره النفسية والجسدية الجسيمة كالحمل غير المرغوب فيه، ليس مُجَرَّماً في القانون السوداني). وجميع أنواع الاعتداء الجنسي تعدّ طرقاً لفرض السيطرة والإذلال.
كما توجد أنواع أخرى من العنف الجنسي تهدف للسيطرة على جنسانية النساء؛ مثل تشويه الأعضاء التناسلية للإناث “الختان”، الذي تمّ تجريمه منذ فترة وجيزة في السودان. ولكنه لايزال يحتاج لآليات مراقبة تضمن عدم حدوثه سراً.
وقد يكون العنف لفظياً كالزجر والتهديد واللوم المتواصل وإلقاء العبارات التي بعرف المعنف أنها مؤذية للضحية في سبيل إفقادها لثقتها بنفسها والتحكّم بها.
كما يُسبّب العنف الأُسري العديد من الاضطرابات النفسية، كالقلق وعدم الأمان ونوبات الهلع واضطراب مابعد الصدمة، والتي بدورها تؤثّر في حياة الضحية وتفاعلاتها مع المجتمع على المدى الطويل. ناهيك عن العنف الجسدي الذي قد يسبّب أضراراً جسدية دائمة تمتدّ للأطفال في حال وجودهم، وتجعل الضحية أضعف مما كانت عليه كمتلقّية لهذا العنف ثم متضرّرة، مما يضعها في حلقةٍ من الخوف والرعب، يمكن أن تمنعها من طلب المساعدة. كما أن هذه الندوب تشكّل للكثير من الناجيات عائقاً أمام الاندماج مجدداً في الحياة الاجتماعية.
لماذا لا تبلّغ الضحايا عن العنف؟
يظنّ الكثيرون والكثيرات أنّ العنف سينتهي بمجرد التبليغ عنه، وعند ظهور أي حالة تعنيف؛ تحدث نقاشات لا تخرج الكثير منها عن لوم الضحية والسؤال لماذا لم تبلّغ؟
وهذا مايجعلنا نوضح أنّ عدم إبلاغ المرأة عن العنف يعود لعدّة أسباب، منها:
ما هو مؤسساتي؛ يعود لغياب دور الدولة أو قصور الإجراءات والقوانين التي توجّه عادةً لقضايا العنف الأُسري، حيث لاتوجد وحدات مختصة وملمّة بواقع العنف للتعامل مع هذه القضايا. وغالباً ماتواجه الضحية إغلاقًا لملفها تحت بند أنّ العنف الأسري مجرّد “مشاكل عائلية”، مما أدى لفقدان الثقة في هذه المؤسسات ولخوف الضحايا من الانتقام. كما تغيب المساعدات التي تتمثّل في المرافقة الاجتماعية والنفسية، والتي يُعَدّ وجودها ضرورياً لمساعدة الضحية على الاندماج وتشجيعها على التبليغ.
من جهةٍ أخرى؛ يقف الوصم الاجتماعي للضحية وغياب الدعم الأُسري كحاجز إضافي أمام قدرتها على التبليغ.
ففي المجتمعات الأبوية كالسودان، يكون العنف جزءاً متأصّلاً من ثقافتها لضمان استمرار المنظومة، وفي حالات كثيرة تقوم الأُسر بتجاهل نسائها وترفض دعمهنّ، فعند حدوث تصرّف عنيف من الشريك، قد تقرّر الضحية بوضوح الرفض القاطع له، ولكنّ رفضها يُقابَل بهمهمات اللوم من المجتمع والأسرة الكبيرة، فتكون مضطرةً للعودة أدراجها تحت جناح معنِّفِها.
وللعنف القائم على النوع أبعاد كثيرة، ولكن من أهم الأشياء التي تؤثّر في استقرار الضحية هي افتقار الدعم العائلي، لأسباب كثيرة أهمّها كون أنّ العنف المنزلي تجاه المرأة يعدّ مقبولاً اجتماعياً ودينياً في السودان، وهو وسيلة من وسائل التأديب وتقويم السلوك، كما هو الحال في “التعامل مع المرأة الناشز” في بعض تفاسير الشرع، أو الحمولات المجتمعية كتعريف الرجولة الذي يتمثّل في فرض كامل الهيمنة على النساء من قبل رجال الأسرة، باعتبار النساء هنّ “الحلقة الأضعف”. فبالتالي تزيد فرص اضطهادهنّ، مما لا يترك للمعنَّفة خياراً آخر يحول دون مقاساة كلّ هذا العذاب كاللجوء للشرطة أو لأفراد العائلة. فتكون بين مطرقة معنِّفها وسندان عائلتها، التي لا يوجد في قاموسها ما يمنع الرجل من ممارسة القليل من السلطة كدور طبيعي في المجتمع، هذا بالإضافة إلى خوفهم من أن تعود ابنتهم إلى بيت أهلها فيظنّ الباقون أن بها “عيباً”، وتصبح ابنتهم “المُطلَّقة” سيرةً على كلّ لسان. وذلك ما لا يمكنهم السماح له بالحدوث نظراً للقيم الذكورية التي تقلّل من قدر المرأة المُطلَّقة. فتجدهم يُلقون بعباراتٍ تبعث على الخنوع والاستسلام في نفس الضحية: “دائما ما يكون الرجل على حق”، أو “دا راجلك وأبو عيالك استحمليو”، أو “يقولو علينا شنو لو بتنا جات راجعة من بيت راجلها؟”.
كلّ هذا يُضاف عليه تدهور الأوضاع الاقتصادية للبلاد، التي تُلقي بحمل مضاعف على النساء، خصوصاً مع عدم استقلال العديد منهنّ نتيجةً لبنية المجتمع الثقافية التي تقسّم الأدوار جندرياً في عمليةٍ يتولّى فيها الرجل عبء الأحمال الاقتصادية، ويحتكر فيها السلطة الرمزية التي تمكّنه من إحكام قبضته على زوجته.
فعدم حصول النساء على فرصٍ كافية لكسب العيش، تعرّضهنّ لضغوطات اجتماعية كبيرة وعنف أكبر. هذا بالإضافة إلى أنّ عدداً كبيراً منهنّ يُمنَعنَ من حقّ العمل من طرف الزوج أو من رجال العائلة. لذلك لاتستطيع العديدات الحديث إطلاقاً خوفاً من البقاء دون مُعيل، ورغبةً منهنّ أيضاً في حماية أطفالهنّ أو استقرارهنّ المادي، والذين بدورهم قد يتعرّضون للتعنيف من قبل ربّ الأُسرة.
على الرغم من أن قدراً لايُستهان به من النساء العاملات هنّ من يحملن مسؤولية بيوتهنّ، ولكن دائماً مايُعتَبر عمل المرأة أقلّ أهميةً من عمل الرجل، وفي الغالب لايغيّر من شكل العلاقة الهرمية داخل المنزل، فنسبٌ كبيرة من النساء العاملات يعُدن للبيت لنفس الدور الجندري الذي لَحِقَ بهنّ قسراً، وهو الأعمال المنزلية والتربية، وفي أوقات كثيرة يمكن أن تُمنَع من أبسط الحقوق وتتعرّض للعنف ولاتجد مخرجاً منه.
وتشكّل أيضاً عدم مقدرة العديد من الفتيات على استكمال تعليمهنّ لأسباب اقتصادية أو دينية عقبةً اضافية تضع المرأة في حلقة مستمرة من التهميش والقمع.
هذه بعضٌ من العوامل التي تُساعدنا في محاولة فهم مايدفع ضحية العنف الأُسري إلى التغاضي عن تصرّفات المجرم أو عدم اللجوء إلى الشرطة، نتيجةً لغياب القوانين الرادعة أو عدم وجود نظام حماية متكامل يؤمّن وضع المرأة من جميع النواحي في حال استقلالها عن المعنِّف.
ومن المتوقع أن تزداد حالات العنف المنزلي في أوضاع اعتيادية مثل الفقر، أو أوضاع استثنائية مثل الحجر الصحي الإلزامي أو في معسكرات النازحين، حيث تكون الضحية مجبَرة على قضاء أوقات طويلة مع معنِّفها مستقبلةً تقلّباته وأزماته النفسية على شكل زجر وتهديد، وأحياناً بعض اللكمات والضربات.
مما يستوجب على الدولة وضع قوانين رادعة تساهم في إنهاء العنف المنزلي بشكل فعّال، وعدم التساهل في هكذا جريمة بحقّ النساء. لذلك يجب على القضاء السوداني أن يُولي اهتماماً بالغاً لهذه القضية ولضرورة الحدّ منها وقطع كلّ السبل إليها. وأيضاً، تسهيل خطوات الحصول على خدمة الخط الساخن للحماية من العنف المنزلي، ونشر الأرقام المختصة على نطاقٍ واسع، والتأكّد من فاعليتها خصوصاً الآن، نظراً لحساسية الأوضاع الصحية التي تمرّ بها البلاد بسبب الجائحة، مع ضرورة توفير ملاجئ آمنة للمعنَّفات وتقديم الدعم المالي والمعنوي لهنّ. فلا يجب على النساء مجابهة خطرين قاتلين في وقتٍ واحد!
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.
اخوي ضربني واعتدا على عايزه اقاضيهو
الرجاء البحث عن والتواصل مع منظمات نسوية تقدّم الدعم النفسي والقانوني في المنطقة الجغرافية التي تسكنين فيها، وإبلاغهم عن تفاصيل الحالة، والطلب منهم أن يقوموا بالإجراءات والتدابير اللازمة.