هديل عطالله/ مجلة (ميم)- لطالما تمنت ريتا باريش لو أنها خلقت لهذا العمل وحسب؛ ولكن لا متسع من الوقت؛ فهي تعمل موظفة بدوام كامل في أحد مصارف ألمانيا؛ كما أنها تدّرس مادة التواصل بين الثقافات في جامعة فرانكفورت التطبيقية؛ ناهيك عن انشغالها بالترجمة؛ ولو كان الأمر بيدها لقالت كلمة الفصل: “أريد التفرغ للتدوين وإجراء الأبحاث حول الطعام؛ إنه أكثر ما أحب فعله”.
هي الباحثة في شؤون المطبخ السوري التي ذاع صيتها في السنوات الأخيرة بعد تأسيسها لمجموعة “مطبخ غربة” على مواقع التواصل الاجتماعي ومنذ ذلك الحين وقعت في حب الكتابة عن الطعام مستندة إلى معايير المنهج العلمي.
ضيفتنا التي عاشت أحلى أيام حياتها في “الشام” ثم انتهى بها الحال في شقة باردة ببلاد المهجر؛ تحكي عن التفاصيل المشوقة للطعام الذي يعد من الموضوعات الأثيرة لدى الشعوب العربية؛ مستهلة حديثا تفوح منه أطايب النكهات: “جميعنا لدينا ذكريات طفولية مع دفء العائلة فيما يخص الطعام؛ ولو تأملناه قليلاً لوجدنا أنه من أكثر الأشياء التي تجمعنا وتحيي ذكرياتنا؛ فهو حاضرٌ في كل آن ومناسبة؛ ولا يقتصر حضوره على العائلة بل يمتد إلى المحيطين بنا مثل بائع الفلافل أو بائع الحليب الذي كان يأتي إلى الدار؛ أو البقال؛ وهكذا يكمن جماله في التفاصيل الصغيرة”.
موهبتان مختلفتان
في عمر السادسة عشر ربيعاً بدأت ريتا تستمتع بإعداد الطعام مع أمها؛ لتكون هي المنبع الأول الذي استقت منه أولى معارفها المطبخية.. تعود إلى الأوراق الغضة التي خبأتّها بعناية في قلبها لتفضي لــمجلة ميم:
“معظم الفتيات في العالم العربي يدخلن المطبخ في سن مبكرة تيمنا بالأم والجدة؛ ولحسن الحظ أننا أصبحنا نرى العديد من الرجال يدخلون المطبخ ولم يعد الأمر حكراً على النساء؛ لا يفارق ذاكرتي مشهد والدي حين كان يدخل المنزل محملاً بأكياس الخضراوات؛ إنه حتى اللحظة لا يحب العودة خالي الوفاض؛ ؛ كنت دائما في حالة تحدي مع الزمن لتدبر أمر هذه الكميات الكبيرة قبل أن تذبل؛ مُسارعةً إلى الاطلاع على وصفات جديدة لم تكن أمي تطهوها.
ولاحقاً حين أخذت أسافر لزيارة أصدقائي في دول الاغتراب أو بهدف السياحة كان يسحرني موضوع الطعام وتقاليد المطبخ في كل بلد؛ هؤلاء الأصدقاء لفتوا انتباهي إلى البدائل التي كانوا يستخدمونها عوضاً عن المكونات المعتادة؛ لقد أثار الأمر اهتمامي ومن هنا بدأ الشغف يتولد لدي؛ كنت كلما سافرت إلى مدينة أجلب بهاراتها؛ وأتعلم بعض الوصفات منها وبالمواد المتاحة في سورية في ذلك الوقت أحضرّها”.
تساءلتُ عن عنصر الدهشة في موضوع الطعام؛ فقالت ريتا بكل حماس: “إن الاطلاع على ثقافات الشعوب الأخرى عبر السفر حتماً يثير الدهشة؛ ناهيك عن عامل التاريخ والجغرافية الذي يشكل ذائقة شعب ما واختياراته الغذائية؛ إنه حقاً عالم قائم بذاته ومجال خصب للبحث؛ نتفحص فيه إن كان هناك تأثير قادم من مكانٍ ما وهو ما أدى إلى هذه النتيجة أو تلك؛ يمكنني القول أنه بعد الاغتراب رأيت العالم بمنظور أوسع وأكثر شمولية؛ اكتشفت أنه عندما يعيش الإنسان في بلده يكتفي بما لديه من أطعمة سوقية لذيذة او تلك المنزلية التي يحضرها الاهل والأقارب ولا يفكر في تبني طرق أخرى أو عادات جديدة؛ الآن أدركت جيداً معنى (العالم قرية صغيرة)”.
وبتسلسلٍ شائق تواصل الحديث لــ مراسلة “ميم” عن اكتشافات ربما لا يأخذها بعض على محمل الجد: “بعد تجربة “مطبخ غربة” تبين أننا السوريين لم نعرف بعضنا بما يكفي؛ فمن يعيش في دمشق لم يعرف ابن البادية أو ابن الفرات؛ وابن حمص يكاد لا يعرف شيئا عن العادات الغذائية لأهل الرقة؛ حقيقة أنا مدينة للكثيرين من أعضاء هذا المطبخ فقد علموني ما كنت أجهله عن مطابخنا العريقة؛ مثل مطبخ دير الزور والسويداء وحوران؛ والقائمة تطول”.
و”مطبخ غربة” الذي بادرت ريتا إلى إطلاقه؛ هو جروب متخصص بالطبخات المنزلية السورية التقليدية المعدّة في بلاد المُغترب بهدف مشاركة الخبرات وإحياء تراث المطبخ السوري؛ وتجاوز الصعوبات بإيجاد مواد بديلة للمكونات المطلوبة.
(هناك فرقٌ بين من يكتب عن الطعام وبين من يطهوه؛ تُرى أين يكمن؟)؛ تُغلّف صوتها البعيد بابتسامة رقيقة ثم تقول: “هما موهبتان مختلفتان؛ وقابلتان للتمرس والإتقان من الجميع إن وُجدت البذرة؛ حسناً الطبخ هو نَفس واهتمام بينما الكتابة تحتاج إلى ذائقةٍ وقراءة مستمرة؛ ذلك أن تقنيات الأولى تختلف عن الثانية؛ وليس بالضرورة أن من يكتب عن الطعام هو أفضل طاهي؛ إلا أنه من المهم استمتاعه بشئون الطعام فيلّم بدقائق تحضيره ويدرك الفوارق بين المكونات وكذلك الطرق؛ ناهيك عن معرفته بالتاريخ والجغرافيا وغيرها من الجوانب المتعلقة بالطعام”.
تُواصل الحديث: “يمكننا القول أن الطبخ فنٌ وأيمّا فن؛ أما الكتابة فهي جهد علمي بحثي؛ وأرى أن أي شخص يمكنه أن يكون باحثا في هذا الحقل إذا كان يمتلك الأدوات العلمية والمنهج المناسب”.
وتلفت الانتباه أن البحث في الأطعمة يندرج ضمن أحد بنود العلوم الإنسانية وهو الأنثروبولوجيا؛ وهو “علم الإنسان” الذي يدرس كل ما يتعلق به من ظواهر؛ إذ يبحث جزء منه في العادات والتقاليد ومنها الطبخ؛ والذي بدوره يرتبط بعلوم أخرى مثل علم النبات والمناخ والحيوان والتاريخ والآثار؛ وكذلك “علم الميكروبيولوجي”؛ ويقصد به التخمر والتغيرات التي تطرأ على المواد وتؤدي إلى فساد الطعام أو حفظه؛ مثل الحفظ الملحي أو الدهني أو الهوائي؛ كالحفظ بالسكر أو الكحول”.
استعادة التوازن النفسي
تُرى ما أبرز الجهود التي بذلتها المغتربة السورية ريتا بالرغم من مشاغلها الكثيرة؟ تبدو الثقة واضحة في نبرتها؛ حين تقول: “من الإنجازات الجميلة التي أفخر بها إعدادي لبرنامج “ألف طبخة وطبخة”؛ فقد رحب أعضاء مجموعة “مطبخ غربة” أن يروا ذكرياتهم وأطباق مناطقهم التي تعود إليها أصولهم؛ على أن أقوم بتحضيرها بنفسي للجمهور؛ و ما استرعى انتباهي كم الوصفات التي لم يسبق لي أن طبختها؛ على سبيل المثال معجنات “المجامر” اللذيذة من مدينة يبرود؛ وقد سنحت لي الفرصة لمراتٍ عديدة أن أتذوّقها أثناء تواجدي في سورية؛ وكذلك هناك طبق “البرغل بالحمص” وتشتهر به جبال الساحل التي تقع إلى الغرب من محافظة إدلب حيث يؤكل مع الزيت العكر “زيت خريج” والطماطم الطازجة؛ بالإضافة إلى “حلاوة طحين” التي تُحضّر في دير الزور”.
وتزداد ابتسامتها نصاعة أمام نتيجة تسر الخاطر: “يسعدني أن أشهد الآن تبادلنا الوصفات فيما بيننا؛ وحديثنا معاً عن تاريخنا وذكرياتنا بالرغم من المآساة التي تعيشها سورية؛ ربما بذلك نتجاوز صعوبة الغربة؛ وعلها تكون عملية شفاء وتصالح مع الماضي وذكرياته؛ برأيّ أن الطعام وسيلة جيدة لاستعادة التوازن النفسي”.
“الفليفلة” فكرة بحث جذاب تنشغل ريتا حالياً بها مفصحة عن مغزاها: “هذه الثمرة جاءتنا من أمريكا ومن ثم انتشرت في أماكن مختلفة في العالم؛ هناك شعوب رفضت تناولها وأبعدت مطابخها عنها؛ فيما شعوب أخرى أحبتها إلى درجة العشق والهيام مثل أهالي مدينة حلب؛ هي تُعرف بــ الشطة أو الفلفل الحار؛ وصلت إلى المنطقة العربية منذ 150 عام؛ وبحثي يدور حول كيف تلقّفت الشعوب الفليفلة وماذا حضرّوا منها؛ إذ تتعدد استخداماته مثل التخليل؛ أو خلطه مع الخل أو الثوم؛ إنه موضوع مذهل؛ وآمل أن يسعفني الوقت لأقرأ المزيد عنه؛ إذ أن المطبخ العربي شهد تغيرات كبيرة على مر العصور بسبب تغير المناخ واكتشاف محاصيل زراعية جديدة”.
“ترى في أيهما نَفَسك أقوى: الكتابة أم الطبخ؟”؛ تصمت ريتا قليلا ثم تجيب: “تقريبا الطبخ أمارسه كل يوم؛ أما الكتابة أمرها إلى حدٍ ما صعب يا هديل؛ لا سيما عندما أبدأ بمقاربة الموضوع؛ ريثما استجمع الأفكار في رأسي وأفرغها رويدا رويدا على الورق؛ وغالباً لا أعرف أين أبدأ؛ على الأقل في “الطبخة” يعرف المرء من أين عليه البدء؛ كغسل الثمار وتقشيرها وتحمية الزيت”.
وحول مدى تميز أعضاء “مطبخ غربة”؛ تحاول أن تقدم في حقهم شهادة نزيهة: “أعضاء كثر يثقفون أنفسهم بشكل مستمر ويقدمون معلومات صائبة بعد التحقق منها ويبحثون ويهتمون بتطوير مهاراتهم؛ وأنا شخصياً أتعلم منهم وأرى فيهم بذرة لأعمال جادة حول الطبخ؛ هناك من يبهرني بابتكاراته في الوصفات؛ وبعضهم أصبح محترفا حقاً في تقديم الأطعمة؛ وأخذ يسير على خطى صحيحة عبر تقديم أطباق ترقى إلى مستويات عالمية؛ أتمنى أن أرى أسماء الكثير منهم نجوماً تلمع”.
وتبدي فخرها بربّات البيوت ممن تذهلنها بمعرفتهن الآتية من التجريب وخبرتهن المبنية على البحث؛ “هن يتلاعبن بالمواد المتوفرة ويقدمن نصائحهن كالطهاة” هذا الوصف الذي تجده ريتا يليق بهن.
رز بحليب كل ما برد بطيب
ثمّة فلسفة مشتركة بين الحياة والطعام تشرحها “ضيفتنا” بالقول: “شدني كثيرا الكم الهائل للأمثال الشعبية المرتبطة بالطعام؛ ربما ليست هناك ثقافة أخرى لديها هذا القدر من الأمثال؛ ربما السبب أننا شعب يحب بطنه ويدخل الأطعمة في حِكم الحياة ودقائقها؛ تعجبني مقولة بسيطة المقصود منها التروي والعودة إليها لاحقا عندما تحين الفرصة: “رز بحليب كل ما بِرد بطيب”- أي يصبح أشهى؛ قد يظن بعض أنها نصيحة غذائية؛ لكن يراد بالمثل الانتظار للحصول على نتائج أفضل لاحقاً”.
وعن وسائلها في تطوير أدواتها البحثية؛ تفصح عنها: “على رأسها القراءة المستمرة والإصغاء إلى ما يود الناس معرفته؛ ودعيني أقول أن الأسئلة التي تردني من “مطبخ غربة” تلهمني بالفكرة التالية التي سأكتب عنها؛ أي أنني اتفقد الاحتياجات وابدأ بالبحث مستعينة بما قرأت؛ وقد أجري استطلاعا عن مدى انتشار الظاهرة؛ بأخذ عينة عشوائية تعكس ممارسات الناس واهتماماتهم وكيف يطبخون ومن أين يشترون مكوناتهم وبماذا يستبدلونها؛ طبقا للموضوع الذي سأكتب عنه”.
وتعتز ريتا بقصص النجاح السورية في ألمانيا؛ مستدركة القول: “لكنها مع الأسف قليلة وذلك بسبب صعوبة الحصول على التراخيص اللازمة والمناخ المشجع للمشاريع الخاصة؛ هناك تسهيلات إلا أنها لا ترقى إلى تلك التي تقدم في السويد أو هولندا؛ هناك العديد من الشبان الذين يودون احتراف الطهي يعملون في المطابخ والمطاعم لاكتساب المعرفة العملية وهم بانتظار اللحظة المناسبة ورأس المال والفرصة المواتية للبدء بمشاريعهم؛ في فرنسا هناك نبيل عطار الذي افتتح مطعمه؛ وزينة عبود التي افتتحت شركتها الخاصة في هولندا، علاوة على ملكة جزماتي في ألمانيا”.
وعما قريب سيصدر لــ ريتا كتاباً بمنحة مقدمة من مؤسسة “اتجاهات لدعم الثقافة”؛ وفيه تجمع نحو 20 حكاية تغوص في ذكريات الأشخاص مع أطباق من مناطق مختلفة في وطنها الحبيب؛ وتعلق: “هي حالة عامة ليست متعلقة بي؛ جميعنا نملك ذكريات تواسينا في بلاد الاغتراب”.
ما بين الماضي والحاضر
حديثنا مع بنت دمشق يتشعّب إلى محاور “طازجة” وغير مطروقة؛ تنساب فيه بخفة وبلا سأم؛ فتقول أن البحث في المطبخ ليس حكرا على تخصص محدد أو أشخاص بعينهم؛ طالما أنهم يحترمون المراجع والمصادر التي يستقون منها معلوماتهم.
ومع ذلك تلوحّ بتحذيرٍ مفاده أن التجربة ليست بهذه البساطة؛ فهذا الحقل عرضة للخطأ والصواب كسائر العلوم الإنسانية؛ مضيفة: “في مثل هذا النوع من الظواهر تُجمع الشهادات وتُطابق مع عادات الناس عبر التاريخ مدعمة بالوثائق لمعرفة عمق هذه الظاهرة وقدمها ومقارنتها مع مصادر آتية من أمكنة أخرى لمعرفة أي تأثيرٍ قادم من بلد آخر”.
ولا تمانع أبداً في أن تتاح الكتابة عن المطبخ لكل من هبَّ ودبَّ؛ ضمن ضوابط يجدر الالتزام بها؛ موضحة: “ليس كل ما يتواجد على شبكة الانترنت يصلح لأن نتخذه معلومة صائبة؛ اليوم نرى ما يعرف بـ “مكافحة الأخبار الكاذبة” والعديد من الروايات حول الطبخ تندرج تحت هذا التصنيف؛ لأنها غالبا ما تعتمد على ما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي؛ ويا للأسف أننا لا نتساءل: فلان هل له وزن علمي؟؛ ووفق تجربتي يمكن التصدي لهذه الظاهرة بالعودة إلى مصدر المعلومة وسؤال صاحبها عنها؛ وعدم التسليم بسهولة لكل ما نسمعه أو نقرأه؛ مما يقتضي منا أن نثقف أنفسنا؛ وهكذا يغدو الباب مفتوحا أمام الجميع”.
وتُعرِب عن أملها في أن يلتفت الباحثون إلى هذا المجال؛ لا سيما حين يتوصّلون إلى نظرياتٍ مختلفة مما يثري النقاش ويشجّع على تلاقح الأفكار. فهي تأسف إزاء شح المكتبة العربية في المجالات العلمية وليس فقط الطبخ؛ “بل إن الطعام إلى حدّ ما يُعَدُّ متقدّماً بالنسبة لما تظنّ به مكتبتنا”؛ موضحةً مقصدها: “يتوقّف ذلك على نوعية الكتب التي تُروَّج وتُباع وتلك التي يختارها الجمهور؛ وما يودّ أصحاب دور النشر الاستثمار به؛ فالكتب العلمية والترجمات ليست كثيرة ولا تُواكب آخر الأبحاث”.
وتتمم هذه النقطة: “الطبخ يستحوذ على اهتمام الناس كونه نشاط مهم يزاولونه في أي وقت؛ واليوم تزخر المكتبة العربية بكتب لطهاة ذاع صيتهم في الوطن العربي؛ وبالنسبة لي كتاب الطهي الجيد يقدم معلومة وليست وصفة؛ لأن الوصفات تنشر في المواقع الالكترونية؛ وما يميز الكتاب الجيد القصة التي يرويها وقدرة صاحبه على الربط بأسلوب يشد القارىء؛ بعيداً عن الاستشارات لوصفات يريد تحضيرها؛ العرب عموما يهتمون بالأمر؛ ولكن قلة من كتبت عن المطبخ العربي؛ ومن كتب فإنه استبعد اللغة العربية وبالتالي استدعى نتاجه الترجمة”.
وفي سؤالها عن الكتب القيمة القديمة الخاصة بالطبخ؛ قالت: “وصلتنا العديد من مؤلفات القدماء؛ والعديد من الوصفات نجدها في بطون كتب الرحالة؛ على سبيل المثال ما كتبه يعقوب الحموي؛ وابن بطوطة وابن عساكر وابن جبير؛ وهؤلاء ذكروا بشكلٍ غير مباشر الوصفات؛ طبيب مثل الرازي كتب عن أطعمة المرضي؛ والذي يتناول تركيب الوصفات الطبية؛ وفي العصر العباسي الكثير من الكتب لها عنوان عريض “الطبيخ”؛ وأذكر أن كتابا نشر للمرة الأولى في الأربعينيات من القرن الماضي يتحدث عن البغدادي “طاهي الخليفة العباسي” فقد عرّج على العديد من الأطعمة الرائجة آنذاك والتي تشبه بعض الأطعمة الحالية في طرق تحضيرها”.
وتتطرّق إلى المطبخ الأندلسي الذي يختلف عن نظيره المشرقي: “لننظر إلى زرياب؛ لم يكن فقط موسيقيا بل عالما في فن الحياة والبروتوكول وحسن السلوك والضيافة والغناء والمطبخ والأزياء؛ إنه أحد رواد عصره في مجالات عدة نعلم فقط منها الموسيقى؛ إلا أن ثمة أمور أخرى برع فيها من بينها الطبخ”.
وبكل ما أوتيت من عشق لعبق أهم ركن في “مملكة الإنسان”؛ تشدّد على أهمية التوثيق والتأريخ حتى لا يضيع هذا الجانب الحيوي لدى الشعوب في غياهب الأيام؛ قائلة: “تضيع القصة برحيل رواتها إن لم تدون؛ وهذا هو الحال في الوطن العربي من يمتلك الأدوات والشغف يؤدي المهمة؛ وما دون ذلك تضيع صفحات مهمة من تاريخنا”.
سؤالي الأخير لـ ريتا عن مكانٍ في سورية تحّن إلى أن تفترش أرضه لتأكل بنهمٍ طبقاً أصيلاً؛ تختم حديثها بصوتٍ تسلل الحزن خلف أحباله: “ربما ترفٌ كبير أن نفكّر في زيارة سورية نحن الذين أُبعدنا عنها بسبب الظروف القاسية؛ وإن تناول قطعةٍ من الخبز تحت سقف منزل والدي الذي لله الحمد ما زال قائماً تعادل ولائم العالم كله”.