إسراء صالح/aljumhuriya- استجابةً للأزمة الحالية المرتبطة بتفشّي فيروس كورونا المستجد، وكجزء من المسؤولية المهنية والمجتمعية، وباعتباري صحفية وناشطة نِسوية، قمتُ بتحرير قصة صحفية حول تأثير الأزمة على النساء في سوق العمل والمشاركة الاقتصادية لهنّ في ظلّ الجائحة، وتقدّمتُ بها إلى إحدى المنصّات الإلكترونية لنشرها كجزء من تغطيتي الصحفية لمنظور النوع الاجتماعي خلال الأزمة، لكن فوجِئتُ برفض النشر من الشخص المسؤول لأنّ القصة «تركّز على أوضاع النساء في ظلّ أزمة عامة طالت كلّاً من الرجال والنساء».
ومع تكرار التساؤل، من جهات متعدّدة وأفراد مختلفين، عن أسباب التركيز على أوضاع النساء في ظلّ الأزمة الحالية، قررتُ الكتابة في هذا المقال عن أهمية دور البعد الجندري في تغطية الأزمة الحالية، والحاجة الماسّة لتشجيع انتشار الصحافة النِسوية وتقديم سبل الدعم المختلفة لها.
غالباً ما تبرز في أوقات الأزمات أصوات نسائية مدافعة عن الحق في الحياة الآمنة والكريمة وعدم التمييز، رغم المحاولات العديدة لإسكات وكتم تلك الأصوات من أجل إعلاء صوت الأزمة، وتفنيد الأولويّات التي ليست النساء بالضرورة جزءاً منها، في مجتمعات جعلت دوماً من النساء وقوداً لمعاركها على مرّ الزمان.
لذلك، فإنّ التأثيرات الحقيقية للحركات النسوية تتجلّى في الأزمات، لأنها تأتي كاشفةً لحجم التمييز والعنف الذي تتعرّض له النساء على كافة الأصعدة، مثل ما نعيشه اليوم في مواجهة الوباء العالمي المتعلّق بتفشّي مرض كوفيد-19، الذي اجتاح العالم لتجد النساء أنفسهنَّ يدفعنَ أثماناً إضافية بفضل البُنى المجتمعية الأبويّة، التي فرضت عليهنَّ أدواراً نمطية وضعتهنَّ في الصفوف الأمامية للمخاطر، وجعلتهنَّ الفئة الأكثر هشاشة في مواجهة الجائحة.
بحسب منظمة الصحة العالمية، تظهر الفروق المتعلّقة بالنوع الاجتماعي في الأزمات، ومنها الأوبئة، وفق عدّة محاور رئيسية تتعلّق بالوقت المستَغرَق بعيداً عن المنزل، ومسؤولية رعاية المرضى، وإمكانية الحصول على الرعاية الصحية، بالإضافة إلى المعرفة العلمية حول العلاج، مما يستدعي تسليط ضوءٍ على البعد الخاص بالنوع الاجتماعي. وهنا يتبلور دور الصحافة النِسوية، التي لا تعمل فقط على رفع الوعي بالبعد النِسوي وتثبت حضوره في كافة القضايا الإنسانية، بل يمكنها أيضاً أن تقدّم حلولاً قصيرة وطويلة المدى لمشاكل النساء في المجتمع، كالضغط على المؤسسات الرسمية وغير الرسمية لتوفير خدمات خاصة بالنساء المعنَّفات عبر تكثيف النشر حول قضية العنف المنزلي، أو تقديم خطط استجابة للعاملات باليومية أو العمالة النسائية غير المنتظمة على سبيل المثال.
تقول إيما بوبيرغ، مستشارة النوع الاجتماعي وتطوير البرامج بمؤسسة دعم الإعلام الدولي (IMS) إنه «بلا منظور جندري شامل في سياسات الاستجابة لفيروس كورونا المستجد، سنخاطر بتجاهل النساء والمجموعات المهمَّشة والتنميط في عمليات اتخاذ القرار»، مشيرةً إلى أهمية أن تقدّم وسائل الإعلام صورة أعم وأشمل، غير مقتصرة فقط على إحصاءات المصابين ومعدّلات الوفيات.
وفي المقال الذي نشرته المؤسسة بعنوان «يا وسائل الإعلام، تذكّروا النوع الاجتماعي في تغطيتكم أخبار كوفيد-19» (Media, remember gender in your COVID-19 coverage)، تقول إيما بوبيرغ إنه «ينبغي ألا تكون تغطية الأخبار من منظور جندري قضية جانبية في أيّ وقت- لكن في وقت الأزمات يتحتّم جعلها أولوية، فلو لم تكن كذلك، ستُخاطر وسائل الإعلام بالمساهمة في تعميق الأزمات وسلب المكاسب التي حقّقتها حركة المساواة للنساء في جميع أنحاء العالم»، لذا فعلى وسائل الإعلام أن تلعب دوراً في إيصال أصوات النساء خلال الأزمة الراهنة.
كما توضح إيما أنّ الإعلام يتمتّع بـ«القدرة على إبراز صوت المرأة وعرض أدوارها الفعّالة في مواجهة أزمة كورونا، ودعم مساهمتها في النقاشات العامة، وتحدّي الأنماط الجنسانية ومساءلة أصحاب القرار بشأن حقوق المرأة»، داعيةً وسائل الإعلام إلى أن تستغلّ هذه النقطة الزمنية بالغة الأهمية في دعم المساواة بين الجنسين داخل العمل الإعلامي وخارجه. مؤكّدةً أن ذلك ليس لمصلحة المرأة وحدها، لذلك يجب تشجيع وسائل الإعلام على البحث عن قصص تتعلّق بالمرأة ووجهات نظرها، إلى جانب الاهتمام بالمجموعات الأخرى المستَضعَفة، بالإضافة إلى مراعاة النوع الاجتماعي في عدد الخبراء والمصادر التي تستعين بها، خاصةً أنّ الإحصاءات تشير إلى أنّ تناول النساء في وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة لا يتجاوز 24 بالمئة فقط، و19 بالمئة فقط من الخبراء الذين تستضيفهم وسائل الإعلام من النساء.
وفي ظل الأزمة الراهنة المرتبطة بتفشّي الوباء، برزت العديد من التحدّيات والأعباء على النساء باختلاف مواقعهنّ. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أشارت العديد من الدراسات والتقارير إلى زيادة وتيرة العنف المنزلي ضدّ النساء بكلّ أشكاله بسبب العزل الصحي، واضطرار النساء للبقاء مع معنّفيهنّ في مكانٍ واحد لساعاتٍ أطول، فضلاً عن وضع النساء العاملات في مجال الرعاية الصحية، واللاتي يُشكّلنَ 75% من القوة العاملة في هذا المجال عالمياً، بحسب تقرير مؤسسة دعم الإعلام الدولي (IMS)، إضافةً إلى توليهنّ في الغالب أعباء الرعاية الصحية لأسرهنّ وبيوتهنّ وأطفالهنّ، مما يجعل لهنّ نصيباً كبيراً من الخطر اليومي.
ورغم ذلك، فإنّ سياسات التعامل مع هذه الجائحة غالباً ما يقوم الرجال بتطويرها، حيث يستحوذون على 72% من مناصب الرؤساء التنفيذيين في المجال الصحي في العالم.
إلا أنه، وبرغم أهميتها البالغة، ما زالت الصحافة الحسَّاسة للنوع الاجتماعي تواجه العديد من التحدّيات في ما يتعلّق بإفساح المجال أمامها وتقديم سبل الدعم المختلفة. أذكر على سبيل المثال عندما عرضتُ منذ فترة على زميلٍ لي، يرأس أحد الأقسام في مؤسسة صحفية محلية، أن أقدّم تدريباً لفريق التحرير عن الصحافة النِسوية والتحرير الصحفي من منظور النوع الاجتماعي، فقال لي وقتها «لا يوجد لدينا ما يسمّى بالصحافة النِسوية، وإذا أردتِ يمكنك عمل ذلك بشكل حر خارج المؤسسة».
بالفعل هذا ما أقوم به، أنا وأغلب زميلاتي من الصحفيّات النِسويات، نعمل بشكل حر، أو بالقطعة، مع أي من المنصّات التي يمكنها أن تقبل موضوعاتنا المقتَرحة أحياناً، أو ترفضها أحياناً أخرى كثيرة باعتبارها «منحازة نسوياً»، دون النظر إلى هذا الانحياز باعتباره قائماً على أساس موضوعي، فأغلب المدارس الصحفية لم تتطوّر بالشكل الكافي لفهم منظور النوع الاجتماعي والعدالة الجندرية كأحد جوانب الموضوعية الصحفية، وتمثيل أصوات النساء كخطوة أساسية في مجابهة التمييز القائم ضدّهنّ وخلخلة البنى الأبوية، لذا غالباً ما يُنظَر للصحافة النِسوية على أنها منحازة أو فئوية، بينما هي تراعي إعادة إصلاح موازين القوى المختلّة وليس العكس.
وحيث أنّ الإنتاج الصحفي النِسوي ليس على أجندة معظم المؤسسات والمنصّات الإعلامية التقليدية، ففي ظلّ الأزمة الراهنة لجائحة كورونا تواجه الصحفيات النِسويات عدداً لا بأس به من التحدّيات؛ لعلّ على رأسها التحدّيات المادية في إطار غياب التمويل على المشاريع المهتمة بالإعلام النِسوي، واعتماد الصحفيات بشكل أساسي على العمل بنظام «العمل الحر» أو «الفريلانس»، الذي تحوّلَ في الوقت الحالي إلى رفاهية صعبة المنال، إما بسبب صعوبة التحويلات البنكية بسبب الإغلاق العالمي والهزّة الاقتصادية الدولية، أو بسبب عدم قدرتهنّ على استلام أموالهنّ من المصارف لدواعي العزل الصحي.
هذه التحدّيات المادية تخلق لنا تحدٍ آخر وهو عامل الوقت، ففي ظل عدم توافر فرص للصحافة النِسوية وغياب دعمها داخل المؤسسات، تضطر الصحفيات للعمل في قطاعات أخرى لتحقيق لتأمين العيش، وفي إطار العمل المؤسسي وإشكالياته و«الروتين» الخاص به، بما في ذلك عدد ساعات العمل الطويلة، تنخفض فرص العمل الصحفي النِسوي نظراً لضيق الوقت وتكريس معظمه للعمل من أجل المال.
بالتالي، تزداد أزمة محدودية المحتوى الصحفي النِسوي خلال جائحة كورونا بتحدياتها، رغم أنه الوقت الذي يجب إفراد أولوية للتغطية والمعالجة الصحفية لتأثير الجائحة على أوضاع النساء، وهو ما لم نجد له مجالاً كافياً حتى الآن.
وبما أن الصحافة والإعلام هي أدوات رئيسة في بناء وعي الشعوب وترسيخ الثقافات المجتمعية، وأحد السبل الأساسية في التحوّلات الديمقراطية للمجتمعات، وفي ظلّ ارتفاع المطالبة بإعادة صياغة الأدوار الاجتماعية بما يحقّق العدالة الجندرية، وغياب المنظور الخاص بالنوع الاجتماعي في المنتج الإعلامي الشائع، باتت هناك ضرورة ملحّة لإعلام نِسوي بالدرجة الأولى، يعالج القصور المتجذّر في الإعلام التقليدي ويبرز البعد النِسوي في المعالجات الإعلامية المختلفة.
في ظلّ الأزمة الراهنة، لم تعد الصحافة النِسوية ضرباً من الرفاهية التي تقتصر فقط على الأفراد والمجموعات المستقلّة، بل يتعيّن إفساح المجال أمام إنتاج المزيد من المحتوى الصحفي النِسوي، الذي وفَّرَت الأزمة أرضاً خصبة له ولكل صوت نسائي.
إسراء صالح: صحفية نسوية ومترجمة مصرية مستقلة، حاصلة على ماجستير في الصحافة والإعلام الحديث من معهد الإعلام الأردني.
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.